شوقي عبد الحميد يحيى
ندما فشلت الرمزية في إختراق آذان وعقول من بيدهم القرار، في فترة الستينيات، وفترة التسعينيات، والتي كان بهما الكثير مما يريد الكاتب توصيله للمسؤلين، حتي كان حتما أن يتجه إلي الصوت العالي، وما يشبه المباشرة في القول، الأمر الذي احتشدت به الرواية – بصفة خاصة – ولجأت إلي اللغة الخشنة، المستخرجة من قاع المجتمع الذي يئن تحت وطأة الضغط السلطوي، والصارخ في صحراء الحياة، فكانت “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني، وكانت “تغريدة البجعة” لمكاوي سعيد، – نموذجا – وغيرهما الكثير. وفي التسعينيات، احتشدت الرواية بالكثير من آثام الشرطة وما تمثله من تجاوزات، إلي أن وصلنا للعام 2011 ، حيث بزغ الأمل في انتهاء هذه التجاوزات، وظل كاتب الرواية –مع غيره من أبناء الشعب – يراقب ويأمل، إلا ان الإحباط كان هو السيد، حيث عاد نظام الأمن يلعب ذات الدور، وأُخرست الأقلام التي راحت تنبه، وتدق نواقيس الخطر، فكان علي الرواية أن تعود لدورها، في الكشف عن الخبايا، والتعبير عن صوت من لا صوت له، والكشف فيما يشبه التصريح، مغلفا بأساليب الإبداع النابض، والمكتوب بأحبار المعاناة، ودموع من راحو يتباكون علي أحلام وئدت قبل أن تغادر مآقيهم.
ووسط سيل من الروايات، أخذت تتدفق من المطابع، تتأرجح بين ما كان وما هو كائن، يظل بعضها علامة علي الطريق، حيث تجمع بين الصرخة الزاعقة، والهمس الإبداعي، الذي يشق طريقه في أفئدة وعقول القارئ، وتعددت الأسماء علي الساحة، ليأتي من بينهم عمار علي حسن، الذي تعدد منجزه الزاخر والزاحف من الرواية والقصة والمقال السياسي والكتاب السياسي، والعشق الصوفي المتمثل في كتابه “فرسان العشق الإلهي، والذي إستخرج منه القماشة التي فصل بها رائعته الجديدة “خبيئة العارف”[i]، والتي استطاع بها أن يغلف ما جاء صريحا مباشرا، بغلاف إبداعي مُحكم، ليحافظ علي رسالة التحذير، ملفوفة بلغة شيقة، وحبكة مٌحكمة، تمسك بتلالبيب القارئ، ليتجرع مرارة الواقع المعيش، وهو يبتسم، حتي وإن كانت الابتسامة ملؤها الألم.
مثلما كانت روايته “بيت السناري” تبحث عن “الكنز”، جاءت “خبيئة العارف” تدور أيضا عن الكنز، الذي هو أقرب للإنسان من نفسه. ومثلما كانت “جبل الطير” تحلق في آفاق الصعيد، بحثا عن التراث المسيحي والإسلامي، وعلاقتهما، كشفا للتصرفات الجاهلية للجماعات الحاملة – زورا- للشعارات الإسلامية، جاءت “خبيئة العارف” لتقول أن هناك أناسا أخلصوا للدعوة، ولم تدنسهم السياسة، فضلا عن الميزة الخاصة لهم، والتي من أجلها خصهم “عمار” بحمل رسالته.
- إلي مسامع “الجالس علي الكرسي الكبير” ما تداوله العامة من أنه يوجد كنز تحت مسجد ومقام الشيخ الكبير ” ماضي أبو العزائم”. وأن هذا الكنز لو عثروا عليه، سيُخرج البلاد من أزمتها الاقتصادية الطاحنة، فأشار عليه مساعدوه، بأن هناك ساحر مغربي هو الذي يستطيع تحديد مكان الكنز بدقة. فيأمر بإحضاره، لكن الساحر كي يصل إلي المكان المحدد، لابد أن يعرف كل شئ عن الشيخ الكبير، كيف كان يعيش، أقواله، أفعاله، من اصدقاؤه، الأماكن التي يتردد عليها، الأمر الذي أوقع “ناظر وقف البلد” في حيرة، كيف يمكن الوصول إلي كل هذه المعلومات، مع الاحتفاظ بسرية المهمة، فلا يجد غير المؤرخ وأستاذ الجامعة “خيري محفوظ. يستدعي “ناظر وقف البلد” الدكتور “خيري محفوظ” (عبده مشتاق) وأسند إليه المهمة، علي أنها تكليف شخصي من “الجالس علي الكرسي الكبير” { وأفصح له عن كل شئ، بينما هو يتقافز فرحا، لأن فخامته فد اعتبره مقربا، مادت الأرض من تحته، وهو يسمع إطراء فخامته علي لسان ناظر وقف البلد، فسقط غارقا في الفرح والامتنان، ورأي نفسه علي بعد خطوة واحدة من منصب رئيس الجامعة، الذي يتطلع إليه، أو ناظرا للتعليم أو الثقافة، كما كان يحلم دائما}ص98، ليكشف لنا الكاتب عن انبطاح الكبار، والعلماءعلي أعتاب السلطة طمعا في المناصب .
ويبدأ – خيري محفوظ – مهمته بزيارة الجامع وبعض البلدان التي تواجد فيها الشيخ الكبير، في داخل البلد أو في خارجها “السودان”. وينتهز عمار علي حسن، فرصة التجوال في أنحاء البلاد ليكشف عن ما يموج به الشارع، وسط الناس البعيد عن رؤية وفكر “الجالس علي الكرسي الكبير”، أو ناظر وقفه، ولتعبر الرواية عن نبض الشارع في الحالة المعيشية، حيث ينزل ضيفا علي أحد مريدي الشيخ، فينام في الدور الأرضي ليسمع المارين بوضوح { فكنت أسمع صوت العابرين في الشارع بوضوح.. بعضهم كان يضج بالشكوي من إرتفاع الأسعار، وقلة الرزق، وهناك من كانوا يثرثرون حول مشروع استزراع السمك الذي أسندت إدارته يا فخامة الجالس علي الكرسي الكبير إلي واحد من جنرالات الجيش، وبعضهم كانوا يتحدثون عن بيوت الصيادين التي هُدمت علي أطراف البحيرة}ص120. وفي رحلة البحث، يذهب إلي إدفو ليتعرف علي هروب الأولاد من التعليم، لفلاحة الأرض، وسيطرة رجال الدين الذين يبثون في عقول العامة أن المدرسة تُفسد الأخلاق. ووجد حمي النبش في الأرض بحثا عن المخبوء في باطنها، خاصة في “مخازن يوسف”، وكأن الكاتب يسلط الأضواء الكاشفة لتلك الجهات المنسية من ذاكرة البلد.
لينتهي به الأمر إلي كتابة تقرير بما وصل إليه، ليُعرَض علي “الجالس علي الكرسي الكبير” غير أنه وجد نفسه مضطرا لتقديمه لمن كلفه “ناظر وقف البلد”، ليحدث التحول في مسار حياته، ومسار الرواية.
بعد أن قدم “خيري محفوظ ” تقريره ل”ناظر وقف البلد” فوجئ بأن التقرير لا بد يمر علي جهات الأمن، التي سبق أن كتب عنها سلسلة مقالات وعن تاريخ العسس يتعجب “خيري” {حتي هذا التقرير؟} فيجيبه الناظر: { أي شئ، صغيرا كان أو كبيرا. إن ضباطه يَعُدون علي الناس أنفاسهم، خصوصا أمثالنا.. العارف لا يُعرف يا دكتور، وأنت سبق أن كتبت عن تارخ العسس.
- تاريخهم وليس حاضرهم.
- حاضرهم ماضيهم وماضيهم حاضرهم، إنهم أكثر الأشياء بقاء قي حياتنا، يجمعون المعلومات عن كل الطامحين، ويراقبون كل من يستشعرون خطره، ويدبرون المكائد، ويصلون إلي ما لا نصل إليه}ص242.
وبالفعل كان الثأر القديم، والعطايا المنتظرة من منافس “خيري محفوظ” ما دفع برئيس الأمن أن يكتب تقريرا للجالس علي الكرسي الكبير، بعدم أمانة رجل التاريخ في التقرير، وأنه خلال جولاته وزياراته كان يفصح بالغرض للناس، مع إهانة شخص الجالس علي الكرسي. ويتم إبلاغ الإعلام بسرقة “خيري محفوظ” لمستندات مهمة، ويتم تجريسه بكل وسائل الإعلام، الأمر الذي يطلب “ناظر وقف البلد” منه الهروب والاختفاء. ويوحي إليه بأن أفضل مكان للاختفاء هو، لدي شيخ الطريقة العزمية. فينتهي به الأمر إلي الاختفاء لدي الشيخ “مرتضي” بالصعيد” ليختفي ويقرأ كل كتب الشيخ “أبو العزائم” كلها، ويخرج بأنه لم يكن قد علم عنه شيئا، وان كل مريديه، لم يأخذوا عنه سوي الأوراد والذكر، وخفي عنهم ما توصل هو إليه. ليأتيه ضابط من رجال أمن السلطة، ويعرض عليه أن “الجالس علي الكرسي الكبير” قد عفا عنه، ويعرض عليه منصبا كبيرا كان يطمح إليه، وأن الأموال ستنهمر عليه، بشرط أن يكتب ما سيوضحونه له، وهو لا يستطيع الرفض. غير أن “خيري محفوظ” كان قد اكتشف الكنز في كتب الشيخ الكبير، ومنه تعلم ليتخذ موقفه النهائي.
التقنية الروائية
رغم الغمزات الكثيرة التي يسربها عمار بين سطور صفحاته، والتي تعتبر كشف غطاء المستور – المعلوم – من سوءات الواقع المعيش، بما تقترب معه من المباشرة، وكأنها المواجهة، إلا أنه غلف ذلك بإختيار الجمل الموحية، والمشحونة بالصور الشعرية، التي تعمل كملطف للحرارة، مثل:
{فلم ير سوي عينيَّ قطة تجرحان العتمة الراقدة تحت الجدران}.
{وقفزت إلي رأسه من قلب الزمن البعيد حفرة تتلألأ}.
{فتح عينيه فملأهما البلاط البني، الذي يتمدد في جسد الممر}.
لنصبح أمام صور تتجسد فيها الجمادات، وتتحرك، لتصنع حركية في الرؤية، وإنعاشا لذهن القارئ، فضلا عن تمهيدها للواقعية السحرية التي حفلت بها الرواية، وما سنأتي علي ذكره.
كذلك كان استخدام المسميات مثل: “الجالس علي الكرسي الكبير” وما فيه من الغمز الذي يدين من حول الرئيس، حيث تكشف ولاؤهم الدائم للكرسي وليس للشخص، متحولين إلي قبلة الكرسي، أيا كان الجالس عليه. و .. “ناظر وقف البلد” والذي يوحي بتحول البلد إلي (وقف) خاصة الجالس علي الكرسي الكبير، والذي تتم كل الأمور باسمه، بالمنح والمنع، وبالثواب والعقاب، فضلا عن ضعفه – “ناظر الوقف – أمام جهاز أمن السلطة، الأمر الذي يجعلها، فوق الجميع. وهو ما كان واضحا في أحداث الرواية، وما نستطيع توضيحه في الآتي:
الحركية في إيقاع العمل، الذي انقسم إلي ثلاثة أقسام. القسم الأول، والذي كان بمثابة التعريف ببدايات الخيوط، وبعض الإضاءات حول سير العمل، وقد جاء الإيقاع فيه معتدل، وكأن القارئ يسير علي أرض مستوية، فكان السير عليه معتدلا. بينما جاء القسم الثاني والذي دار حول رحلات البحث، خاصة البحث في التاريخ، وما يتطلبه ذلك من تأمل وتدقيق، فجاء السرد أقل إيقاعا، وكأن القارئ يسير بين عدد من اللوحات، وعليه أن يبطئ السير أمام كل لوحة. بينما جاء القسم الثالث ليدخل القارئ في عدد من المكاشفات، والاكتشافات، والخوف والترقب، فجاء السرد بإيقاع سريع، يدفع بالقارئ للهاث خلف السطور، سعيا للوصول إلي ما ستسفر عته المطاردة. خاصة أنه استخدم إسلوب التشويق المعتمد علي الإرجاء لبعض المكاشفات مثل:
نتعرف في القسم الأول علي “ماهر” و “عليوة” أحدهما حفيد الشيخ الكبير، والآخر زميله في العمل. يقتنعان بوجود الكنز، وفكرا في الحصول عليه ، للخروج من ضيق ذات اليد، وبؤس المعيشة، ويظنان أنهما من يعرف السر فقط، ليفاجآ بأن الموضوع انتشر، ووصل إلي مسامع جهاز أمن السلطة، الذي يستدعيهما، وبعد طول الاستجوابات، والتهديدات، والتخويف، يتم الإفراج عنهما. لنكتشف في القسم الثاني أنهما يتحدثا مع ” خيري محفوظ” علي أنهما مازالا يبحثان ويخططان، للحصول علي الكنز، ويحاولان أن يصلا منه علي ما يمكن أن يكون قد أخفاه في بحثه عن الشيخ “أبو العزائم” ويفيد في استخراج الكنز، وأخيرا هما من دبر له الهروب إلي صهر أحدهما “الشيخ مرتضي”. وفي القسم الثالث نتعرف علي أنهما لم يخرجا من أمن السلطة إلا بالاتفاق علي العمل معه، وأن كل ما فعلوه مع “خيري محفوظ” كان باتفاق معهم.
وبينما كان “ناظر وقف البلد” في نهايات القسم الأول قد اتفق مع “خيري محفوظ” – من واقع حبه له، وتعويض أنه من رشحه للمهمة، وكانت نهايته الاتهام والتجريس، فأراد أن يكفر عن ذنبه. بينما في القسم الثالث – الذي تجمعت فيه كل الخيوط – نكتشف أن ذلك كان بالاتفاق – أيضا– مع جهاز أمن السلطة، التي يخشاها، ولا يستطيع لها ردا.
وكذلك علي الرغم من حضور الشيخ “أبو العزائم” منذ بداية الرواية، إلا ان التساؤل لم ينقطع طوال القسم الأول أو الثاني، (إذا كان عمار علي حسن هو من أدان الجماعات الحاملة للشعارات الإسلامية في “جبل الطير” وفي الكثير من مقالاته.. هل ينكص هنا، ليرفع عنها الوزر؟). غير أن القسم الثالث – أيضا – يكشف عن أن شيئا من ذلك لم يحدث، بل يؤكده في تلك الصورة التي رسمها للذاهب إلي جهاز أمن السلطة، ذلك الرجل ال{ ربعة تصل لحيته إلي سرته، رأسه حليق، وعيناه ساجيتان بسكينة عابرة، لتبدو أكثر قسوة وصرامة، والذي يزحزح جسده الثقيل} ليخبر رجل الأمن بأنهم {يعتزمون تفجير ضريح “أبو العزائم”} . فيسأله رجل الأمن { هل كتبت معلوماتك في تقرير كالعادة؟}. ليكشف عن أنه لازال عل قناعاته بحقارة تلك الجماعات، التي تحمل شعارات الإسلام، وهي ليست إلا عملاء لأجهزة الأمن. بينما الشيخ “أبو العزائم” إعترف بالوطن المصري – علي عكس رؤية الإخوان التي كانت لا تعترف بالأرض، وأن الوطن هو الإسلام في أي مكان – وذلك في خطابه “أبو العزائم” لسعد زغلول:{ وأشكركم يا دولة الرئيس علي الحجة التي أفهمتموها لأنفسكم بالمسارعة إلي ما به صحة الجسد المصري، وأرجوكم بعد أن ظهرت لكم نتيجة جمع كلمة الأمة أن تداوا بقية أعضاء الجسد المبارك حتي تعم المسرة كل بيت بوادي النيل، بل يسري السرور إلي كل أمة إسلامية وشرقية}ص309. ولهذا كان اختيار الجماعة الصوفية، والحزمية تحديدا، إختيارا مدروسا من الكاتب.
ثم يكشف لنا القسم الثالث عن (لماذا كانت جماعة الصوفية، والعزمية تحديدا؟). حيث يكشف لنا الرؤية في حديث “خيري محفوظ” مع شيخ العزمية {معاذ الله أن تكونوا كما يظنون، طول عمر العزميين لهم في النضال باع طويل، شاركوا في حرب فلسطين عام 1048، ومواقفهم الأخيرة خير شاهد علي أن نضالهم لم ينقطع}. فيرد الشيخ { لم نكن سوي قطرة في بحر المصريين المنتفضين ضد الظلم والفساد في ثورة يناير}ص256، 257. علاوة علي الخاصية الأهم، والتي كانت نقطة التحول في شخصية “خيري محفوظ” والتي تعتبر النقطة المحورية في الرواية، والتي خرج بها مكتشفا “خيري محفوظ” وبينما الآخرون ينظرون إلي الجماعة علي أنها مجموعة من الدراويش، حين يقول باحث التاريخ ودارسه :{ تعلمت هنا كبف يهون كل شئ في سبيل أن يكون الإنسان ما يريد}ص316. وتتحدد تلك الخلاصة { لقد كان أبو العزائم عصيا علي الاستخدام من قبل الإنجليز وأحزاب الأقلية الموالية لهم، لذا ضيقوا عليه الخناق، ووضعوا في طريقه الأشواك، وتركوا مشروعه يدمي ويذبل ويخبو، بينما صنعوا هم العملاء الذين شقوا لهم مسارات محددة ليمضو فيها، وكان عليهم أن يمروا طيلة الوقت من باب الخدم}ص317.
لذا كان قرار “خيري محفوظ” النهائي ألا يستجيب لمحاولة جهاز أمن السلطة بعد الآن، وألا يبيع نفسه، لا بالترغيب، ولا بالتهديد، وقرر الهروب من رجل الأمن وجهازه، إلي السودان- حيث كان في بداية الرحلة بحثا عن جمع المعلومات، وصولا للمنصب الذي كان يحلم به- فقد اصبح المنصب –أمام ثمنه – لا أهمية له.
وإذا كان “عمار” قد ترك لنا النهاية (مفتوحة)، حتي لا نعلم إن كان سينجح في عملية الهروب، أو أنه سيفشل، وحينها سيكون قد حاول، غير أنه لم يتركنا نتساءل عما كان “جهاز أمن السلطة يريده أن يكتب؟. حيث كان الخيط قد بدأ في القسم الثاني، في جلسة “خيري محفوظ” مع شيخ الطريقة، وكل من “ماهر” وعليوة، يتدارسان كيف تسرب التقرير للإنتر نت، وما هي المستندات التي يدعون أنها سُرقت {الصحف تتحدث عن وثائق أخري ضائعة، غير تلك المتعلقة بالإمام “أبو العزائم” وأيامه، لم تسمها، لكن موقعا إليكترونيا يُبَث من خارج مصر بقول إنها وثائق تخص حدود الدولة من أيام محمد علي الكبير.
ضرب شيخ الطريقة بيده علي المنضدة وصرخ:
أتقصد وثائق تخص ما يدور حاليا عن رغبة الجالس علي الكرسي الكبير في التنازل عن جزء من أرض البلاد؟}ص256. ليستدعي ذلك مباشرة قضية تيران وصنافير.
الماضي /الحاضر
دأب “عمار علي حسن” باللجوء كثيرا إلي الماضي، ليقرأ به الحاضر. وفي شبه تبرير لذلك، يوضح المؤرخ “خيري محفوظ” الذي يعيش مع الماضي بأبحاثه وكتاباته {عشت في الماضي ونسيت الحاضر، لكن في الماضي من المآسي ما يكفي لأعرف ما يجري الآن، إنها حلقات متكررة، وكل ما في الأمر أننا استبدلنا الأسماء القديمة بأخري جديدة، فصار جهاز أمن السلطة بدلا من العسس، الذين كانوا أيضا عيون السلاطين والملوك وآذانهم}ص204.
لذا فعلي الرغم من أن “خبيئة العارف” وإن كانت قائمة علي البحث في تاريخ الماضي “الشيخ أبو العزائم” – الراحل من نحو ثمانين عاما – إلا أنها تنغرس في قاع الحاضر، بالعديد من الإشارات التي تشير إلي زمننا المعيش، مثل:
يضحك “ماهر” و “عليوة” بصوت عال، فسألهما بعض زملائهم في العمل عن سبب الضحك، قال ماهر هل سمعتم آخر نكتة، وأجابوه نسمع، فقال لهم ماذا ستدفعون؟ { – نعم، فحتي الضحك في بلدنا صار له سعر بعد تعويم الجنيه. وعلق “ماهر” بعد أن زفر في حرقة:
-عوموا الجنيه فغرقنا نحن.}ص30.
- كتب شيخ الطريقة إلي ناظر وقف البلد {إذا أردت أن تجدد الخطاب الديني،كما أسمعك تقول في كل مكان، فعليك بإرث شيخنا الكبير، ففيه كل ما تبحث عنه}ص58.
ويتحدث السارد عن “ماهر” و”عليوة” { تواعدا غير مرة في ميدان التحرير، ووقفا يهتفان مع الهاتفين بسقوط النظام، وارتفع صوتهما في أروقة المصلحة، وجهرا بالحديث عن بعض العمائم الملفوفة علي فساد وعفن، وعن الجيوب التي انتفخت من أثر النهب}ص65.
وأيضا{ من أين ينفق شيخ الطريقة علي الحزب السياسي الذي يريد تأسيسه؟}ص79.
وكلها إشارات إلي وقائع فعلية علي أرض الواقع في الزمن المعيش، لا يملك القارئ منها فكاكا.
الواقعية السحرية
الواقعية السحرية، في أبسط معانيها، هي رسم أحداث أو مواقف، أشبه بالحلم، حيث تخرج عن العالم المألوف، وإن بدت في ظاهرها، كالعادي. وإن اقتصرت علي رؤية الشخص ذاته، في الحين الذي يؤكد أنها قد جرت علي أرض الواقع. فالحالم يري أشخاصا ويحادثهم، إلا أنه لا يذكر ان ذلك كان حلما، وإنما هو حقيقة.
والواقع الصوفي، أقرب ما يكون لذلك التصور، حيث تتجسد الأشياء والأشخاص في ذهن ومخيلة الصوفي، حتي يري أشخاصا، وأشياء، ربما مر علي موتهم مئات السنين. وهو ما جعل استخدام هذه الواقعية السحرية في “خبيئة العارف” منطقيا، ومبررا، ومضفرا بصدق فني. وهو ما يعبر عنه أوفي تعبير، ما دار في ذهن “خيري محفوظ” بعد رؤيته لشخص مجهول، يظهر له فجأة، ويختفي فجأة: { لكن صورة الرجل الغريب لم تغب عن ذهنه. لم يكن حلم يقظة، ولا هلاوس بصرية. كان يراه ويحدثه، وهو يتطلع إلي هيئته الغريبة، وملامحه التي يسكنها زمن بعيد، وملابسه التي لا تنتمي لهذا الزمان}ص201. وهو ما حدث كثيرا مع “خيري” وكأنه إتصال غيبي، يؤكد وحدة الكون، وتواصله، في رؤية الصوفية، وما يبرر، تلك الوقائع المنسوبة لكبار رجال الصوفية، ومنهم “أبو العزائم” وما ذُكر عنه في الكتاب المشار إليه في الرواية “الجفر” حيث يُرجع تلك الرؤي إلي { صفاء الروح الذي يكشف للنفس أسرار الغيوب وخفايا الكون، والإلهام الذي يختص به الأخيار من الصالحين من عباده إكراما من الله تعالي لهم}(ص34 من الكتاب المشار إليه). وهو ما يعود بنا إلي فكرة الكنز، والذي يعبر عنه ذلك الشخص (الدرويش) الذي أتي “ماهر” ليسأله إن كان يبحث عن الكنز، فسأله “ماهر” وهل تعرف مكانه فأجاب الدرويش بالإيجاب { – قل لي أين هو، ولك منه نصيب.
أغمض الرجل عينيه، وارتسمت علي شفتيه ابتسامةهادئة، ثم مد يده ووضعها علي صدر “ماهر”، وضغط قويا، ثم قال له آمرا: – احفر هنا}ص41. وليدخل بنا إلي صميم الرؤية الروائية، وهي أن الكنز بداخلنا، وأن التغيير من داخلنا، وأن رؤية العالم، في داخلنا. وهو -أيضا- ما يتفق مع ذلك الحديث الشائع الذي أكد بعض الفقهاء أن لا أصل له، وأنه من وضع بعض الصوفيين، والذي يقول [عبدي أطعني تكن عبدا ربانيا يقول للشيء: كن، فيكون]. لنصل في النهاية – إلي ما نذكره كثيرا – من أن الرواية لم تعد للإستنامة، وإنما أصبحت رسالة، يبذل فيها الكاتب الكثير من الجهد، ليجعلها مقبولة ومستساغة، شكلا وموضوعا، ويطلب من القارئ أن يبذل هو أيضا مجهودا لفك شفرتها، فيتم التواصل، وتُؤتي الرسالة ثمرتها، وهو ما نجح فيه عمار علي حسن بكثير من الحرفية، التي لا تخلو من التلقائية، ليكشف بها عن خبيئة ما نعيشه علي الأرض المصرية