جدارية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 50
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العنيزي

في النهار تكشف الجدارية عن طميها.. محفوفة بالوجوه الطالعة في الدروب.. محاطة بثرثرة المقاهي.. ونتانة روائح بقايا الأطعمة.. مكللة بعرق ولهاث وحفيف أحلام.. ورائحة خمر محلية تتضوع في الأفواه.. ترنيمة السوق البلدي.. ونسوة يفترشن الأرض.. يبعن البخور والحناء.. الوشق وأعواد القماري.. عيون تغادر محاجرها إلى أجساد مومسات يرتدين الجلاليب.. يضعن الأصباغ على وجوههن بعناية.. ويتطلعن بابتسامات باهتة.. طماطم وبصل.. بقدونس وبطاطا.. فواكه وتمر جالو.. أكياس خبز ساخن.. سمن بلدي وعسل نحل طبيعي.

صديقي ذو النزق المحبب.. يفرك نصف قرش حشيش.. ينفث الدخان من خياشيمه.. يحدق في الجدارية بعينين حمراوين كسولتين ويقول:

بأي حلم تفرح هذه الأرواح؟

الوجوه في المقهى تحاصر الطاولات.. الأصابع تقبض على الأكواب.. والأفواه لا تكف عن الطلبات.. يجيء النادل.. فوق تعب أصابعه يحمل الأكواب.. يمارس عادة ترحيبه اليومية.. وأطلب منه النارجيلة.. صديقي المسطول ينظر إليّ مثل قط كسول ويقول:

ــ الجدارية لا يراها إلا المساطيل.

وأقول له: أنت تهذي.. والتفت إلى حيث ياسمين ترتدي مسحة ليلية.. وتحترق كفراشة فوق قنديل.. تمشط شعرها الذي خالطه البياض.. وتنظر إلى المرآة وتقول لنفسها ـ ظل راجل ولا ظل حيطة.

يجتاز النادل ثلة المتقاعدين الذين يلعبون الورق.. يجئ بالنارجيلة.. يقبض على الجمرة بالملقاط.. يضعها فوق المعسّـل.. أجذب نفسًا عميقـًا.. وتتصاعد فقاقيع الماء محدثة قرقرة في جوف النارجيلة.. تسقط قطرة انتشاء في بئر يقظتي.. تؤجج رتابتي المحنطة.. تؤجل قليلاً حركة المرور في الشارع.. فتدور المدينة عدة دورات حول نفسها بعكس اتجاه عقارب الساعة..

وأجدني ثملاً بحسٍ يقودني صوب أولئك الرائقين.. الذين يستندون إلى شفافيتهم أصافحهم.. وأقول لهم بصوتي المتهدج:

ــ أين أنتم يا أصدقائي الطيبين ؟ ولماذا لم أعد أراكم ؟

تعود حركة المرور في الشارع.. أعود للجدارية.. وصديقي المسطول عيناه ضائعتان.. مثل طفل خاب ظنه عند انتهاء الحكاية.. أحدق في الجدارية.. أين وجوههم التي أعرفها ؟.. وجوههم لا أراها.. عسى المانع خيرًا يا متون الذاكرة.. ياسمين جوقة دائمة.. وتراجيديا لإنسراب الظلال.. وحديث الجسد النافر.. أضعها في كفة ميزان.. وفي الكفة الأخرى أضع مجر آلامي.. في كل صباح تستبدل الزهور الموضوعة في أصيص على طاولة مكتبها.. ويجيء الرجال إلى المكتب ويغادرون.. ويحملون أوراقهم وملفاتهم.. ويصطحبون معهم ظلالهم.. بعد أن يتركوا رائحتهم تعبق في المكتب.. فتتعلق الرائحة بقميص ياسمين وصديريتها وتنورتها وشعرها.

 فوق الرصيف تعرف قدماي مسارها.. الشيوخ يتكئون على العصي.. ويمضون كالسلاحف.. والفتيان يتبخترون.. ويختطفون الأحضان لخيالهم الوارف.. خطواتهم تدق الإسفلت.. خطواتي تدق الإسفلت.. والمسافة أمتار تائهة.. المسافة مجموع خطواتي وخطواتهم التي تدق الإسفلت الخامل.. وياسمين تحث الخطى في طريق عودتها من العمل.. تعرج على بائع الكتب.. تقتني ديوان شعر.. وكتابـًا عن فن إعداد الأكلات.. تمضي خطواتها تدق الإسفلت.. وتظل تحصي الظلال.. ظل كبير وظل صغير.. ظل طويل وظل قصير.. والإسكافي الذي ورث نواميس المخرز.. يطبب بالوخزات بطون الأحذية التي ستدق الإسفلت الخامل..

وفي هدأة الليل.. تنفلت ياسمين من ضجيج إخوتها.. تنتظر نوم أمها.. وتكتب خواطرها عن الحب الأفلاطوني.. وأنا أسند رأسي إلى الوسادة.. فأحلم بوجوه هلامية.. تتجمع مثل قطعان كسولة.. تغوص في طين الرتابة.. وتروي حكايات أشبه بخرافات العجائز.. أقترب من الملامح فأجدها متشابهة لدرجة يصعب معها التمييز بين الوجوه.. وأحدق في العيون فأراها كأسطح بحيرات راكدة.

………………………..                                                                         

*كاتب وقاص من ليبيا

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب