“أوهام ضائعة”.. أحلام الشعراء في باريس

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مازن حلمي

لا يزال الأدب الكلاسيكي معينًا لا ينضب لدى المخرجين في تقديم قصص صالحة للدهشة، ومضمونة النجاح؛ لإمكانية عبوره حاجز الزمن بالتعبير عن الشخصية الإنسانية، مخلِّفًا وراءه السياق التاريخي، أو كاشفًا له؛ كي يُقرأ الحاضر في ضوئه، وُتعقد المقارنة بينهما. إنَّ تحويل الرواية الكلاسيكية إلى السينما أيسر كثيرًا من تحويل الرواية ما بعد الحداثية التي تُبنى على تفتيت الزمن، والتشظي، والتداعي الحر، والمنولوج الطويل. رغم توقف ذلك على رؤية المخرج. يبقى سؤال هل حافظ المخرج على أمانة النقل الحرفي عن الرواية ملحًا وأبديًا؟ بينما الأجدر أن يكون السؤال: هل ما قدمه فنًا سينمائيًا عالي القيمة؟

للفنان الحرية التامة في النهل من كل الفنون البصرية والسمعية والمكتوبة على أن ينتج في النهاية مادة جمالية تقاوم الزمن. ستظل العلاقة بين الأدب والسينما أشبه بعلاقة النهر بالنبع، مهما بعدت المسافة أو اقتربت، كلاهما في شوق وحاجة إلى الآخر.

عثر المخرج الفرنسي “كزافييه جيانولى” على بغيته في رائعة الروائي “أونوريه دي بلزاك” (أوهام ضائعة)، المكونة من ثلاثة أجزاء: “الشاعران – رجل كبير من المقاطعات- الآم المبتكر”. أمام هذا الحشد من المجلدات الكبيرة، أخذ “جيانولي” خطًا سرديًا واحدًا هو قصة “لوسيان شاردون” الذي جسَّده على الشاشة الممثل “بنجامين فوازين”، وعلاقته بالبارونة “لويز دو بارجتون”سيسل دى فرانس”. تتبع رحلة صعوده في عالم الصحافة في باريس القرن التاسع عشر، وسقوطه بالعودة إلى بلدته “انغوليم”. وتحاشى المخرج شخصياتٍ وخطوطًا أخرى مركزًا فقط على الأجواء الثقافية.

 درس المخرج “كزافييه” الأدب، ثم اتجه للعمل في الصحافة الفنية. أخرج أول أفلامه القصيرة “محكوم عليه” سنة 1993م حيث لاقى تشجيعًا واستحسانًا من النقاد. فاز فيلمه القصير “المقابلة” بالسعفة الذهبية من مهرجان كان. بعد ذلك حقق سبعة أفلام روائية طويلة أهمها فيلم “عندما كنت مغنية” عام 2006م، وفيلم “مارجريت” 2015م. كما حصل على وسام الفنون والآداب الفرنسي.

يكتب “جيانولى” وينتج ويخرج أفلامه، فهو من أنصار سينما المؤلف التي ترى المخرج صانعًا أول للعمل، وليس مجرد حرفي. “أوهام ضائعة” هو فيلمه الأحدث، فاز بسبعة جوائز من أكاديمية الفنون، وتقنيات السينما الفرنسية “سيزار” التي تضارع جائزة أوسكار الأمريكية كأفضل فيلم، وممثل واعد، ونص مقتبس، وممثل مساعد، وتصوير سينمائي، وتصميم ملابس، وانتاج. كتب السيناريو “كزافييه” بمشاركة “جاك فيشى”، والفيلم من انتاج “سيدونى دوما أوليفيه”، و”دولبوسك” 2021 م.

تعرية باريس

في المشهد الأول نشاهد شابًا مستلقيًا في حقول مفتوحة يكتب الشعر، يتطلع إلى الأفق، ثم ينهض ذاهبًا إلى الحلم. بينما في المشهد الأخير نراه عائدًا بوجهٍ ملطخٍ بأوحال المدينة. بين تلك الآمال المنتظرة وخذلان الواقع يفتح لنا المخرج أبواب باريس بعد عودة الملكية، ليس عبر القصة فقط بل بكل عناصر اللغة السينمائية من مناظر، وموسيقى، وإضاءة، وملابس، وقصات شعر.

هنا تتجلى براعة المخرج في إدخال المتفرج الممرات السرية للحياة الثقافية الباريسية، وإحساسه بالقبض على روح ذلك العصر. وضع “بلزاك” خبرته الشخصية من العمل كناقد ورئيس تحرير، وأيضًا كناشر صاحب مطبعة في راويته مما جعلها وثيقة تاريخية نقرأ من خلالها أفكار وصراعات زمنه. هو ينقد ويفضح ويسخر من الصحافة وألاعيبها متحملًا النتائج. بالتالي كان أكثر شجاعة من “كزافييه” الذى يُلمِّح عبر حيلة الإسقاط أن صحافة الماضي لا تختلف كثيرًا عن صحافة الحاضر، فلا شيء تغير سوى الأداة.

 صور الفيلم باريس كماخور كبير، كل شيء فيها قابل للبيع من الأزياء والعطور إلى أجساد النساء، فالصحافة مهنة التنوير ونشر الوعى لدى الشعب تحولت على أيدى الصحفيين إلى سلعة لمن يدفع أكثر من الناشرين، ورجال الأعمال والمسرحيين مما ساهم في تضليل القارئ، وتدنِّى ذائقته؛ فالناشر “دوريا” الذي قام بدوره الفنان “جيرار ديبارديو” الشبيه في الفيلم بجزار يشترى النقاد ولا ينشر سوى للمشاهير، و”سينغالي” – “جان فرانسوا” مُهّيج الجمهور هو منْ يقرر نجاح المسرحية أو اخفاقها. كما نرى الصحفي “إتيان لوستو” – “فنسنت لا كوست يمشى في الجريدة حاملًا قردًا. نحن إذًا في سيرك حقيقي لا صحيفة. كل ما يُقدَّم فيها مزيف، وقائمًا على خداع الجمهور. يتساءل “لوسيان” حينئذٍ: “أين الأدب فى كل هذا” لكى نعرف كيف يشوه نقاد الصحافة الأدب عبر تحويل الثمين إلى غث، والهراء إلى تحف أدبية. يكشف الحوار بين لوستو الذى يُعلِّم لوسيان قوانين اللعبة: “إذا كان الكتاب مؤثًرًا، فقل إنه هشٌ.. إذا كان كلاسيكيًا، فقل إنه أكاديمي. إذا كان مضحكًا، فهو سطحي”. يجاريه لوسيان سريع التَّعلم: “إذا كان متقنًا، فهو يفتقر إلى الجنون”

هكذا تصنع الصحافة نجومًا زائفة، وتعمى عين القارئ عن العملة الجيدة، لكن هناك تحاملًا واضحًا على الصحافة الليبرالية، تبدو المسؤولة عن العبث وفساد المهنة فيما الصحف الكبيرة أو الملكية تقوم بواجبها، أو في أسوء الأحوال تكون في الخلف؛ لأن “بلزاك” كان ملكيًا، وحافظ المخرج على رؤية الرواية مفضلًا الأمانة الروائية عن الحقيقة التاريخية.

التلصص

 تعد السينما فن التلصص الأكبر، حيث يدخل المتفرجون القاعات المظلمة بنية مراقبة حيوات ومصائر الآخرين؛ للتماهي، والتطهر، والتعرف على ذواتهم وقبل ذلك للمتعة. يأخذ التلصص هنا شكل دائرة تبدأ من عين المؤلف في النص الأدبي مرورًا بالمخرج ثم بالممثلين وتنتهى بعين المتفرج. كأن الإنسان مكشوف وعار على الأرض. استخدم المخرج فعل التلصص؛ لتعريه شخوصه، وفضح جوانب المدينة الخفية. من ثّم أخذ بُعدًا ذاتيًا وموضوعيًا في آن. عندما يتعرف “لوسيان” على الحياة الباريسية للمرة الأولى تملأ عينه الكادر، يرى من خلف الستار القوى المتحكمة في المسرح، الممثلات في غرف الملابس، وسيقان “كورالى” – “سالومى ديفيلس” الممثلة ذات الجوارب الحمراء، فتعتريه الشهوة والذهول، وحين تخبئه كورالى في حجرتها عن عيون “ماتيفا” – “جان بول مويل” يتكشف له كيف تُمثِّل علي الأخير دور الحبيبة، فهو حاميها مثلما لكل ممثله حام يشترى تصفيق الجمهور، ويضمن لها النجاح الأدبي والمادي. من جهة ثانية تواصل “لويز” مراقبة تحركات عشيقها القديم، فالجميع مُراقب من الجميع. من تعاقُب المشاهد تتولد المفارقة بين المتخيل والواقع.. بين المأمول والكائن. أراد المخرج أن يكشف عن وجه آخر لباريس.. وجه التردي والانحدار الثقافي والأخلاقي، ليؤكد على أن الوسط الثقافي كان دائمًا يموج بالمؤامرات والفضائح التي يرويها الراوي؛ ليستدر تعاطفنا وشفقتنا تجاه لوسيان، فنشعر كم هو ضحية للطرفين: الملكي والليبرالي.

التوثيق

 عاد المخرج إلى حقبة ماضية؛ حتى يتسنى له التعبير بحرية عن أرائه، وتفسير مشكلات الماضي برؤية جديدة، أعنى مشكلة الصحافة، وطريقة استغلالها ودورها في تشكيل ملامح عصر. بالإضافة إلى تماس المخرج مع موضوعه فهو عمل في بداية حياته مراسلًا صحفيًا. اتخذ الفيلم الطابع الوثائقي بالتوازي مع الشكل الروائي، حتى يستغنى عن كثير من السرد الدرامي وإضفاء الصدق والحيادية. يأخذ التعليق الصوتي مساحة كبيرة من الحوار، يقوم بدور الشارح والمحلل والموجه للمتفرج بما يقدمه من معلومات أثناء تتابع شريط الصورة والأداء التمثيلي. إنه يقدم شهادة عن تاريخ الصحافة ودهاليزها جنبًا إلى جنب حكاية “لوسيان” الميلودرامية. يمكن القول إن المعلق يُمثِّل صوت العقل الذى يتدخل بالنقد والتحليل والإدانة في مقابل العاطفة التي تتلون مع الأحداث الدرامية.

المعادل البصرى

يمتاز الفيلم بتكويناته الرائعة، كل لقطة تمثل لوحة تشكيلية تضاهى فخامة الفن الكلاسيكي في هذا الزمن، كما تعبر عن حساسية المخرج وبراعته في اختيار زاوية الرؤية إذ اعتمد على اللقطات الكبيرة والقريبة جدا للمبالغة، والتأثير العاطفي. يبدو “لوسيان” ضئيلًا في مشهد ذهابه إلى باريس؛ ليؤكد على ضياعه في المستقبل على حين تقترب الكاميرا من نقود جناها من مقالاته اللاذعة والساخرة على شخصيات ملكية، بالتالي ستكون سببًا لهلاكه. استخدم المخرج رموزًا بصرية متكررة كرأس الثور؛ تعبيرًا عما يدور خلف واجهة الصحافة البراقة من أكاذيب، إلى جانب بقعة الحبر الهائمة على الورق بلا اتجاه كلوسيان المتخبط بين قوى المعارضة الليبرالية وترف الأرستقراطية الملكية. من أبلغ مشاهد الفيلم مشهد فانتازي يبدو لوسيان عائمًا على مائدة تعج بالطعام حول مدعوين يتبادلون المال والكتب والصحف والتبغ، يضحك من نفسه التي ستغرق عاجلًا أو آجلًا. وأيضًا مشهد آخر يحاول فيه أن يقبض على حلقات الدخان؛ دلالة عن استحالة تحقيق حلمه هو وكل الأدباء الريفيين في المدن الكبيرة، مما يستدعى من الذاكرة مأساة شاعر فرنسا الأشهر “آرثر رامبو”.

انتهج المخرج “كزافييه” منحًى واقعيًا في السرد الدرامي، وبناء تقليديًا على نسق روايات الواقعية الاجتماعية، حيث وصف وشرح كل موقف وشخصية بالتفصيل دون أن يترك فراغات سردية للمتفرج على غرار المدرسة الشعرية، باستثناء الحوار الذي شحنه بطاقة شعرية هائلة؛ ليوائم عبق الماضي، وضخامة الحدث.. تداعيات الثورة الفرنسية، و رهافة الموضوع رغبة البطل أن يصير شاعرًا.

إيقاع الفيلم سريع لاهث يتوافق مع مغامرة البطل، ونمط الحياة المدنيّة؛ فاللقطات تتلاحق للتشويق والإثارة من خلال مونتاج متسارع، رغم مدة الفيلم قرابة ساعتين ونصف لم نشعر بالطول أو الضجر. كما جاءت مشاهد الريف هادئة ساكنة؛ لإبراز التناقض بين العالمين.

الآداء التمثيلي كان أحد عناصر قوة الفيلم، شاهدنا مباراة تمثيلة عالية، استطاع الممثل الشاب “بنجامين” بملامحه البريئة الطاغية، وتعبيرات عينيه الحائرة ، وحزنه الخفي أن يُعبِّر عن المشاعر الداخلية، ويجارى نمو وتعقد الشخصية، إلى جانب “فنسنت لاكوست” الذى يمثل مفاجأة الفيلم، واستحق جائزة أفضل ممثل مساعد عن جدارة حيث أعطانا درسًا في الأداء. أما “سيسل دى فرانس” فهي من مدرسة التعبير الهادئ، حيث تمثل بالإيماءات ونظرات العين والصمت لإظهار الملامح الجوانية، و”سالومي ديفيلس” كانت تلقائية وحيوية دون جهد، وأخيرًا حضور الممثل الكبير “جيرار ديبارديو” أضفى ثقلًا، وجمالًا للعمل. إلى جانب قدرة المخرج على تشكيل المشهد عبر التحكم في المجموعات الكبيرة.

قَدَّم الفيلم لوحة متكاملة العناصر الفنية، اعتمد على البذخ والتكثيف التعبيري، حتى يخرج المتفرج مبهورًا إلا أنه بعد الصدمة يكتشف طغيان الشكل على جوهر المضمون، فالصنعة الزائدة قد تخفى خفة المعنى.

 

 

مقالات من نفس القسم