د. محمد السيد إسماعيل
هل نحن فى حاجة إلى الصوفية الآن؟ هل لها ضرورة ملحة؟ وبأي صورة تتبدى في الكتابات المعاصرة؟ فقديما كان ابن تيمية عمدة مهاجمى الصوفية وتبعه تلامذته فى ذلك لكنه عاد وعدل من موقفه كثيرا حين قال “ومن هؤلاء – يقصد الصوفية – من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونا – ومنهم – عقلاء المجانين الذين يعدون فى النساك وقد يسمون المولهين فإذا كانت أحوالهم مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على مافعله من الخير وما ناله من الإيمان” ( د.أحمد الطيب “التجليات الروحية فى الإسلام” جوزينى سكاتولين وأحمد حسن أنور).
وحديثا وصف محمد عابد الجابرى التصوف بأنه “أخلاق الفناء التى تهدف إلى إفناء المذموم من الأخلاق” لكنه يعود فيرى أن “النظام العرفانى الذى أنتج التصوف هو نظام مسؤول عن استقالة ويرى سلبية الحالة التى تضيع فيها إرادة المريد وحريته بين يدى شيخه حتى أصبح أولئك الشيوخ ملوك الآخرة فى الدنيا وبهذا شاعت صفات” التوكل والجبرية وعدم التفكير فى المستقبل – وأصبحت – أخلاق الفناء هى وجه لأخلاق اللاعمل ” (العقل الأخلاقى العربى ـ الجابرى ) كما ربطها البعض بالتخلف والشعوذة وأنها موروث قديم لاقيمة له ولا حاجة إليه الآن.
لا يضع الغزالى تناقضا بين العقل والوجدان ويرى أنهما متكاملان حيث تختلف أداة الفلاسفة وهى “العقل” عن أداة المتصوفة وهى القلب وذلك لأن ” مصدر المعرفة واحد ولكنه يختلف من جهة الأسماء بختلاف الطالبين فمصدر المعرفة عند الفلاسفة هو العقل الفعال.. والعلم الصوفى يختلف عن المعرفة الفلسفية من جهة أن العلم الصوفى لاواسطة فى حصوله بين الإنسان وبين الله ” ( ” الفلسفة الإسلامية فى المشرق ” د.فيصل بدير عون ) فالقلوب عنده كالأوانى مادامت ممتلئة بالماء فلن يدخلها الهواء ومادامت مشغولة بغير الله فلن تدخلها المعرفة بجلال الله ولهذا ينبغى إزاحة شوائب العالم المحسوس من على مرآة القلب بالمجاهدة وبذكر الله حتى يتفجر النور المغروز فى أعماقه. التجربة الصوفية إذن – وكما يرى د.أحمد الطيب – هى فى جوهرها تجربة ذاتية متفردة غير قابلة للتكرار أو الاشتراك ويستشهد على ذلك بقول الشاعر ” عباراتهم شتى وحسنك واحد / وكل إلى ذاك الجمال يشير “
وقد اختلف الباحثون حول أصل التصوف ورأى البعض أنه يعود إلى أصول أجنبية خاصة اليونانية بينما يرى البعض الآخر أنه يعود إلى حركة الزهد التى كان الحسن البصرى من أشهرأعلامها والذى كان يقول عن السلاطين ” والله لو علموا ما نحن فيه من النعيم لحاربونا عليه ” ثم تطورت حركة الزهد إلى مايعرف بالحب الإلهى عند رابعة العدوية التى كانت تقول ” أحبك حبين حب الهوى / وحبا لأنك أهل لذاك – فأما الذى هو حب الهوى / فشغلى بذكرك عمن سواك – وأما الذى أنت أهل له / فكسفك لى الحجب حتى أراك – فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى / ولكن لك الحمد فى ذا وذاك ” ثم تطورت إلى فكرة ” الفناء والبقاء ” عند الجنيد وبعد ذلك اتجهت هذه النزعة الروحية اتجاهين : التصوف السنى عند الغزالى فى ” إحياء علوم الدين ” والإمام القشيرى فى ” الرسالة القشيرية ” والاتجاه الذى يربط بين التصوف وباطن الشريعة عند ابن عربى وأخيرا – منذ القرن السادس الهجرى – تطور التصوف إلى مايعرف بظاهرة الطرق الصوفية.
ولا يرتبط التصوف بالتخلف أو اللاعقل اللهم إلا عند القليل جدا من الطرق الصوفية فالمعروف أن أغلب هذه الطرق قد قامت بدور كبير فى نشر الدين الإسلامى عبر القارات كما أنه – أى التصوف – يعتبر ” ثروة روحية عظمى ليس فقط على مستوى الحضارة الإسلامية بل على مستوى الحضارات العالمية جمعاء لذلك فهو مؤهل لكى يكون مجالا مفتوحا للتلاقى بين الحضارات والأديان ” وفى هذا يقول ابن عربى ” لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبى / إذا لم يكن دينى إلى دينه دانى – لقد صار قلبى قابلا كل صورة / فمرعى لغزلان ودير لرهبان ” وهكذا يمكن القول إن التراث الصوفى قد قدم ” أنماطا ونماذج رائعة تقوم على فكرة المحبة..وإتاحة الفرصة للحوار والعيش مع الآخر ” (” التجليات الروحية…” )
وقد اندهشت كثيرا عندما قرأت تصريح زكى نجيب محمود بأنه متصوف فقد ارتبطت صورة الصوفى عندى – فى ذلك الوقت – بالدرويش الذى لايعى كلامه أما أن يكون صاحب ” الوضعية المنطقية ” متصوفا فهذا هو الغريب ومع دوام المطالعة عرفت أن شيخى الأزهر عبد الحليم محمود وأحمد الطيب من المتصوفة وأدركت أن أبسط معانى التصوف تقوم على ” التخلى والتحلى ” التخلى عن الرذائل والتحلى بالفضائل والقدرة على الاستغناء وعدم الانشغال بعوارض الدنيا والغرق فى الماديات والصراعات وهى معان يندرج تحتها كثيرون.
فى هذا السياق يمكن النظر إلى ما قدمه الروائى والمفكر عمار على حسن الذى يعد أكثر كتابنا انشغالا بالصوفية فقد كانت رسالته للماجستير بعنوان ” التنشئة السياسية للطرق الصوفية ثم وضع كتابيه ” فرسان العشق الإلهى ” الذى قدم فيه أعلام التصوف وكتابه الجديد ” مقام الشوق ” ومقام الشوق هو أحد مقامات التصوف المعروفة من قبيل مقامات : التوبة – الزهد – الورع – الفقر – الصب التوكل – الرضا وهو الذى كان يعنيه صلاح عبد الصبور بقوله ” حين فقدنا الرضا / بما يريد القضا / لم تنزل الأمطار / لم تلمع الأثمار “.
أما د. عمار فإنه يتوقف أمام ” مقام الشوق ” ليجعل منه شوقا إلى العدل والحرية بالإضافة بالإضافة إلى توظيفه هذا التراث الروحى الذى لايتناقض – عنده – مع العقل فى العديد من روايته مثل ” شجرة العابد ” و” خبيئة العارف ” و” جبل الطير”.
و” مقام الشوق ” يقترب من الفن القصصى فهو كتاب ” سردى يحوى مقامات صوفية تجمع بين تحليات روحية وأوضاع اجتماعية وتأملات فلسفية وأحوال نفسية وظروف سياسية ” مما يعنى أن كاتبنا قد وسع من مفهوم المقامات ولم يجعلها قاصرة على بعدها الروحى بل انفتحت على ماهو اجتماعى وسياسى ويجمع الكتاب بين السردى والشاعرى لكن مضمونه يمكن ” وصفه بأنه تعبير طبيعى عن شوق الإنسان إلى المحبة والحرية والعدل والسكينة فى عالم يتوحش ” ولنتأمل قوله ” كلما أنصت إلى وجيب قلبه سمع صرخات أبيه التى كانت تفزعه صغيرا وصرير القلم على ورقة الامتحان وزعيق بوق عربة الشرطة وضربة سوط سجان مكابر وثغاء ماعز انفرد به ذئب جائع فى حقلهم ذات ليلة بعيدة ونفضة يده التى تخرج خاوية من جيبه بعد نفاد راتبه الضئيل، مع هذا كان عليه أن يطمئن إلى نجاته من وعيد ما بعد الموت “.
هذه السطور القليلة تحوى العديد من المعانى حيث تستعيد صرخات الأب المفزعة وصرير القلم ثم ينتقل فجأة من هذا المستوى الاجتماعى إلى المستوى السياسى المتمثل فى ” زعيق عربة الشرطة وسوط السجان ثم يعود إلى المستوى الاجتماعى والعوز الذى يعانى منه المروى عنه الذى لايهمه نفاد راتبه بقدر الاطمئنان إلى نجاته من وعيد الآخرة وبهذا يأخذ ثغاء الماعز الذى انفرد به الذئب بعدا رمزيا دالا على وضعية الإنسان المقهور وفى ” مقام الوطن ” – وهو مقام مستحدث ليس مما سميت به مقامات الصوفية – يناشد الكاتب وطنه فى وله تغلب عليه الشاعرية حين يقول ” أيتها البهية الرضية السخية الصابرة ياأم المكان وأخت الزمان على كفك ولدت المعانى وفوق جبينك رسم الناس معالم أحلامهم الغضة”.
فصفة البهية تستدعى مصر تلقائيا التى يمنحها الخلود مشخصا إياها من خلال صيغة النداء بالإضافة إلى استخدام التقفية الداخلية وتجسيد الأحلام فى صورة حسية والمقام كله مقام فى حب الوطن ومعاداة من يعاديه يقول ” ياجدتنا التى لاتشيخ أكتاف شبابك وسائد لك وأغانيهم دثارك ” ولأن د.عمار يعلم أن الوطن بناسه وليس معنى مجردا نراه يتوقف عند هذا المعنى فى ” مقام الناس ” و” مقام العدل ” الذى يراه ضرورة لكل أمة ” فإن غاب اضطربت الأحوال وهام الناس على وجوههم ” وهكذا يصبح التصوف أداة لمقاومة الظلم وارتقاء بإنسانية الإنسان يقول فى تصريح له ” فى زمن طغيان المادة وتكال الناس مسعورين على كل شىء يكون من المفيد أن نبحث عما يسقى الأرواح الظامئة…وعلينا أن نفرق بين طرق صوفية مارس بعضها دروشة أو خرافات وبين التصوف كمسلك روحى.
ويهمنى فى هذا التصريح تأكيده أن التصوف ليس هروبا أو دروشة وأنه حركة روحية مضادة لشيوع المادية التى حولت الناس إلى وحوش ضارية وكما زاوج كاتبنا بين التصوف والعقل أو الوجدان والنزعة العقلية والعمل للآخرة ومقاومة الظلم الدنيوى فقد زاوج أيضا بين الجسد والروح حيث ينبغى أن يكون الأول فى خدمة الثانى وأن الاشتياق إلى المخلوق هو اشتياق لما أبدعت يد الله وخاقته فى أحسن تقويم وهذا هو الجديد الذى يقدمه كاتبنا إلى هذا الإرث الروحى العظيم.
…………………………..
*نقلا عن مجلة “إبداع”