إبراهيم مشارة
لا تخلو مكتبة من مكتبات الجامعات العربية، ولا مكتبة عامة من مكتبات المدن والحواضر العربية، ولا مكتبة تجارية أو مكتبة خاصة لأي مثقف أو أكاديمي أو قارئ للكتب أو جامع لها من بعض كتب الناقد والعالم والباحث الكبير الأستاذ شوقي ضيف (أولاد حمام، دمياط1910/القاهرة 2005) فما تناثر من تراث شعري ونثري في المدونات الأدبية الكبرى كالأغاني والعقد الفريد والجمهرة وزهر الآداب والذخيرة وغيرها مدونة بلغة عصية على ذوق ولسان العصر صاغه شوقي ضيف في لغة ميسورة بليغة ودقيقة دارسا ومتذوقا وناقدا لهذا التراث الأدبي الضخم منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث ، دارسا الفن ومذاهبه في الشعر العربي والفن ومذاهبه في النثر العربي ثم معرجا على الفنون الأدبية المختلفة وهي تشكل موسوعة أدبية ضخمة كلفت الناقد سني عمره درسا واستقصاء ونقدا بموضوعية وروح لاتكل من البحث والاستقصاء والصبر والعزوف عن الأضواء والعجلة في الحكم والرغبة في المكاسب المادية على حساب الإخلاص والفضول والمعرفة تهيمن على ذلك كله وطنية صادقة وقومية عربية لا غبار عليها وروح إسلامية تتسرب قيمها فيما خطت يمينه تكرس حب العلم ونشره أسوة بعلماء الإسلام الكبار في شتى مجالات الدين والأدب والفلسفة والعلم.
فهو الرائد الذي استلم مشعل الأنوار عن كبار معلميه من كتاب مصر كالعقاد وطه حسين وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وكأنه القنطرة التي عبرت من خلالها أجيال الكتاب والنقاد والدارسين إلى أدب العصر الحديث والمرجع المهم الذي من خلاله يعود الباحث والدارس إلى تراث العرب الأدبي منقبا عن نصوصه وقارئا ومتذوقا.
يتشابه مسار شوقي ضيف الحياتي والعلمي في بعض نقاطه مع المسار الحياتي والمعرفي لأستاذه طه حسين المشرف على أطروحته المهمة (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) والتي لأهميتها طبعها عبد العزيز فهمي- مترجم جوستنيان صاحب المدونة الرومانية الفقهية إلى اللغة العربية – على نفقته الشخصية.
فقد نشأ مثل أستاذه طه حسين في قرية من قرى مصر وحفظ القرآن الكريم وأجاد تجويده وهو في العاشرة وتعرضت عيناه لرمد عولج منه عند حلاق كاد يذهب بنورهما إلى الأبد لولا لطف الله مع بقاء أثر ذلك طيلة حياته ظاهرا على إحدى عينيه في حين فقد طه نورهما إلى الأبد، وفي تلك القرية الوادعة المطمئنة التي يأتيها رزقها رغدا بفضل كدح أبنائها في الزراعة عرف الطفل قيمة الروابط الأسرية والمجتمعية والتكافل الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء مع انتمائه إلى أسرة متوسطة الحال حيث يمتلك الأب بستانا صغيرا وكان ذلك الأب متدينا متعلما تخرج من المعهد الأزهري بدمياط وأم عطوف عليه ، وفي القرية تفتحت نفسه على مكامن الجمال في الطبيعة والإنسان والحيوان وعلى ألوان الثقافة الشعبية كحكايات الجن والعفاريت ورواة السيرة الهلالية والموالد والمواسم الدينية كمولد سيدي أبي المعاطي وكذا الفرق الصوفية.، وحكى ذلك قبله طه حسين في أيامه المشهورة.
رغب شوقي ضيف في بدء حياته العلمية في الالتحاق بدار العلوم واستعد لذلك بالانتظام في دراسته بالمعهد الديني في دمياط حيث درس علوم اللغة والدين من نحو وبلاغة وعروض وفقه وأصول فقه وتفسير على شيوخ ومن المراجع العلمية التي كانت تدرس في ذلك الوقت في تلك المعهد الدينية ومن أمثلتها في النحو الألفية والأجرومية وقطر الندى ومغني اللبيب وغيرها مما جعله فيما بعد يعني بإشكالية تدريس النحو ويدعو إلى تيسيره ناقدا الطريقة الحديثة التي لم تخرج متحكمين في اللغة العربية مع دراستهم لقواعد النحو في حين كانت الطريقة القديمة بمتونها تخرج متحكمين في اللغة نظرا لأنها تقدم الهيكل العام في سردية أبواب النحو راسخا ومرتبا في أذهان الطلبة وبالتدريج ولا يعني البتة تقديمه على طريقة المتون وإنما الإفادة من منهج القدماء في تدريس النحو مع تجديده وتيسيره.
وفي معهد الزقازيق الديني عمق ثقافته الأدبية والدينية حتى ينتسب إلى دار العلوم وتعرف على الأدب الحديث في شعر شوقي وكتابات العقاد والرافعي وطه حسين وهيكل ومن جار لبناني تاجر تعرف على أدباء المهجر خاصة نعيمة وجبران حيث تكرس اتجاهه الأدبي ليتم تكوينه الأدبي بالانتساب إلى جامعة فؤاد (القاهرة حاليا ) لا دار العلوم وكانت تعج بكبار الأساتذة كطه حسين الذي احتفظ له بود كبير وظل يزوره في فيلا رامتان وأحمد أمين ومصطفى عبد الرازق وأحمد الإسكندري والشيخ حسين المرصفي صاحب الوسيلة الأدبيةدبية أدبية وعبد الوهاب عزام وأمين الخولي وقد أشاد بفضلهم عليه جميعا واحتفظ لهم بمشاعر الوفاء والحب الخالص والتقدير الكبير نظرا لجهودهم في تطوير الجامعة المصرية وجعلها عصرية مثل جامعات العالم .
ولم تغب السياسة عن باله على كثرة مشاغله الدراسية وتحصيل العلم واللغات الأجنبية والاتصال بالحركة الأدبية المزدهرة يومها وبمعارك القديم والجديد ومعركة “في الشعر الجاهلي” التي أثار زوبعتها طه حسين ،وكان ميل شوقي ضيف -مثل ميل والده- نحو حزب الوفد وكان يردد بإعجاب شعر شوقي في سعد زغلول لما ذهب مفاوضا الإنجليز:
ويا سعد أنت أمين البلاد
قد امتلأت منك أيمانهـــا
ولن ترتضي أن تفد القناة
ويبتر من مصر سودانها
فمصر الرياض وسودانها
عيون الرياض وخلجانهـا
ومــــــا هو بماء ولكنــــه
وريد الحياة وشريانهـــــا
تتمم مصر ينابيعـــــــــــه
كما تمم العين إنسانهــــــا
فهو انتماء وطني راسخ وإخلاص للوفد ولزعيمه سعد زغلول ورفض لتدخل الإنجليز في شؤون مصر وعمالة بعض الشخصيات السياسية وأحزاب القصر والصراعات الحزبية ومطامع الإقطاعيين حتى تمت تصفية تركة محمد علي بطرد فاروق أثناء ثورة يوليو 1952 وجلاء الإنجليز وعدوانهم الثلاثي على مصر والصراع العربي الإسرائيلي وحرب فلسطين وانتكاسة حزيران وانتصارات أكتوبر كلها لم تغب عن باله وتفكيره وحسه الوطني الصادق مهللا للنصر حزينا على الخيبة بروح وطنية وعربية وإسلامية لا يخفي ولا يداري في أي منها.
عاش شوقي ضيف طالبا في جامعة فؤاد معارك الأدب كالقديم والجديد ومعركة “في الشعر الجاهلي” وظل أحمد شوقي عنده مثالا للشعرية العربية الناصعة في العصر الحديث مدافعا عنه ضد المنتقصين له وقد خصه بكتاب كامل كما أعجب بالعقاد وبأسلوبه وعمق فكره وخصه هو كذلك بمؤلف دافع عنه لما تكالب عليه الخصوم بعد رحيله وكرد جميل للجامعة التي تكون في رحابها وتخرج منها بأرفع لقب علمي انتسب إلى سلك المدرسين بها معيدا أولا فأستاذا فرئيسا لكلية الأدب وقسم اللغة العربية وطبقت شهرته الآفاق بفضل مؤلفاته ودراساته فعمل بكثير من جامعات العالم العربي زائرا أو أستاذا منتظما في لبنان والعراق وسوريا والكويت والأردن وحيث درس كان محط تكريم واحتفاء وتقدير كبير لسعة علمه وتواضعه وحبه لتلاميذه ودماثة أخلاقه حتى قال فيه الشاعر العراقي الحبوبي:
تعجبت الحسناء مني وقد خــــــــــلا
فؤادي من شوق إليها ومن تــــــــوقي
وقالت: أجبني أين شوقك قد مــــضى؟
فقلت: إلى مصر مضى ذاهبا« شوقي»
وداعـــــا وداعـــــــــــا يا أديبا حديثه
ينبئ عــــن حس رهيف وعـــن ذوق
وكان لابد لجهوده العلمية وبحوثه الأدبية ودراساته النقدية أن تتوج بتقدير محلي أولا وعربي ثانيا ودولي اختتاما فنال جائزة الدولة للأدب مناصفة عام 1955 بكتابه “شوقي شاعر العصر الحديث” وجائزة الدولة التقديرية للأدب عام 1979وهي الجائزة التي نالها قبله العقاد وطه حسين وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي عام 1983 وطلبت منه لجنة نوبل في السويد تقديرا له واعترافا برأيه ترشيح أديب عربي لجائزة نوبل عام 1969 ورشح أديبا- أكبر الظن أنه طه حسين- وكتب للجنة أسباب ومبررات الترشيح ولما لم ينل مرشحه الجائزة تلك السنة كرر ذلك في العام التالي لما طلبت منه نفس الطلب وللأسف لم يحظ هذا المرشح بتلك الجائزة.
وكغيره من الكتاب والنقاد والمثقفين الذين ساحوا في بلاد العالم للفرجة أو العبرة والاستجمام أو تلبية لدعوة من مؤسسة علمية أو ثقافية رسمية في تلك البلاد فزار العديد من دول العالم كرومانيا والاتحاد السوفيتي سابقا والدانمرك وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا وتركيا ومعظم دول العالم العربي وحيثما حل كان محط تقدير واحتفاء إلى درجة أن قاعات المحاضرات كانت تعج بالسامعين تقديرا للمحاضر ودرجته العلمية وبحوثه الكبيرة.وسجل ذلك فيما كتبه في سيرته الفكرية والعلمية ،وتكتسي تلك السيرة أهمية فيما سجله من آراء أثناء سياحته عن مشاهداته وآرائه كرحلة الحج وزيارته لتركيا وآثار آل عثمان وتجارب تركيا الكمالية في التحديث ورحلة أوروبا الشرقية التي سجل فيها انطباعاته عن جهود تلك الدول للتحديث الزراعي والصناعي والآثار الإسلامية في الأندلس أثناء زيارة إسبانيا.
ولعل أكبر تكريم لشوقي ضيف واعتراف بعبقريته اللغوية وعمق معرفته وثقافته رئاسته لمجمع اللغة العربية في مصر وعضوية كثير من المجامع اللغوية العربية في العراق والأردن وسوريا وغيرها.
في دراسته الجادة والعميقة للعصور الأدبية وهي مرجع أكاديمي وعلمي لعصور الأدب العربي وهي وحدها تشكل موسوعة كبيرة ،اعترض شوقي ضيف على وصم العصر الممتد من القرن السابع الهجري حتى القرن العاشر الهجري بالانحطاط واعتبر ذلك ظلما للعصر ولازدهار الأدب والثقافة فيه ويأتي في الوقت الحالي من المستعربين الألمان من يدعم هذا الرأي مثل المستعرب الألماني توماس باور فهو يذهب في نفس الاتجاه ويكتب مفندا ومستدلا بالنصوص الأدبية لذلك العصر وغيره كثير من النقاد والمستعربين.
وفي قضية الشعر الحديث اتخذ موقفا وسطا فلم يقبله كله ولم يرفضه كله ودعا إلى عودة القافية والتنويع فيها أسوة بالتواشيح مثلا في محاضرته في بيروت وقد كانت بعنوان”نواقص الإيقاع في الشعر الحر”وإن كان هواه يسير مع المحافظين على عموده ولا يخفي إعجابه الدائم بشعر شوقي وعبقريته وعطائه وشعر حافظ والبارودي كذلك وكان يحظي بتقدير واحترام الشعراء المحدثين- شعراء التفعيلة -ويحضر ملتقياتهم ويدلي برأيه في مودة كبيرة له دون أن يبخسهم حقهم وإبداعاتهم جماليا وأسلوبيا ومضمونا شعريا.