عبد الرحمن أقريش
كان (سي محمد) صديقي، وكانت هي صديقة لصديقه، في البداية كانا صديقين، ثم أصبحا أكثر من صديقين، أصبحت عشيقته، المغاربة يستعملون كلمة (صاحبتو) صاحبته، وهي كلمة موسومة وغير مهذبة، يحمل فيها الحب والعواطف دوما بصمة الإدانة.
…
لم يكن (سي محمد) وسيما، الآخرون يقولون ذلك، أما أنا فأعتقد أنه وسيم بطريقته الخاصة، فهو إنسان مثقف، لبيب وألمعي، يتمتع بجاذبية خاصة، روحه خفيفة ولديه هذه القدرة على السخرية المرة من ذاته ومن الآخرين.
عن طريقه تعرفت على العشيقين.
…
هي.
اسمها (ثريا)، لاحظوا كم هو جميل اسمها، كانت أستاذة للغة الإنجليزية، تخرجت حديثا، كانت شابة جميلة وناضجة، جميلة جدا، ربما أكثر مما يتحمله بعض الرجال، بشرة سمراء في لون العسل، شعر متحرر بتسريحة على الموضة، عينان كبيرتان، وعنق نافر، قامة فارعة الطول، وجسم رياضي رشيق ينضح بالحياة والرغبة.
كانت دنيوية ومقبلة على الحياة بشكل مدهش.
كانت مغرمة بالعطور والشكولاتة، تلبس على الموضة ولا ترى إلا وهي في كامل أناقتها، أناقة تلامس الحدود القصوى للإغراء والغواية، ملابس شيك، أحذية كعب عال، شالات حرير، حقائب، نظارات وإكسسوارات غالية…
وفي نظري كانت تلك التفاصيل علامة على أنها سيدة تبحث عن السعادة في الحب والمتعة وقضم كعكة الحياة.
…
هو.
رجل ستيني أو يوشك أن يكون، إنسان بسيط، نصف أمي، طيب إلى حد السذاجة، يعمل سائقا لحافلات (الشقوري) للنقل العمومي (أسفار عبدة والنواحي)، هكذا تقول اللائحة المعدنية المثبتة خلف الواجهة الأمامية للحافلة.
عندما رآها للمرة الأولى أعجبته، ثم أحبها، ثم افتتن بها إلى حد الشلل.
في البداية، وكما يحدث عادة في كل القصص العاطفية، سارت الأمور في منحى الصدفة وسياق البساطة، مواعيد، لقاءات، هدايا، مطاعم، مقاهي، سينما وسفر…
…
كانت قصتهما واقعية، ولكنها لم تكن حقيقية، قصة حزينة تسير إلى نهايتها المحتومة سلفا.
مرات كثيرة رأيتهما في المدينة يتجولان، يمشيان جنبا إلى جنب، يدا في يد مثل عاشقين حقيقيين.
وفي كل مرة كنت أتخيلتهما في مواقف حميمية، مواقف قوية، عنيفة وعاصفة.
أتخيله هو فأراه متعبا، منكسرا، مستسلما ومهزوما مثل جندي استنفد فجأة ذخيرته.
وأتخيلها هي، فأراها منتصبة واقفة بكبرياء، تنفخ فيه بعضا من روحها، وتطلق الرصاص في كل الاتجاهات.
أتخيلهما وأسأل نفسي.
– أيستطيع هذا الرجل المعطوب أن يصمد أمام هذا الجسد البركاني المتأجج؟ هل يصمد أمام هذا الطوفان الجارف؟
أتعاطف معه وأجيب بداخلي، فأنا أعرف بحكم التجربة والحياة والكتب أن بعض القصص العاطفية تحمل بداخلها بذور الفشل منذ البداية، تموت مبكرا، وأخرى تولد ميتة.
…
يمضي الزمن.
ثم تدريجيا، أخذ الموت يدب في التفاصيل.
تستيقظ هي من أحلامها، تتحرر من نزواتها، تتراجع وتعيد الحساب والنظر، وبالمقابل كان هو ينزل عميقا، يغرق ويزداد تعلقا بها.
كانت مأساة الرجل تولد، ونهاية حكايتهما تلوح في الأفق.
…
ذات صيف.
كنا في رحلة ترفيه على متن الحافلة – نفس الحافلة – عندما أصيب الرجل بأزمة صحية كادت أن تكون قاتلة، جلست هي إلى جانبه في المقعد الأمامي، وجلسنا أنا وصديقي في المقاعد الخلفية ندخن لفافات محشوة، ننتشي ونتبادل أطراف الحديث.
عندها، أسر لي (سي محمد) بتفاصيل المأساة.
كان الرجل يطلب منه – بحكم الصداقة – أن يكتب له رسائل عتاب واستعطاف وتوسل، رسائل مهزومة، مليئة بالدموع والخضوع والاستسلام.
– في البداية، كنت أفعل، فالرجل طيب، وأنا أعطف عليه، ولكني أشعر بالكثير من الحرج.
سألته.
– ولم الحرج؟
– هي تعرف أنني أنا الفاعل، تعرف أنني من يكتب الرسائل.
صمت قليلا، ثم في حركة يائسة واصل.
– ثم ما الجدوى فلا أمل…
خاطبته، ربما أيضا بدافع التعاطف.
– شوف يا صديقي، أنت تتحمل جزءا من المسؤولية الأخلاقية بحكم الصداقة…
–…؟؟
–لم لا تشرح له؟ لم لا تقول له أنه لا أمل…
– كيف أفعل؟
– تقول له إنه حب مستحيل، فالاختلافات بينهما كبيرة، والهوة أكبر في السن، والمستوى التعليمي، والبريستيج، و…
– شوف أخي، أنا حاولت، ولمحت له، ولكنني محرج ولا أريد أن أجرحه.
– حاول ثانية، ربما يفهم…
ابتسم (سي محمد) بمرارة، ثم قال.
– لا لن يفهم، هو لا يريد أن يفهم ولا يستطيع !!
– بصح، الحب أعمى وصعيب…والأوهام دوما أجمل من الحقيقة.
ننظر إلى الثنائي مرة أخرى.
ينظر إليهما (سي محمد)، يتأملها، يشرق وجهه، يستعيد فجأة روحه المرحة، يبتسم فيبدو سعيدا.
– عندك الحق، إنه الحب، وأشياء أخرى بالتأكيد.
سألته بصمت.
–…؟
– السيد شيفور (سائق)، ولا يعرف في حياته إلا هذا الخط الأبيض الذي يخترق الطرق المعبدة، والذي يمتد مثل لسان خرافي إلى ما لا نهاية!!
ضحكت، ضحكنا معا.
مرت سنوات طويلة، طويلة جدا، انتهى كل شيء.
لم تعد القصة تضحكني.
فعلا، الحب صعيب.