د. عايدي على جمعة
يبدو عنوان رواية “السلفى” للكاتب الدكتور عمار على حسن ذا دلالة خاصة، حيث ينسحب هذا العنوان على البنية الكبرى للرواية، فالمروى عليه أحد السلفيين المتشددين الذين سافروا إلى جبال أفغانستان، ومارسوا القتل والإرهاب ضد من يظنونهم خارجين عن الملة الإسلامية، لذا يبدو التجاوب بين العنوان وأحداث الرواية، حيث يمثل العنوان بؤرة دالة تشع ألقها على موضوع الرواية.
كما تتجاوب الرواية مع ما يدور فى مجتمعنا خاصة، والمجتمعات العربية عامة، من أحداث يسهم الإنسان المتشدد فى صنعها، وينفعل بها المجتمع.
تستغرق الرواية إحدى وعشرين عتبة، هى مجموع عتبات الرواية، وكل عتبة من هذه العتبات تقوم مقام فصل من فصول الرواية.
تنطلق رواية “السلفى” من حوارية بين الراوى والمروى عليه، وهذه الحوارية أحد طرفيها صامت، حيث استأثر الراوى بسلطة الحكى موجها خطابه للمروى عليه، وهناك علاقة قرابة وثيقة وقوية جدا بين الراوى والمروى عليه، حيث يقع المروى عليه موقع البنوة من الراوى، ومن هنا نجد تكرارا لافتا لكلمة “يا ولدى” من قبل الراوى.
وعلى الرغم من هذه العلاقة القوية بين الراوى والمروى عليه، فإن هناك خلافا حادا على مستوى التوجه والرؤية بينهما، وقد بدت طبيعة عمل الراوى، بوصفه محاميا ضليعا فى القضايا الفكرية، منسحبة على خطابه الموجه للمروى عليه، وتحولت بعض المقاطع فى الرواية إلى جزء من مرافعة فكرية تؤسس للفهم المختلف عن فهم المروى عليه لطبيعة التدين وسماحة الدين الإسلامى، فظهرت العملية الصراعية بين الأفكار متجاوبة مع هذا الصراع الفكرى الدائر فى المجتمع حول الدين فى طبيعته، وما يدعو إليه وفهم بعض المتشددين له، هؤلاء المتشددون الذين ذاق المجتمع منهم كل ألوان الويل.
وتبدو طبيعة الراوى العليم بالشخصيات والأحداث منسحبة على رواية الدكتور عمار على حسن، فهو الناطق الأكبر فى الرواية، تأتى الأحداث وأصوات الشخصيات الأخرى من خلال صوته هو، وليس هناك صوت حقيقى يعترض عليه، أو يقارعه الحجة بالحجة، أو يفكك مقولاته، وإنما هو الذى يفكك مقولات المتشددين، موجها دفة الخطاب تجاه ابنه الحاضر فى نص الرواية، ولا يسمح لشخصية متشددة أن تقف بسهولة فى مواجهته.
كما بدا الصمت التام من المروى عليه متجاوبا مع انغلاقه، وعجزه عن الحوار الذى يؤسس لفهم الطرف الآخر، واكتشاف مواطن النبل التى هو عليها، وهنا تكشف طبيعة المروى عليه عن نفيه للآخر، وخوفه من عملية الحوار نفسها، فى حين يبدو حرص الراوى التام على عملية الحوار مع المروى عليه المنغلق على ذاته ذا مؤشر واضح فى الكشف عن طبيعته التنويرية، وكشف حرصه الكبير على إقناعه بسبب علاقة القربى مع المروى عليه، وما يستشعره الراوى من تقصير تجاهه، حتى وصل إلى هذا الانغلاق فى الفهم.
كما يتجاوب صمته أيضا مع الحرص الكبير لدى المتشددين على عدم إطلاع الآخر المختلف معهم على أفكارهم وما يدعون إليه، حيث يعتبرون أنفسهم سدنة الحقيقة وحراسها، وعلى الرغم من حضور المروى عليه حضورا واضحا فى خطاب الرواية فهو لم ينطق، وإنما كان متلقيا فقط لكلام الراوى، وكان اعتراضه يأتى من خلال حركات يبدو عليها الضيق حينما يسمع كلاما لا يوافقه من الراوى، وكان هذا الاعتراض يأتينا من خلال صوت الراوى، لأن الراوى يعرف أنه أسكت المروى عليه، لذا ينقل رد فعله، مما ألمح إلى إمكان أن يكون هذا الحضور للمروى عليه محض خيال فى ذهن الراوى الذى يرغب رغبة عميقة فى عودته.
تتخذ الرواية من إحدى قرى الصعيد فى محافظة المنيا فضاء مكانيا محوريا لها، فتبدو أجواء القرية من خلال أشجارها، مثل الجميز والكافور، ومن خلال طيورها، مثل العصافير والبوم، وحيواناتها، مثل الجاموس والبغال والحمير والجمال والغنم والضفادع والكلاب، وهناك الزير أمام البيت الذى يشرب منه العابرون، وهناك أيضا عتبات بيوتها، حيث تمثل كل عتبة حكاية مختلفة عن العتبات الأخرى، فالعتبة هى المدخل للبيت، وفى كل بيت حكاية إنسانية تنبض بإنسانية الإنسان، وما يتأرجح فيه من انحطاط وسمو، ولكنه فى النهاية إنسان يعرف الله سبحانه وتعالى ويحبه ويرجو مغفرته.
ولا يخفى ما تستدعيه كلمة العتبة من قداسة، حيث تستدعى هذه الكلمة عتبات البيت والمقام، مما يلمح بطرف خفى إلى قداسة الإنسان، وأنه لا يستحق أبدا القتل من أخيه الإنسان بسبب اختلاف وجهات النظر، لأن الإنسان هو أغلى ما خلق الله، وهذه النقطة بالذات هى الجوهر الصلب فى هذه الرواية، والحجة الدامغة لأفكار المتشددين الذين يمارسون القتل بلا رحمة.
وهذه العتبات المختلفة نموذج للإنسان فى كل زمان ومكان، ونموذج لعملية الاختلاف الذى يسوده التسامح مهما يكن هذا الاختلاف فى الدين والمذهب والرؤية والمزاج.
لقد وضع الراوى / الأب نصب عينيه أن يكشف بخبرته وسعة أفقه عن الجانب الإنسانى لكل بطل من أبطال كل عتبة للمروى عليه / الابن.
وتبدو مهمته الأساسية متجسدة فى الكشف للمروى عليه / الابن عن الضلال الرهيب الذى هو عليه، فى تكفيره للآخر، ونهوضه بقتله وهو فى قناعة تامة بأنه على الحق والآخر على الباطل.
وقد كشف صوت الراوى عن خلفية ثقافية كبيرة ومعرفة بأحداث محيطه، وناسه، وخلفية اجتماعية أيضا مما كان له أبلغ الأثر فى تفكيك مقولات السلفى المتشدد، واستخدم معرفته القديمة بنماذج أخرى للمتشددين الذين يعرفهم المروى عليه الآن، ووثق فيهم، وفى مواقفهم، فكشف الراوى له عن جوانب من سيرتهم القديمة، وما كانوا يمثلونه من كذب، كما بدا فى شخصية مطيع عبد السميع ـ ولا تخفى دلالة الاسم فى الإيحاء بسلوك صاحبه ـ الذى كان رفاقه يطلقون عليه “أبو لمعة”، لشهرته العريضة فى الكذب، والذى أصبح شخصية مهمة فى هذا التنظيم المتشدد، أو من قدرة عقلية محدودة، كما بدا فى شخصية “أسعد” الذى كان منذ طفولته ينفذ الأوامر بحذافيرها من غير تعقل على الإطلاق، ورافق خروفا كبيرا وسار كهيئته، وهما يقودان قطيعا من النعاج والخراف، وذلك حينما طلب منه راعى الخراف ذلك، ولا تخفى دلالة الاسم “أسعد” فى التجاوب مع قول المتنبى الشهير:
“ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله.. وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم”
فبدا “أسعد” ذو الجهالة الواضحة سعيدا، وهو يتشبه بالخروف الذى يقود القطيع ويسير كهيئته، وعندما كبر انتهى به الحال إلى التشدد ورفع السلاح فى وجه إخوته من بنى البشر دون تعقل أيضا.
وقد بدت شخصية “أسعد” فى الرواية منفرة إلى درجة كبيرة جدا، وقد سخر الراوى منه سخرية رهيبة، لأنه أول من بايع عمدة القرية غريب الأطوار حينما جعل من البغل الذى يركبه حاكما للقرية، وطلب من أهل قريته المبايعة على ذلك، فكان “أسعد” أول من بايعه، وظهرت صورته منفرة سواء على مستوى الشكل بلحيته الطويلة طولا مفرطا أو على مستوى المضمون، من حيث الأفكار التابعة وادعاء حب الحق، وهو منه براء، وقد جعل الراوى منه رمزا من رموز التشدد الدينى، ليوضح للمروى عليه حجم النفور من مثل هذه الشخصيات.
لقد استطاع الراوى أن يثير بثقافته اللافتة قضايا لها خطرها فى البنية الاجتماعية للمجتمع المصرى خاصة، والمجتمع العربى عامة، وكانت قدرته على المقارنة وضرب المثل حاضرة فى مقولاته، واستخدم ذلك فى عملية التفكيك الكبرى لمقولات تعتمل داخل الكثير من بنى الوطن، ورأس هؤلاء المتشددين الذين حاولوا فرض هذه الأفكار بالقوة، حتى إن كان الدافع الذى يحركهم دافعا ماديا بالأساس، ولكنهم استغلوا هذه الأفكار فى عملية الخداع الكبرى للكثير ممن اتبعهم من حسنى النية، والمروى عليه واحد ممن انخدع بهم بحسن نية، من وجهة نظر الراوى.
وظهرت النماذج الروائية التى تتقاطع مع شخصية المروى عليه المتشدد أقل بكثير جدا من النماذج الروائية التى تملأ المجتمع، مما يؤسس لقلة هؤلاء المتشددين بالنسبة للكثرة الكثيرة لأبناء المجتمع الذين تبدو طيبتهم وإنسانيتهم حتى لو كانوا خطائين.
ولكن على الرغم من قلة هؤلاء المتشددين، فإنهم بدوا فى هذه الرواية للدكتور عمار على حسن أكثر قدرة على إزعاج الكثيرين، وأكثر حركة فى اتجاه العدوان عليهم، وبدا فضاؤهم المكانى شديد الاتساع من مصر إلى جبال أفغانستان والسودان وليبيا، فبدوا عابرين للأوطان، وأقل قدرة على التمسك بطين الأرض التى نشأوا فيها، بعكس الجموع الباقية من شخصيات الرواية التى بدت حركتهم محدودة، عبر مدن أو قرى قليلة فى وطنهم، ولم يسببوا إزعاجا حقيقيا لإخوانهم من بنى البشر.
لقد بدت شخصيات العتبات فى هذه الرواية معجونة بطين أرض مصر فى منطقة الصعيد، وبدت عملية انحياز الراوى للبسطاء والمهمشين فى هذا المجتمع، وقد بدا الفقر والحرمان والمعاناة سمة عامة تغلب مظاهرها على معظم شخصيات الرواية، مما تجاوب مع ما يعانيه الصعيد فى مصر عدم الاهتمام المطلوب، وتراجع مستويات التنمية فيه.
كما أن عملية الاستدعاء لهذه الشخصيات جاءت من الماضى الذى عايشه الراوى، وخبرة، فهو يحكى عن معرفة اختبرها فى الغالب، ولم يعشها المروى عليه، بسبب حكم السن، ولكن بعض الشواهد والآثار تنطق بما كانت عليه هذه الشخصيات.
ومن هنا، فإن البنية الزمنية للرواية تقوم على استحضار الماضى، من خلال عمليات الارتداد الكثيرة فى كل عتبة أكثر من استحضار المستقبل،
فمعظم شخصيات كل عتبة قد انتهت حياتهم، أو وصلوا إلى درجة متقدمة فى السن، وبقيت آثارهم شاهدة عليهم.
وربما يشير الرجوع إلى الماضى بطريقة ما إلى طبيعة “السلفى” الذى يعيش فى سجن الماضى ذى الجدران الأسمنتية المصمتة، ولا يحسن إصاخة السمع لصوت الحياة العميق، وليته يكتفى بفعل ذلك، ولكن الطامة الكبرى هى تلك المحاولة الدءوبة منه لفرض رؤيته للعالم على المجتمع، ومحاولته المستميتة لإيقاف حركة تطوره، بل وجره للوراء، حتى يعيش فى عصر غادر هذه الحياة منذ أمد بعيد.
كما أن البنية الزمنية فيها أقرب إلى البنية الدائرية، ففى كل عتبة تتحرك البنية الزمنية من نقطة ماضية فى تاريخ شخصيتها المحورية حتى تصل إلى الحاضر، ثم لا تلبث فى العتبة التالية أن ترتد إلى تاريخ شخصية أخرى حتى تصل إلى الحاضر، وهكذا فى كل عتبة من عتبات الرواية الإحدى والعشرين.
وعلى الرغم من أن الرواية تكتفى بإحدى وعشرين عتبة، فإن نهايتها مفتوحة لتستوعب كل شخصية وردت فى هذه الحياة، لأن شخصيات العتبات نماذج للإنسان وليست حصرا له.
وتبدو النبوءة ذات حضور فاعل فى هذه الرواية، فهناك قلق عام لدى شخصية الراوى، وهى الشخصية المحورية الأولى فى هذه الرواية على الشخصية المحورية الثانية وهى المروى عليه الذى هو فى الرواية ابنه المهاجر إلى جبال أفغانستان، ممارسا للقتل ضد من يظنهم خارجين عن الملة، وهنا يبدو الراوى فى أشد الحاجة إلى عودة هذا الابن الضال، فتنهض النبوءة بدورها الفعال، لأنها وجدت تربة خصبة لها فى نفسية الراوى، وقد جاءت النبوءة فى البداية على لسان الشيخة زينب، إحدى الشخصيات الثرية فى بداية هذه الرواية، متنبئة بمرور الراوى على إحدى وعشرين عتبة، لكى يجد ابنه فى النهاية.
كما بدت النبوءة أيضا على لسان الشيخ إسماعيل، بطل العتبة العشرين من عتبات الرواية، حينما سأله الراوى عن عودة المروى عليه / الابن الضال، فقال له إن الغائب سيعود والحاضر سيغيب.
وتعد ثيمة النبوءة من الثيمات المحورية فى الثقافة العالمية، مما جعل لهذه الرواية تجاوبها العميق مع ما يعتمل فى اللاشعور الجمعى للإنسانية فى قناعتها بأثر النبوءة الفاعل فى المصير الإنسانى، ومحاولة الإنسان عموما سمع همسات الغيب، من خلال أشخاص يقنعونه بقدرتهم على هذا التنبؤ.
وعلى الرغم من الرجاحة الواضحة للراوى، وقدرته العقلية الكبيرة على الغوص فى أعمق المسائل التى تتطلب حضورا فذا للعقل، فإنه بدا فى نهاية الرواية وكأن قدرته العقلية ذات الوضوح المنطقى محل شك، لأن المروى عليه بدا فى نهاية الرواية أقرب إلى خيال فى ذهن الراوى منه إلى الحقيقة.
ومن هنا، فإن بنية المونولوج تتأكد فى نهاية الرواية، وكأن الراوى يكلم نفسه أو استحضر شخصية ابنه لينهض بالرواية عليه، وذلك طبعا مع افتراض حضور الجمهور فى ذهنه، وهذا الجمهور هو جماعة المتلقين الذين يقرأون هذه الرواية وتتوجه إليهم.
لقد بدا الراوى بما يمثله من أبوة حانية، وكأنه يمثل الوطن الذى يحاول بكل طاقته أن يرجع ابنه الضال إلى أحضانه مرة أخرى، معترفا فى الوقت نفسه بتقصيره تجاهه حتى وصل إلى هذا الحد من الغى، وبدت شخصية الابن / الإرهابى وكأنها تتفلت من التجسيد، مما يتواءم مع طبيعة هؤلاء المتشددين المتفلتة من التجسد، وكأنهم أشباح تتفلت من تحديد الدولة لها وقبضتها عليهم.
ومما يلفت النظر فى هذه الرواية للدكتور عمار على حسن اللغة التى كتبت بها، حيث كتبت بلغة محملة بالثمار الناضجة، وحملت بين طياتها أصواتا تراثية لها حضورها فى ذهن المتلقى، فظهر من خلال ذلك مدى التجاوب العميق بين أصوات من الماضى ذى الألق، وأصوات من الحاضر كصوت الراوى وشخصياته المتنوعة.
كما بدا استغلال الانزياحات بكثرة فى بناء الجملة فى هذه الرواية، ولكن رغم كثرة الانزياحات بصورة لافتة، لم تبد شخصيات الرواية وكأنها تتكلم لغة غير لغتها، وإنما كشفت عن طبيعة الشخصية، وما يعتمل فى داخلها من أفكار ورؤى فى توجهها للعالم.
لقد تأكدت الدلالة الكبرى لهذه الرواية من خلال توجهها وتجاوبها مع السياق الاجتماعى لهذه المنطقة فى هذه اللحظة الراهنة.