محمد صفوت
غيومُ سوداء أراها تـُحلق داخل رأسي.. رأسي ثقيل. ثقيلٌ جدا وفارغٌ جداً. أصحو على جَلبة المارة أسفل نافذتي. أحسُّ أشعة الشمس تداعب وجهي. لابد أنه صباح جديد.. صباح لا يعرفني ولا أعرف فيصفه أحد. لا أقوى على فتح عينيّ مرة واحدة.. أتحسّسُ ثقباً دائرياً محدوداً في مؤخرة رأسي، أمرر طرف سبابتي عبر قُطره المحدود. يغيب الإصبع كله داخل التجويف دون أن أصل إلى نهايته كأنه ثقبُ مفتوح على فضاءات واسعة لا نهائية. أدرك أن حكايتي التي كنتُ عليها بالأمس قد تسربتْ تفاصيلُها كالعادة وانا نائم. كلُ ليلةٍ تَنْدَلق تفاصيلي عبر الثقب إلى الوسادة. تأخذ خيوطاُ مُتعرجة تشقُّ طريقها نحو حافة الفراش. تنحدر كشلال إلى أرض الغرفة. تتجمع في مجرى واحد وتندفع من تحت حافة الباب إلى الخارج. هكذا أصحو ورأسي خاوية كإناء فارغ. يضعني هذا في ورطة كل صباح، تـُشبه ورطة جنين ينزلق عنوة من ظلام دافئ إلى نور مجهول، لذا لا أقوى على فتح عينيّ مرة واحدة. أفتحهما ببطء وحذر. يغشاني نورٌ كالضباب. عندما ينقشع عن عينيّ أخذ طريقي للنافذة. أرى كرة الشمس تتقطر من خلف الجبل إلى أن تستلقي أشعتها في حضن النهر. أتابع المارة أسفل نافذتي وتيار الحياة يدفعهم إلى شواطئهم المألوفة وأعمالهم المعتادة. صباحاتي أنا مـُربكة. أنا شخص غير الذي كنتُه بالأمس.. الذي كنتُه ولا أتذكره.. كل صباح أواجه العالم بدهشة وقلق. كل الأشياء تصبح مُحايدة تماما،لأنني أتعامل معها بدون خبرة سابقة ومن غير حكاية تمنحني تفسيرات جاهزة. الشجرة العملاقة مثلا التي تقطن الساحة أمام منزلي تظل بالنسبة لي مجرد شجرة لها جزع ضخم وفروع متشابكة هنا وهناك تحمل أوراقا خضراء ككل الأشجار المغروسة بأرض الجزيرة لذا أطلُّ عليها من نافذتي دون أن تُثير لدي إحساس ما. هذا يختلف تماما لو أنني أمتلك حكاية بها تفصيلة صغيرة تقول أن أبي قد غرس تلك الشجرة أمام ساحة منزلنا في يوم مولدي وأن عمرها بالتالي من عمري. أعيش تلك الورطة كل صباح. لا يستمر هذا طويلا، لأنني حين أخرج من بيتي الصغير يرزقني الله من يتطوع ليمنحني حكاية جديدة وتفاصيل أعيش عليها طيلة اليوم إلى أن يغلبني النوم. ربما من أجل ذلك أتوهم أنني عشتُ حيوات عديدة مارستُ خلالها كل الأدوار وربما حلّ بي الفناء خلال ذلك مرات ومرات.. في البداية كان يؤرقني سؤالُ صعب.. ما هي حكايتي الحقيقية وسط كل هذه الحكايات التي يختلقها أهل الجزيرة لي كل صباح؟ كنتُ أشعر أن كل حكاية تصلح أن تكون حكايتي، ربما لأن أهل الجزيرة حين يروون ما يزعمون أنه حكايتي يؤدون ذلك بصدق كاف، لكنني تجاوزتُ ذلك حينما تأكدتُ تماما أننا جميعا مجرد مشاريع لحكايات مـُتوهمة،لذا باتْ يشغلني أكثر أن أجد كل صباح من يضخُّ حكاية جديدة في عروقي غير تلك التي تتسرب تفاصيلها من ثُقبي كل مساء. أفتح دوُّلاب ملابسي.. تُطالعني ثيابُ وأزياء كثيرة.. زي كامل لفارس. ملابس بَحّار وأخرى لمهرج. قميص مـُشجر بأكمام كاملة وتيشرت بخطوط عرضية على الصدر فيما يبدو أنه للص. هكذا أخرج من بيتي هذا الصباح عارياً من حكاية.. أسير بمُحاذاة النهر. أعرف أنه نهرُ يـُحيط بالجزيرة من كل أطرافها، لكن لا ذكريات سابقة تستدعيها ذاكرتي تربطني به. هل قبّلتُ امرأتي ونحن ننظر إلى أشعة القمر تتموج على صفحته؟ أسير شارداً.. أمرُّ من أمام صانع فخار. أراقبه وهو يطوع الطين بين يديه. ينتبه لي. فيهبّ واقفاً.. يجري ناحيتي.. يُقبل يدي. يطلب مني الجلوس لشرب الشاي. أندهش لهذا الاحتفاء الذي لا أعرف له سبباً.. يقول لي أنت أول صانع فخار في الجزيرة. على يديك تَعـَلّم جدي هذا الفن منذ عشرات السنين ومنه توارثته عائلتنا، أسأله عن هذا. يقول.. كنتَ تأتي بالطين الذي يطرحه النهر على حافتيه وتضعه في بركة الماء. تخلطه وتُقلبه حتى يصير طينا صافيا من شوائبه.. ثم تداعبه بأناملك ليصير طينا ناعما أملسا. تضعه بعدها في قوالب نَحَتّها من صخر الجبل لتُشكله آواني وأوعية وقوارير وجرار وأباريق وصحون. تعكف أياما على زخرفتها ونقشها برسومات. تكتب على بعضها ألقاب مولاي صاحب الضريح. ثم تُوقد تحتها نار فرنك لتحترق ويشتد عودها. تتركها أياما تحت شمس الجزيرة الحارقة فتجف وتتماسك. ثم تبيعها لأهل الجزيرة وزائري الضريح.
أستمع لحكايتي التي يرويها لي صانع الفخار باستمتاع كما كل مرة يروي لي أحد من أهل الجزيرة تفاصيل ما يزعم أنها حكايتي التي تسربتْ من رأسي المثقوبة. أسأله وكيف تعلمتُ أنا هذا الفن؟.. يقول هذا سر لم تبح به أنتْ لأحد.
يضع صانع الفخار كتلة من الصلصال الطري في يدي. يعلمني كيف أهذبها وأرقق من لحمها حتى تصير ناعمة تماما. يطلب مني أن أشكلها كما أريد. قال نحن هنا لا نكتفي بصنع الأواني والقوارير فقط.. نصنع أيضا فخارا على هيئة طير أو روءس حيوانات يتبارك بها الناس.
أخذتُ عجينتي بين يدي. صببتُ عليها قليلا من الماء وكورتها بين يدي. أمطها وأنا أفكر ماذا يمكنني أن أصنع بها. يحدثني صانع الفخار وهو يرصُّ أوانيه تحت الشمس.. سأصارحك بالحقيقة التي سمعتها من أبي وأنا صغير. قال أبي أن جده حَدّثه بأنك رويتَ له ذات يوم وأنت تعلمه صنعتنا تلك أن سيدي صاحب الضريح أثناء إحدى قياماته اليومية من مرقده قد علّمك كيف تُشكل الطين وأنك مكثتَ عدة أيام قبل أن تصنع أول آنية من الفخار.
يتأمل صانع الفخار ما صنعتُ بعجينتي. يُقلبها في دهشة. أقول له.. هذه رأسي المثقوبة. أشير إلى ذلك التجويف الدائري المحدود في مؤخرة رأسي. يتناول صانع الفُخار رأسي التي صنعتها من الصلصال ويـُقلبها في النار. حين تستوي يضعها بجوار أخرى في الشمس. ينظر إليّ بوحهه البنيّ المحروق. يقولون أنه ذات صباح وبعد أن تمرستَ في حرفتك داهمتك فكرة غريبة.. أن تصنع عالما جديدا من الخزف. على أطراف الجزيرة وتحت سفح الجبل الشرقي صنعت عالمكَ المزعوم. نحتَ سماءً مُزينة بالكواكب والنجوم. غرستَ أشجاراً ونخلا في أرضٍ مُنبسطة فرشتها بامتداد عالمك. شققتَ نهرا صغيرا في المنتصف وثـبـّت جبلا راسخا على الحافة. نحتَ بشرا وحيوانات وطيورا. استغرق هذا منك سنوات عديدة. عندما انتهيت من عالمكَ جاء الناس من كل أنحاء الجزيرة. حتى زوار الضريح تركوا الضريح وأقبلوا يتأملون عالمك الجديد اليافع. أصابتهم الدهشة حدّ أنهم تمنوا أن يعيشوا تحت سقفه وأن يفترشوا أرضه. لكنك رددتهم جميعا.. هذا العالم ليس على مقاس أرواحكم البائسة هكذا كنت تقول لهم. حين انصرفوا تمددتَ بطول عالمك. جلست على شاطئ النهر وتطلعت إلى الشمس وهي تغيب وتُفسح للقمر المدور، ثم بدأت تغفو تحت شجرة. حينها تصدع عالمك وانهار فوق رأسك قطعة قطعة. تَجَمّع أهل الجزيرة وأخرجوك من تحت الحطام. كنتَ مذهولا ومندهشا وأنت تنفض عنك الغبار والتراب. من يومها ظهر لك هذا الثقب في رأسك الذي تتسرب منه حكايتك كل ليلة. يقولون أن غضبة مولاي صاحب الضريح قد شملتك بلعنة أبدية لأن عالمك المزعوم فتنهم وشغلهم عن ضريحه..
قضيتُ اليوم كله في صناعة إناء صغير حتى داهمني المساء. شكرتُ صانع الفخار على حكايته تلك التي قضيتُ بها نهاري. قبل أن أنصرف عرض عليّ الرجل مـُشاركته في عمله حتى تستعيد هذه الصنعة مكانتها القديمة. لكنني ودعته مُبتسما وساخرا.. يبدو أن صانع الفخار قد نسى أنني في الصباح التالي سأرتدي حكاية جديدة.