د. أحمد يوسف
فؤاد حجازي(1938-2019) كاتب روائي متميز. جاء تميزه من موقفه الفكري المنحاز إلى قضايا التحرر والديمقراطية والسلام ومن قدرته على تصوير هذا الموقف في أعمال روائية طويلة وقصيرة، وفي أعمال قصصية تنتمي إلى فن القصة القصيرة، وفي أعمال مسرحية. واختار لكتاباته هذه فضاء زمنيا شاسعا تمثل في تاريخ وطنه القريب والبعيد وركز على الإنسان المصري البسيط الذي يواجه تناقضات المجتمع المصري بكل تحولاته، مرة بوعي شديد بقانون هذه التحولات، ومرة أخرى تغلبه حركة هذه التحولات السريعة، فلا يتاح له أن يفهمها أو أن يستبصر موضع قدمه فيها. فيعلو صوته بالرفض. وهذا الإنسان في حالتيه دال قوي على طبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة في هذا المجتمع.
واللافت للنظر أن اختيار الكاتب لم يكن ليخلو من براءة العارف حينما اتجه بأدبه إلى القراء من الكبار بالمعنى الزمني وليس القيمي والمعرفي. وأقصد ببراءة العارف أن هذا العارف حينما يختار يبدو اختياره ــ بسبب قوته الدلالية وبعده عن الدعاية والدعاوى السياسية ـــ كأنه ليس اختيارا قائما على استدعاء لوحة زمنية لتوظيفها توظيفا أدبيا معرفيا في زمن آخر غير زمنها. فاختياره تبدو فيه التلقائية وما هو بتلقائي مثل ابتسامة المحب تبدو فيها البراءة سر جمالها وما هي ببريئة.
وإذا كان هذا هو شأن الكاتب فؤاد حجازي حينما خاطب قارئيه من الكبار، فإنه اتجه بخطابه هذه المرة إلى الصغار من الأطفال يكتب لهم وحدد مرحلة من مراحل الطفولة وهي تلك التي تبدأ من الطفولة المتأخرة وتصل إلى سن الصبا.
ومما لاشك فيه أن هذه المرحلة العمرية مرحلة سنية بالغة الحساسية نظرا لطبيعتها الانتقالية وشدة حساسيتها لكل التغيرات الطارئة على الجسد. كما تمتاز وهذا هو الأهم، بالنهم الكبير إلى المعرفة وكثرة التساؤلات التي يغلب عليها الشك فيما هو مسلم به من الآخرين. إنها فترة تمتاز بأن أصحابها ينفتحون على المجتمع وقد تخلوا عن عفوية القصد إلى إعادة النظر بالشك والتساؤل عن كل نظمه المعرفية والسياسية والدينية. وقد يترتب على ذلك الاصطدام العنيف بين حركتهم العقلية النشيطة القوية وبين طبيعة النظم الاجتماعية التي تميل للثبات وبين ما هو سائد في المجتمع من مناطق مقدسة أو شبه مقدسة.
إن القراء الذين اختار الكاتب أن يكتب لهم ليسوا قراء عاديين ولا هم قراء كسالى ولا تقليديون وإنما هم قراء حركتهم العقلية كحركة خلية النحل لا تهدأ. ولذلك فإن الكاتب حينما فكر في الكتابة لهم، لم يضع في اعتباره، مثل كثير ممن ندبوا أنفسهم للكتابة للأطفال، أنه يخاطب من هم أقل إدراكا ووعيا فمارس عليهم وصاية المعلم وتخلى عن رقة الأديب ولم ينفصل عن فضائه الزمني أو البيئة الطبيعية وجعل مصدره واحدا في خطاب الكبار من القراء وفي خطاب الأطفال، ووعى الفرق الجوهري في البناء الفني إذا كان يكتب رواية مثل (الأسرى يقيمون المتاريس) وبين (الأسد ينظر في المرآة) فاتجه إلى التركيب والتعقيد في بناء الأحداث والمشاهد في الأولى، بينما غلبت البساطة والتركيز على التصوير في المجموعة القصصية(الأسد ينظر في المرآة).
وقد تقدم الكاتب إلى قرائه الجدد بأعمال محددة هي (حكاية الأمير سيف والأميرة شامة) أو(حلوان شامة) و(الأسد ينظر في المرآة) و(شجرة الدر تتلقى الأمانة) و(تعظيم سلام) وهي أعمال أربعة تتفاوت من حيث الحجم فالأول والثالث عملان روائيان والثاني والرابع عملان أقرب إلى القصة القصيرة أو إن شئت فقل الحكاية القصيرة وبهما عدد كبير من الحكايات أو القصص القصيرة.
وإذا كان الكاتب قد اختار شكلين من أشكال التعبير، فإنه لم يفارق مصدره في التعبير وهو استلهام النص التاريخي. ولكن هذا الاستلهام ــ على الرغم من كونه مصدرا متاحا لكل الكتاب والشعراءـــ يفرض علينا سؤالا جوهريا وهو هل للأدب مصدر؟ بمعنى هل نستطيع أن نرد كل شيء في العمل الأدبي إلى مصادره الأولى؟ وإذا افترضنا صحة هذا التساؤل، فماذا يبقى من العمل الأدبي مما يجعلنا نطلق عليه صفة الأدب؟
إن المرجح أن العمل الأدبي مهما يكن نوعه هو العمل الذي يتسع فضاؤه المعرفي والتشكيلي لكل الفضاءات المعرفية الأخرى أعني أنه يستطيع أن يستوعب من كل نظام معرفي ما شاء من عناصر ورموز غير أنها لا تبقى على حالها الأول. فالنص الأدبي ليس نصا مغلقا ولا نصا صادرا عن أصل يحاكيه ولا نصا تكون من عدة روافد ولكنه نص يتسم بخصوصية النظام اللغوي الذي ينتمي إليه وبخصوصية البناء الأدبي للنوع الذي يقع في إطار تقاليده.
وعلى هذا يمكن أن نقول إن مجموع الأجزاء لا يساوي الكل أي أن مجموعة الروافد التي رفدت النص الأدبي لا تساوي كلية النص الأدبي، كما أنها حينما انفصلت عن نظمها الأصلية أصبحت ذات دلالات جديدة متغيرة لا يمكن بحال من الأحوال أن نسلخها من سياقها الجديد ونردها كما هي إلى نظمها الأصلية. ولذلك فإن النص الأدبي لا يحيل إلى مرجع وإنما يشير إلى فضاءات متعددة في التاريخ والاجتماع ومصادر المعرفة المتعددة.
وفؤاد حجازي قد استفاد بلا شك من النص التاريخي وهي استفادة متعمدة وعلى هذا فإن نصه الأدبي المتمثل في مجموعة الأعمال القصصية يشير إلى ذلك ويفارقه. وتأتي المفارقة في زاوية الاختيار التي سنقف عنها وفي طبيعة اللغة.
أما زاوية الاختيار فإنه لم يقف إلا أمام نصين من نصوص التاريخ على اتساعه. النص الأول هو التاريخ المكتوب المعروف ووقف بالتحديد عند فترة زمنية كثر حولها الجدل التاريخي وهي حكم الأيوبيين في مصر وخاصة في نهاية عصرهم عندما توفي الملك الصالح أيوب أثناء اكتساح الصليبيين شرق العالم العربي واعتزامهم الأكيد دخول مصر. وعلى الرغم من بوادر الضعف والتمزق التي كانت قد بدت في جسم الدولة الأيوبية، وعلى الرغم من أن الأيوبيين ومن تلاهم من المماليك لم يكونوا مصريين، فإن الكاتب قد أراد أن يؤكد مقولة أساسية وهي أن مصر لم يدافع عنها إلا المصريون، وأن شجرة الدر مع حنكتها السياسية ودربتها على مواجهة المواقف الصعبة، لم تكن بقادرة على مواجهة المد الصليبي إلى مصر إلا عندما آمنت بأنها مصرية وأن عرشها مهدد ولن يكتب لها البقاء إلا باعتمادها على المصريين دون المماليك أو الأيوبيين.
إن زاوية الاختيار هذه، ولا شك، قراءة جديدة لتاريخ هذه الفترة تتميز عن قراءة المؤرخ الذي لا يعنيه إلا أن يسرد الحدث التاريخي بأدلته ومواثيقه الشاهدة على صحته. ويمكن أن نطلق على هذه القراءة القراءة الأدبية تمييزا لها من القراءة التاريخية. إنها قراءة لا تقف عند حدود الحدث التاريخي المروي، بل تنطلق من إمكان توظيفه ومدى طواعيته لوظيفته الجديدة. ومن ثم فإن قراءة الكاتب لا تتخذ من الماضي باعثا لها، بل تتخذ من الحاضر باعثها الأول. وميزة هذا الباعث دون غيره إزالة ما نتوهمه من فارق زمني بين ماض وحاضر أي إزالة صفة الزمنية عن النص التاريخي وجعله نصا مشاركا في صنع الحاضر وتحديد ملامح المستقبل وذلك عن طريق تحويل النص التاريخي إلى فاعل في النص الأدبي الذي من أهم سماته تجاوز الأزمان واللغات وحواجز العادات والتقاليد وقد تجسد في (شجرة الدر تتلقى الأمانة)
وأما النص الثاني فهو نص غير مكتوب ينتمي إلى لون أدبي شعبي هو السيرة. ومن سماته أنه نص مفتوح بمعنى أنه يقبل الإضافة إليه كما يقبل الحذف منه، وأن القوى الفاعلة فيه ليست دائما قوى بشرية، بل إن هذه القوى تمتلك القدرة على اختراق الحواجز العقلية والمنطقية ومواجهة الخوارق من الأحداث والمواقف أي إن هذه القوى البشرية أصبحت مسكونة بأسرار عوالم الجان والكائنات الغريبة التي لا يحدها المنطق ولا تعرف المألوف.
وإذا كانت السيرة الشعبية نصا أدبيا هذه سماته، فإن لها جانبا تاريخيا صرفا بما كان هو الأصل الذي حيكت حوله كل عوالمها الغريبة واللامألوفة. غير أن هذه الأوصاف التي نطلقها على السيرة لا نقصد بها إدانتها ولا رفضها بل نقصد أن لها منطقا يحكمها وأن الإنسان قد صاغها في حدود ما رآه هو متفقا مع نظرته إلى الكون ومظاهر الطبيعة ومتفقا مع مفهومه عن الأبطال والشخصيات الخارقة.
وقد اختار الكاتب نصا أدبيا تاريخيا هو (سيرة سيف بن ذي يزن) ولأن الكاتب مشغول بفكرة الوطن المصري وهمومه وتاريخه ولأنه يخاطب الطلائع من أبناء هذا الوطن، وأن خطابه كان وراءه منطلقات فكرية أساسها أن الأجهزة الرسمية على الرغم من مزاعمها الاهتمام بالطفل والطفولة وأن كثيرا من الكتاب المشاهير قد سار في ركب هذه المزاعم وأن الطفل بعيد عن تاريخه وماضيه وأن التاريخ إذا قدم ففي قالب منفر ومن زوايا مغرضة ومفروضة، فإن الكاتب فؤاد حجازي قد وقف عند قراءة محددة للسيرة وهي أن سيف بن ذي يزن البطل اليمني المشهور، هو بطل مصري مهموم بقضية وطنه وببنائه وتعميره وبذا أضاف لهذا البطل بعدا قوميا آخر وهو أن سيف قد ارتحل إلى بلاد الروم ليتفاوض معهم بشأن وطنه اليمن عندما غزاه الأحباش، كما ارتحل إلى أبي الهول وتحاورا وتشاكيا وبدا منهما أنهما يعيشان هموما واحدة. فكلاهما رمز وبطل قومي يسعى إلى تخليص وطنه من الأسر. اليمن وطن وقع في اسر الأحباش، ومصر وطن احتجب عنه النيل الذي مصدره الحبشة. وماذا يفيد تحرر اليمن من أسر الأحباش إن لم يتمكن سيف بن ذي يزن من فك أسر كتاب النيل ليمتليء الوطن المصري خيرا ونعمة.
إن الأحباش لهم مصلحة في احتجاب النيل، ففي احتجابه يصير الوطن المصري الواحد أقاليم جدباء ومناطق مهجورة يتقاسمها ملوك الأحباش كما فعلوا باليمن. ومن ثم فإن التوحد القومي في الهدف كان وراء تكوين صورة البطل سيف بن ذي يزن. تلك الرؤية الأدبية هي نفسها الرؤية الأدبية المستمدة من قراءة تاريخ الأيوبيين في مصر. إن مصر لن يحميها إلا المصريون وإن تعددت أزماتها ونام عنها حكامها، كما أن سيف بن ذي يزن لن يحارب الأحباش ويحصل على كتاب النيل المحتجب إلا بالتضامن مع شعب مصر وإقامة حكم ديمقراطي يضمن حرية الفكر والعدالة السياسية والاجتماعية.
ولئن كان الكاتب قد قرأ التاريخ قراءة ضافية جديدة اعتمد عليها في تكوين نصه الأدبي في (شجرة الدر تتلقى الأمانة) وفي (حكاية الأمير سيف والأميرة شامة) فإنه لم ينفصل عن الملاحظة والتأمل بوصفهما وسيلتين من وسائل إدراك الواقع المحيط به ونقصد بالواقع هنا: مظاهر النظام الطبيعي ومظاهر النظام الاجتماعي في مجتمع محدد هو المجتمع المصري. فالطبيعة ذات عوالم متعددة نبات وحيوان وجماد وما في هذه العوالم من تعدد وتمايز داخلي وما يحكمها من قوانين وعلاقات. والطبيعة بهذه الكيفية صورة من صور المجتمع الإنساني الذي لا ينهض ولا يستقر إذا فقد علاقته الحميمة بهذه العوالم الطبيعية ومظاهرها المتجددة والثابتة. إن المجتمع الإنساني قائم على التفاوت في كل شيء معرفيا وطبقيا وبيولوجيا ونفسيا إلا أنه يتميز عن الطبيعة بكونه مجتمعا يعي ذاته ويعي ما حوله من عوالم أخرى ومجتمعات.
والكاتب الجاد يختار من هذه العلاقة بين الإنسان والطبيعة ما يعينه على تصوير أفكاره وتجسيدها كما تعطيه ملاحظته القوية الواعية المعتمدة على الحدس الباطني قرون استشعار نفاذة لالتقاط الموقف الإنساني الممتليء بالقيم الباقية وراء ما هو عابر وبسيط ومألوف.
وقد فعل ذلك فؤاد حجازي عندما جعل المجتمع الإنساني والطبيعي نصا آخر يضاف إلى النص المكتوب تاريخيا. إنه مارس هوايته في القراءة. فالجدل بين الإنسان والطبيعة هو نصه الذي لا يمل من قراءته. والجدل بين الإنسان والمكان والزمان هو نصه التاريخي سواء أكان التاريخ مكتوبا أم غير مكتوب. وإذا كان الواقع الحاضر بكل ما يعتمل فيه هو الأساس المعرفي وراء قراءة النص التاريخي، فإن هذا الواقع أيضا متجادل مع وعي الكاتب في قراءة علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان.
وبناء على ذلك نقول إن التوحد المعرفي عند الكاتب يقف وراء توحد مصادره وإن اختلفت ظاهريا وتباعدت بينها المسافات. فقراءته لتاريخ الأيوبيين في (شجرة الدر تتلقى الأمانة) لا تنفصل عن قراءته تاريخ سيف بن ذي يزن في سيرته ولا ينفصل هذا ولا ذاك عن قراءته جدل الطبيعة والإنسان في (الأسد ينظر في المرآة).
ولكن هل يدفعنا هذا التوحد المعرفي عند الكاتب إلى القول إنه يؤمن بوحدة التراث مع تباين مستوياته واختلاف القوى الفاعلة فيه، كما يؤمن بمجتمعه ووحدته مع تباين مستوياته واختلاف قواه الفاعلة واختلاف قيمها؟ إن ما يؤكد هذا الزعم لدينا أن الكاتب مشغول بما وراء نصه المكتوب. فنصه هذا ليس إلا رسالة ذات أبعاد جمالية ومعرفية تتعاون في الإيحاء والإشارة لهدف أكبر يسعى إليه المجتمع الذي انطلقت منه الرسالة وعادت إليه وهو المجتمع المصري. هذا الهدف هو بناء الديمقراطية بناء سليما بوصفها ركيزة أساسية لمواجهة أعدائه ولإرساء قيم العدالة الاجتماعية وحرية الفكر وحرية التعبير والتنظيم والحركة. إن هذا الهدف قد تجسد في كل قراءة قدمها الكاتب. تجسد في قراءته تاريخ شجرة الدر والأيوبيين وفي قراءته سيرة سيف بن ذي يزن وفي قراءته واقعه الاجتماعي. وعلى هذا فلا فرق عنده بين تراث وتراث. فالتاريخ غير المكتوب هو جزء أساسي من التاريخ المكتوب، والزمن الماضي ليس كما مهملا مقطوعا عن الحاضر بل هو حلقة ممتدة من حلقات الزمن العام، والزمن والإنسان يصنعان دائما الصيرورة التاريخية والاجتماعية. ومع ذلك فإن وحدة التراث وضرورة التغير والتحول لم يمنعا الكاتب من تحديد موقفه المنتمي إلى هدفه وإلى من يحققون هذا الهدف