د. أحمد يوسف
الجاحظ هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري المولد والنشأة والوفاة، صاحب المؤلفات الكبرى في تاريخ الحضارة العربية مثل البيان والتبيين والحيوان والبخلاء ورسائله المجموعة في أربعة أجزاء. وللجاحظ أثر بليغ في الفكر الأصولي، وفي اللغة والبلاغة والأدب والبصر بأحوال العوام والمغمورين في المجتمع العباسي طيلة قرن من الزمان عايش فيه تحولات الدولة والمجتمع وهي تحولات خطيرة تمثلت فيما عرف بالظواهر الاجتماعية الكبرى وعلى رأسها الشعوبية والزندقة اللتان نتج عنهما ما عرف بالشعراء المولدين أو المحدثين ابتداء من بشار بن برد مرورا بأبي العتاهية وأبي نواس ومسلم بن الوليد ووصولا إلى أبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وابن الجهم في القرن الثالث الهجري وما نشأ عن ذلك من حراك نقدي واسع النطاق حول الشعر المحدث وما انتهى إليه عند أبي تمام والبحتري وابن الرومي. فهذه قصة مترامية الأحداث كتبنا عنها مرارا وتكرارا في أبحاثنا وكتبنا ومنها نظرية الشعر قراءة لناقد قديم هو ابن طباطبا، ومفهوم الشعر عند الشعراء العباسيين من بشار إلى أبي العلاء، ومنها أيضا قراءة النص: دراسة في الموروث النقدي، وكتابنا الاستعارة المرفوضة في الموروث البلاغي والنقدي، ومنها ما خصصناه لمسيرة النقد العربي القديم مع ابن الرومي منذ القرن الثالث الهجري حتى العصر الحديث وجعلناها في كتابين. الأول: ابن الرومي الصوت والصدى في النقد القديم. والثاني: نقد الشاعر في مدرسة الديوان. لذلك لن نتحدث في هذا الموضوع هنا. ونقف عند رأي الجاحظ في الشعوبية، ورأي أحمد أمين.
أما أحمد أمين “1886-1954م” فهو علم من كبار الأعلام صاحب الموسوعة الكبرى في التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي والأدبي للحضارة العربية بشقيها المشرقي والأندلسي أعني فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام وهو صاحب القول المعروف حين انتخب عميدا لكلية الآداب بالجامعة المصرية” أنا أكبر من عميد وأصغر من أستاذ” ويصعب علينا الإشارة لكل تراثه العلمي والفكري والتربوي في هذا الحيز المحدود.
وصف الجاحظ الشعوبية وصفا سلبيا في كتابه البيان والتبيين حين قال: اعلم أنك لم تر قوماً قط أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكاً لعرضه، ولا أطول نصباً، ولا أقل غنماً من أهل هذه النحلة، وقد شفى الصدور منهم طول جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقد نار الشنآن في قلوبهم”. فقد رأى الجاحظ أن هؤلاء الشعوبيين ليسوا من العرب وأنهم من الموالي وتحديدا الفرس وأنهم أعدى على دينهم، وأشد استهلاكا لعرضهم، وأنهم أقل غنما، وأنهم بذلك يمثلون نحلة أي طريقا مسلوكا ونزعة معلنة ومعروفة. فالجاحظ ينطلق من موقف الدفاع عن العروبة التي تمثل لديه ثقافة وعقيدة وتاريخا وأن هؤلاء الشعوبية يطعنون في هذا الثالوث: الثقافة والعقيدة والتاريخ أملا في بلوغ سدة الحكم وتسييد الثقافة الفارسية والعقائد والتاريخ.
ومن ثم فإن المواجهة ليست صراعا على الحكم ولكنها في حقيقة الأمر صراع من أجل البقاء. فلابد من إقصاء العروبة أو إقصاء الفارسية. وقد اشتعل هذا الصراع بوصفه صراعا قوميا أي صراعا بين قوميتين. قومية عربية مسيطرة وحالة وقومية فارسية مبعدة ومزاحة. فالفرس لم ينسوا أن العرب أطاحوا بدولتهم وهددوا قوميتهم حين أحلوا الإسلام محل غيره من أديان الفرس، وحين أحلوا لغتهم محل اللغات الأخرى، وأن حلمهم في العدالة والحرية والمساواة والأخوة كما أسسته مباديء الإسلام كان سرابا وأن انتصارهم لثورة العباسيين على الأمويين كان خديعة كبرى لأنهم استجاروا من الرمضاء بالنار. فحين أزاحوا الأمويين، حل محلهم أبناء العم من العباسيين الذين خدعوا كل الموالي بالدعوة لآل البيت التي فهمها الناس فهما ظاهريا على أن آل البيت هم العلويون الذين رفع لهم كل الموالي راية الانتصار وخاب مسعاهم حين كشف نور الواقع كل أوهام الظن.
أما أحمد أمين فيرى أن الشعوبية والشعوبيين من الموالي وتحديدا الفرس لهم الحق في الحرية والعدالة والمساواة وأن انتفاضتهم هي انتفاضة ديمقراطية في وجه الاستعلاء العربي والارستقراطية العربية القرشية سواء أكانت هاشمية أم مروانية، وأنهم يسعون لنيل أبسط الحقوق الإنسانية وهي التحرر من التبعية والإفلات من أسر الولاء لأي قومية حتى لو كانت القومية العربية, وبناء على هذا الفهم فهو يرى أن رأي الجاحظ في الشعوبية لا ينطبق على كل الشعوبيين. فالشعوبية عنده كانت ثلاثة اتجاهات: اتجاه يسعي لاستعادة المجد القديم وأصحابه يطعنون في العروبة وثقافتها ولغتها وعقيدتها وهذا صراع قومي يخبو قليلا ثم يشتعل. واتجاه يسوي بين كل القوميات والعقائد والثقافات ويؤمن بالتحاور والتعايش على أسس واضحة. واتجاه ثالث يعلي من شأن العروبة والإسلام على أسس دينية ولغوية وجغرافية وبيانية.
ولعلنا نلحظ أن أحمد أمين كان منحازا للبعد الإنساني في قراءة هذا الصراع الذي مازالت أسبابه قائمة ومشتعلة. فأصحاب الحضارات القديمة يعتزون بإرثهم الحضاري مهما تكن عوادي الزمن ويسعون أبدا لاسترداد مجدهم القديم بكل ما يتاح لهم من سبل وقد سلك الفرس سبلا ناعمة وعنيفة. أما السبل الناعمة فهي الطعن في الثقافة والعقيدة والتاريخ، وأما السبل العنيفة فخوضهم الحروب العديدة منذ تولي الأمويين الحكم حتى ثورة العباسيين، والانحياز لموازين القوى التي تمكنهم من بلوغ أهدافهم. ولم ينكر أحمد أمين على الجاحظ موقفه ولكنه أنشأ موقفا جديدا بالتأكيد يتناقض مع موقف الجاحظ واعتمد أحمد أمين على قراءة مراحل الصراع بين العرب والفرس وعلى معطيات ثقافاته المعاصرة في بناء هذا الموقف وتأسيسه.
فأحمد أمين أحد أعلام الفكر المستنير مع أقرانه من الرواد في الجامعة المصرية مثل طه حسين وأمين الخولي وعبدالرحمن بدوي وغيرهم. ولكن أحمد أمين لم يذكر موقف أبناء الحضارات القديمة من هذا الصراع الشعوبي وأعني بذلك السوريين والمصريين وأبناء شمال افريقيا في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. لماذا لم يشترك هؤلاء في هذا الصراع وهم مثل الفرس أصحاب حضارات كبرى أسبق من العرب في جزيرتهم وأسبق على ظهور الإسلام؟ وكما دخل العرب بلاد الفرس دخلوا هذه البلاد، وكما سيدوا لغتهم في بلاد الفرس سيدوها في هذه البلاد ونشروا ثقافتهم فيها كما نشروها في كل البلاد التي فتحوها. فلماذا أطلق التاريخ على الفرس لقب الموالي والشعوبيين ولم يطلق على بلاد الشام والعراق وشمال أفريقيا ومصر لقب الشعوبيين أو الموالي؟ هذه أسئلة ليست لها إجابة سهلة ولا وحيدة ولكننا نرى أن شعوب هذه الحضارات في الشام والعراق وشمال أفريقيا ومصر لم تكن شعوبا تتمتع بالاستقلال ولا بالدولة القومية حين ظهور الإسلام وانتشاره. فقد كان الشام ومصر وشمال أفريقيا تحت ولاية الدولة الرومانية في الشرق وكانت العراق تحت ولاية الفرس.
وعندما دخل العرب الفاتحون هذه البلاد كانوا يمثلون أملا لأبناء هذه الشعوب في الخلاص من جور الرومان أو الفرس. وحلت محل الرومان والفرس قومية نسميها القومية الدينية هي الإسلام كما حلت اللغة العربية محل اللغات السريانية والقبطية واليونانية وغيرها من اللغات. فلم يكن لأبناء هذه البلاد دولة يبكون زوالها كما بكى الفرس زوال إمبراطوريتهم ولم يكونوا مشاركين في الثورة على الأمويين ولم يكونوا طرفا في الصراع القومي الذي اشتعل ولم يزل بين الفرس والعرب، وقد ساعد على ذلك البعد الجغرافي عن مركز الدولة الأموية والجوار الجغرافي بين بلاد فارس والعراق والشام. لذلك كان الفرس أس الشعوبية المناوئة من أجل الاستقلال، ولم يكن بلد من البلاد في الشام أو العراق أو شمال أفريقيا طرفا من أطراف الشعوبية ولكن الحس القومي عند الشاميين والعراقيين والمصريين وأبناء الشمال الأفريقي لم يمت وعاد إليه الوعي من جديد عبر مطلع العصر الحديث ودبيب الوهن في مفاصل الخلافة العثمانية. ولهذا حديث آخر