ثقافة اللّون ومناهضتها

تغريد يحيى يونس
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. تغريد يحيى- يونس

مدخل

شغلت ألوانُ النّاسِ النّاسَ ولا زالت تشغلهم سواء على مستوى الشعوب أو الفئات الاجتماعيّة أو على مستوى الأفراد. يتمتع بعضهم بحظوظ اجتماعيّة أوفر بفضل تعامل الناس مع لونه، ويعاني بعضهم الآخر جرّاء تعامل الناس مع لونه. ولراهنيّة انشغال الناس بلون الناس، ولأسبقيّة انشغالهم بلونهم هم أنفسهم على انشغالهم بألوان الناس، تأتي هذه المقالة كتقديم أوليّ لما أدعوه “ثقافة اللّون” المهيمنة ومناهضتها بثقافة مضادة.

الألوان، الثنائيّة، والهرميّة

للثقافات عامّة وللثقافة العربيّة خاصّة مواقف من ألوان الناس، بالأحرى من ألوان بشراتهم. منذ تاريخ طويل حُدّدت في الثقافة/ات مكانات ألوان البشر وانتظمت في هرميّة بفعل علاقات القوّة بين الشعوب ذات الألوان المختلفة. عادة تصنّف ألوان البشر تصنيفًا ثنائيًّا قطبيًّا: أبيض/أسود. يعتبر اللّون الأبيض هو القاعدة، هو المعيار، وكلّ ما سواه يقاس بالنسبة له. بهذا المعنى الأبيض ليس لونًا، في حين أنّ البقيةَ ألوان وناسها ملوّنون وملوّنات – حُمر وصُفر وسُود. تحدّد الثقافة المهيمنة موقع اللّون الأبيض في رأس الهرم ودونَه كلّ الألوان. فتُكسِبه بذلك المكانة والاستعلائيّة في مقابل إكساب الدونيّة للّون الأسود وسائر الألوان.
          لا تقتصر هذه النزعة اتجاه ألوان الناس على التاريخ الحديث، بل لقد سادت في التاريخ القديم أيضًا. ولعلّ المثال الأكبر والأقرب في مخزوننا الثقافيّ هو مكانة اللّون الأسود في الثقافة العربيّة ما قبل مجيء الإسلام، وفي فجر الإسلام وصدره وعبر تاريخ المجتمعات الإسلاميّة. على المستوى الفرديّ لعلّ عنترة العبسيّ الفارس المغوار الشاعر الفذّ عفيف النفس هو النموذج الأبرز على تعامل المجتمع معه تعاملًا مرهونًا بلونه.

           تصنيفات الألوان هذه والمواقف منها لا تقتصر على ألوان بشرة البشر، بل تُسبغ على أيامهم وأقوالهم وأفعالهم ووجوههم. توصف به الأشياء والأمور الحيّة والجامدة، الماديّة والمعنويّة. كلّ ما هو أسود تُلحق به الأفكار النّمطية السّلبية المحفوظة لهذا اللّون. وما التعابير اللغويّة واللّسانية “يوم أ/إسود”، “سودٌ مواقعُنا”، “سوّد وجهه”، “سواد الوجه”، “عَمْلة سودا”، “البطة السودا” وغيرها إلّا تجسيد لهذه الإدراكات في الثقافة العربية، بالعاميّة والفصحى، أو في الثقافة الغربية أو هي مشتركة في كلتا الثقافتيْن. على نحو نقيض تُلْحق باللّون الأبيض التصوّرات والأفكار النمطيّة الموجبة حين تقرره نسبة الميلانين في الجسم وحين ننسبه للأشياء الجامدة والحيّة، الماديّة والمعنويّة. وما التراكيب اللّغوية “بِيضٌ صنائعُنا”، “بياض الوجه”، و”بيّض وجهه” ومشتقاتها إلّا تجسيد لهذه الإدراكات في الثقافة العربيّة، بفصحاها وعامّيتها، وفي ثقافات أخرى.

الموازاة بين السّواد والعبوديّة

          أضاف التاريخ الحديث كما أنتجه الغرب طبقات سميكة على ثقافة اللّون هذه وعمّق الاستقطاب ورسّخ الهرميّة المبنية على اللّون. كان استعباد أفريقيا في المشاريع الاستعماريّة التوسعيّة المسارَ الرئيسيّ في هذه العمليّة. في بطون السفن والبواخر المعدّة للمواشي والدّواب وتحت ظروف إجراميّة نُقل أبناء وبنات أفريقيا إلى العبوديّة في أمريكا التي “اكتشفها” الغرب في العام 1492.[1] وقد تمّ اختيارهم بعناية من ذوي البِنية الجسديّة الأقوى والعافية الأوفر بالأساس نظرًا للغرض الذي من أجله اختارهم تجار العبيد ونظرًا للمَهمّات البدنيّة والأشغال الشّاقة التي انتظرتهم.[2] بثمن إبادة الشعوب الأصلانيّة جسديًّا ورمزيًّا، وعلى حساب عبوديّة أبناء القارّة السوداء منذ أوائل القرن السابع عشر، تمّ استعمار الأمريكتيْن. في المحصّلة وعلى الرغم من استعباد فئات عبر التاريخ ليست بالضرورة من ذوي وذوات البشرة السمراء، إلّا أن المسار التاريخيّ المذكور للعبوديّة في أمريكا وازى وبشكل جليّ غير مسبوق بين اللّون الأسود والعبوديّة والاسترقاق، وسجّل أبشع صور العبوديّةَ في تاريخ البشريّةِ. معه رُسّخت وسمُكت ثقافة اللّون المهيمنة ومعها الاستعلاء والمركزانيّة الغربية البيضاء الأنجلوسكسونيّة.

مناهضة ثقافة اللّون
في المقابل، وحصيلة سيرورات طويلة الأمد امتدت عبر قرون تخلّلتها الحرب الأهليّة في أمريكيا والثورة الفرنسيّة والثورة الصناعيّة والثورة المعرفيّة الثقافيّة في أوروبا أفرز التاريخ الحديث ممارسات رفْض ومقاومة لثقافة اللّون هذه. بعضها ضمن تنظيم حركات اجتماعية ثوريّة كحركة تحرير السود في أمريكا، وحركة إلغاء العبوديّة والرّق، وغيرهما، وبعضها بمبادرات فرديّة امتدّت حتى منتصف القرن العشرين (روزا باركس في الحافلة، ومواطناتها (أخواتها باللّون) السابقات).

وإذا كانت العبودية قد أُلغيت في مستعمرات بريطانيا، باستثناء الهند، (1833)، وفي مستعمرات فرنسا (1848)، وفي الولايات المتحدة في نهاية الأمر(1865)، فقد بقيت في المجتمعات الإسلاميّة حتى أوائل القرن العشرين. ألغَت الوثيقة  الدوليّة لحقوق الإنسان (1948) العبوديّة، وأقرّت القوانين الدوليّة تجريم العنصريّة على أساس اللّون وعلى أيّ أساس آخر. ورغم ذلك تأخذ العبودية في زمن الحداثة المتأخرة، الزمن الراهن، أشكالًا أخرى بعضها لا يقتصر على أصحاب وصاحبات اللّون الأسود، كالاتّجار بالبشر لأغراض جنسيّة. ولا زالت الممارسات الاجتماعية المؤسساتيّة والشخصيّة إلى يومنا هذا موبوءة بوبأ ما أطلقتُ عليه تسمية ثقافة اللّون. يحدث ذلك في كلّ المجتمعات والثقافات الإنسانيّة، وإنْ بتفاوت، ويأخذ تمظهرات في كلّ مجال وباب ومستوى في العلاقات الاجتماعية، الرسميّة منها كما في أماكن العمل، والشخصيّة كما في الصداقات وعلاقات الزواج والمصاهرة. حتّى في المجتمع المتجانس عنصريًّا، عرقيّا، قوميًّا، إثنيًّا ودينيّا، كما في مثال الحظر الاجتماعيّ على الزواج بين عشائر بدويّة ذات ألوان بشرة مختلفة في ديار بئر السبع.

بين اللّون والجمال، والقدرات الذهنيّة، والأخلاق

لا تربط الثقافة المهيمنة بين اللّون والعبوديّة/الحريّة فحسب، ولا بينه وبين التدرّج في الهرميّة، بل تربط أيضًا بين اللّون والجمال. هي تنسب الجمال للأبيض، وتنفيه عن الأسود. وتربط بين اللّون والذكاء والقدرات الذهنيّة، وبين الّلون والأخلاق. في الثقافة المهيمنة الأحكام في كلّ هذه هي في صالح الأبيض الذي تحسبه متفوقًا في جماله، عاليًّا في قدراته الذهنيّة (عقله)، ومتطوّرًا رفيعًا في أخلاقه وأخلاقيّاته.

المذهل لأول وهلة هو قدرة هذه الثقافة المهيمنة على التّغلغل إلى أفكار الناس من الشعوب والفئات الاجتماعية كافة حتّى تلك التي هي موضوع الأفكار السلبيّة المجحفة، أعني فئات أصحاب وصاحبات البشرة السوداء بتعريفهم الضّيق وفئات البشرة الملوّنة بتعريفهم الفضفاض. هكذا يذوّت السّود والسوداوات، السّمر والسمراوات، ودرجات الطّيف الأخرى الخاصّة بهذا اللّون، الأفكارَ السلبية المجحفة بحقّهم، وأنّ الأسود قبيح، ويذوّتون تلك التّصوّرات الإيجابيّة الخاصّة بالأبيض وأنّه جميل. لا يستند هذا إلى انطباع، بل لقد أثبتته التجارب والأبحاث المنهجيّة الكلاسيكيّة. ففي تجربة أجريت على أطفال سود وبيض في أربعينيّات القرن العشرين طُلب منهم أن يختاروا لعبة من بين الألعاب السوداء والبيضاء التي وضعت أمامهم. إختار الأطفال من كلا الفئتيْن اللّعبة البيضاء. ويذهب الناس إلى أبعد من ذلك في محاولاتهم السيزيفيّة في الغالب الأعظم لوضع قناع أبيض، باصطلاح فرانز فانون، ماديًّا وسلوكيًّا ولغويًّا وباستخدام مركبات القناع المتكاملة. علمًا أن اللّون والمعطيات الفيزيولوجيّة البارزة الأخرى، كشكل العينين المميّز لليابانيين/ات مثلًا،  عصيّة على “التقنيع” في الغالب الأعظم، بخلاف رموز الانتماءات الاجتماعيّة الأخرى، وبالتالي فإنّ اجتياز الحدود الاجتماعيّة المبنيّة على اللّون أو عبورها صعب جدّا بل وغير ممكن.

مناهضة ثقافة اللّون
لا تنفك حركاتُ مناهضةِ الثقافة المهيمنة تستحدث أشكالًا للرفض وتعرض ثقافة مضادة. فالخروج بشعار “الأسود جميل” في حركة مقاومة أفرو-أمريكية في الثمانينيات من القرن العشرين رافقتها موجة (تريند) من التسعّف تحت أشعة الشمس كما وبواسطة تقنيّات مستحدثة للتسعّف تطوّرت عنها صناعة كاملة للكريمات والماكنات والقبعات والسياحة. ومن نفس مجال الهيئة والسِّحنة وعلى نفس المنوال، وبعد أن أنفقت النساء المعنيّات قبل ذلك وحتى نهاية سنوات السبعينيات من القرن العشرين في سبيل خدمات تمليس الشعر في محاولات لتحقيق نموذج الجمال الأبيض في أحد مركباته الواضحة وهو الشعر، ظهر في الثمانينات شعار “الأشعث جميل”، وطُوّرت صناعات في عالم الموضة و”صناعة الجمال” بهذا الاتجاه. وهذا مثال ماديّ واحد فقط، رافقته حركة مناهضة في مجال الفن والموسيقى والغناء استحدثت صنوفًا احتجاجيّة منها.

دحض ثنائيّة اللّون وتقويضها

      ثمّة مناهضة للثقافة المهيمنة المبنيّة على لون البشرة تقوم على دحض الثنائيّة المذكورة أعلاه بين أبيض وأسود وتعمل على تقويضها. بموجبها تُرفض هذه الثنائيّة وتتمّ زعزعتها إلى حدّ التفكيك. فليس هنالك أسود أو أبيض بالمطلق، بل هنالك درجات بينيّة كثيرة للّونيْن وبينهما. ومن يعدّ أسودًا هناك في أمريكا وأوروبا، يكون أبيض هنا في مجتمعه المحليّ. بهذا المنطق تصف باحثة من أصول هنديّة تجربتها متحدّية الثنائيّة. إذن الأمر نسبيّ وليس مطلقًا وألوان الناس تصطفّ على متتالية ذات درجات كثيرة ومتنوّعة، وهذا ضدّ الثنائيّات.

الثّقافة العربيّة وثقافة اللّون

حضرت الثقافة العربية كلّما فكّرت بالموضوع أو تناولته في انشغالاتي الأكاديميّة وعامة، وحضرت بقوّة خلال كتابتي لهذه المقالة، ويقيني أنها تحضر في ذهن قارئها/قارئتها الآن. لضيق المساحة هنا (قصر المقالة النسبيّ) ونظرًا لهدفها التعريفيّ الأساسيّ بالموضوع فقد اضطررت إلى عدم الخوض فيها، وبالتحديد ليس من منظور دينيّ إسلاميّ، واكتفيت بذكرها باقتضاب. لكن في هذا الموضع من المقالة ومع الوعي بقضية الرّق ومُلك اليمين في الإسلام، من المهم الإشارة إلى دور الدّين سوسيولوجيًّا في ضبط فوضى العبوديّة ما قبل الإسلام، وإلى الموروث الإسلاميّ الذي حضّ على عتق الرّق، وفتحَ السبل إلى ذلك بما فيها سبيل الكفّارة، وإلى الموروث الإسلاميّ الذي يدعو إلى المساواة في “كلّكم سواسية كأسنان المشط”، في النموذج التاريخيّ للمشط، ويدعو إلى حريّة الإنسان/ة وقيمته بما هو إنسان/ة، بصرف النظر عن لونه وعرقه، ف “متى استعبدتم النّاسَ وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارا”، و”لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتّقوى”. أمّا التطبيق إزاء النظريّ فمسألة تحكمها عوامل وقوى أخرى.

منظور الثقافة العربيّة الشعبيّة للألوان

      وللثقافة العربيّة الشعبيّة منظور لمسألة ألوان الناس، تستقيه ليس فقط من الدّين، بل ومن منابع أخرى ما قبل الإسلام وما بعده، منها ما هو “أصيل” في الثّقافة العربية ومنها ما هو “دخيل” عليها بفعل تأثّرها من حركة التاريخ في العصر الحديث ومركزانيّة الثقافة الغربيّة المهيمنة فيه.[3]

        إدراكات الثقافة العربية الشعبيّة لألوان الناس مركّبة أكثر مما يمكن تخمينه لأول وهلة. صحيح أنّها تمنح أفضليّة للأبيض، لكنّ هذا الإدراك سرعان ما لا يصمد إذا ما استعرضنا الثقافة العربية على نحو كامل. عندها سنقف على كمّ المقولات والأمثال والأغاني الشعبيّة والقيم والمفاهيم التي تعبّر عن موقف مغاير. لكي نختصر الإطالة أكثر في المقالة يمكن للقارئ/ة مراجعة هذه المركبات الثقافيّة في مخزون معرفته ومن بيئته/ا القريبة، بما فيها الأغاني الشعبيّة النسائيّة الفلسطينيّة التي تفاضل بين السمراء والبيضاء بدعابة جميلة وتستخدم ذخرًا ثقافيًّا غنيًّا لكن دونما ترجيح لجهة واحدة منهن. أمام هذه المركّبات يتكشّف لنا الإدراك الملتبس المتناقض وفي نفس الوقت المتوازن لألوان الناس في الثقافة العربيّة الشعبيّة ذاتها، ونقف على عدم وجود موقف قطعيّ من أيّ من اللّونين القطبيين، وندرك حجم التشظّيات في هذه المسألة.

اللّون والنّوع الاجتماعيّ

     في الثقافة العربية أيضًا الموقف من لون الناس مرهون بنوعهم الاجتماعيّ.[4] ثمّة نزعة تُبدي قبولًا أو رفضًا للون الناس بحسب نوعهم الاجتماعيّ، فتستحِبّ الأبيض للمرأة وتبعًا لذلك تأتي تقييماتها لجمالها أو عدمه، وتبدي قبولًا تجاه السّمرة للرجل. وفيما يتساوق مع ذلك تلجأ لكلّ الطرق المتاحة للحفاظ على لون المرأة المرغوب إنْ كان طبيعيًّا بمعنى مولودًا، وتلجأ لكلّ الطرق المتاحة لاكتسابه إن هو لم يتوفّر بالولادة، علمًا بمحدوديّة ضمان هذه الطرق.

يتّصل بالربطُ بين اللّون والنّوع الاجتماعيّ بالأدوار والتّصوّرات حول كلّ من الرجل والرجولة والمراة والأنوثة. ففيما وراء الجينات والمعطيات البيولوجية والفسيولوجيّة، بياض بشرة المرأة يعتبر دلالة على مكانها في الحيّز الخاصّ، في الداخل (بيتها، الحريم النسائيّ، وخدرها تاريخيًّا). ونظرًا لأن الحياة المرفّهة مرهونة بالطبقة الاجتماعية، فلون بشرة المرأة ينبئ عن انتمائها الطبقيّ، بحيث تاريخيًّا من انتمين للطبقات العالية والوسطى لُبّيت حاجاتهن الحياتيّة الجارية وهنّ في البيت، ومن انتمين للطبقات الدّنيا اضطررن إلى الخروج من البيت إلى العمل في الحقول وَارْتَدْنَ الأسواق الشعبيّة لقضاء حاجاتهن بأنفسهن. لكنّ الحال تغيّر، فأصبح التسمير الاصطناعيّ والتسعف لاكتساب لون برونزيّ دليل على انتماء طبقيّ ميسور، على الأقل ماديًّا، يمكّن المرأة من استهلاك التقنيات المتوفّرة واكتساب لون التقليعة. بينما تعتبر سمرة الرجل مؤشّر على مكانه في الحيّز العام وعلى الأدوار المنوطة به في هذا الحيّز، وبالذات الأعمال والأشغال الجسمانية وتلك التي تتطلب انكشافا متواصلًا خلال ساعات النهار تحت حرارة الشمس القاسية في بلاد الشرق، الجنوب العالميّ.

اللّون والوطن
ثمّة ربط آخر بين لون البشرة والوطن. وهو ربط ينحى منحًى أدبيًّا وشاعريًّا أكثر منه إثنوغرافيا وبحثيًّا. والفكرة انّ سمرة البشرة العابرة للنّوع الاجتماعي مصدرها مناخ الوطن. وبدقّة أكثر، سمرة البشرة من سمرة الأرض ومن قوّة الشمس المشرقة فيه. هكذا بين الإنسان/ة والمكان الوطن ثمّة روابط تنقش على سحنته/ا، تتجلّى في لونه/ا.

حين وقفت أعلاه على التنوّع الذي يميّز الثقافة العربيّة في إدراكها لألوان الناس وجدتُ إنّ هذا التنوّع غير ممثّل بدقّة إلى الآن، بل في تعميمات. ربّما يكون التذكير بوجود شرائح في المجتمعات العربيّة، وقد تكون ضئيلة، والتي تخرج عن كل محاولة لتعميم موقفها من قضية الألوان، مجديًّا في تقدير حجم التنوّع الثقافيّ من هذه المسألة لدرجة الاستقلال بذائقة وتفضيل فرديّيْن، ينسف النزعات المهيمنة. 

     ختامًا، وفيما يتعلّق بالثنائيّة القطبيّة التي تناولتها أعلاه مرة بالعرض والوصف ومرة بالنقد، الدحض والتقويض، فإنّ الثقافة العربيّة الشعبيّة لا تتعامل مع ألوان الناس بهذه الثنائيّة. عِوَضَ ذلك هي تفكّكها وتفصّلها في درجات يعبَّر عنها بالكلمات الصريحة، المفردة أو بقوالب التعابير. أذكر منها هنا الدرجات “اسود/سودا-ء، عبد/ة، أسمر/سمرا-ء، قمحيّ/ة، حنطيّ/ة، فاهي/ة، ابيض/بيضا-ء، وشمعة (لاحظوا صيغة المؤنث الحصريّة هنا). ويمكن قراءة التعبيرات هذه بالفصحى وبالعاميّة. وتعبيرات عاميّة أخرى من نوع “مش مخلّي/ة بياض أو سمار”. في ذلك كلّه تجسيد لأطياف غنيّة من اللّونين، وهو منافٍ للثنائيّة الجامدة. قد تكون في بعضها تحايُلًا على تسمية اللّون باسمه، لكن هذا لا يلغي ولا يقلّل من أسبقيّة الثقافة العربيّة الشعبيّة المعيشة وتقدّمها على النظرية النقديّة اتجاه الثنائيات والتّوجهات المونوليثيّة، التي ترى الفئة الاجتماعيّة كتلة واحدة متماسكة وتُلغي الفوارق والاختلافات الداخليّة فيما بين أبنائها وبناتها.

………………………………..

[1]  تبيّن وثائق تاريخيّة أن العرب كانوا أول من وصل إلى أمريكا وأول من وضعوا خارطة لها تبيّن موقعها في العالم. لكن الغرب غيّب هذه الوثائق في مساعيه للاستيلاء على التاريخ الحديث ومساره وفي روايته المهيمنة.

 [2]  هنالك من يرى تجسيدًا لهذه البنية الجسديّة في المكانة والإنجازات التي يحتلّها أحفاد هؤلاء في الألعاب الرياضية وفنون الرقص.

[3]  أضع كلّا من المصطلحين أصيل ودخيل بين هلالين نظرًا لتحفظاتي منهما، ولإيماني بفكرة أن لا ثقافة “نقيّة” بل تنوجد الثقافات في تفاعل وتأثيرات تبادليّة، علمًا أنها قد تقوى في اتجاه معين دون الاتجاه الثاني تحت ظروف تاريخيّة عينيّة.

[4] قد تعرفون المصطلح بأحد رديفيْه الآخريّن وهما الجُنُوسة، والمصطلح المعرّب الجندر.  

مقالات من نفس القسم