تعودت أن أخلق الحكايات ليس بغرض الهرب كما يظن الجميع، بل لأني أعشق الدهشة وحياتي لا تدهشني أبدأً، وأكثر ما يدهشني هي البساطة ، في ساحة القهوة ذات الجدار الملون بجوار بيت كفافيس كان انتمائي، لم أحظ بمتعة الانتماء لبيت حيث أشعر بالراحة وأمدد ساقاي أمامي وأنا أشاهد “نتفليكس” وألتهم “النوديلز”، وحين رأيت سرير “كفافيس” لسبب ما شعرت أنه سريري ، وعشقت المكان واستقررت به
هذه المرة سرحت مع صوت عبد الوهاب يغني
“يا لوعتي يا شقايا يا ضنا حالي
ضاع الأمل من هوايا ..وانشغل بالي”
صوته وهو يبدأ اللحن بكل شجن وحزن ومواساه للنفس فعلاً ساحر، كل قصص الحب نمتن لها فقط لاستمتاعنا بالفن ، لأن الفن هو الخلود هو الأنس هو كل الدهشة.
***
على مرأى مني –أو هكذا أظن- امرأة ترتدي قميص نوم أسود دانتيلا تغطيه ببالطو أسود وزر أحمر يزين وسطها وبوط يبرز منه ركبتيها وتصطحب معها ببغاء بألوان بديعة .
جلست بجوار الجميلة والتي ما أن سمعت صوت عبد الوهاب حتى انهارت بالبكاء، لحسن الحظ كنت أمتلك بعض من سجائر “كابتن بلاك” والتي لطالما شعرت في دخانها بمواساتي، وأنا أجلس بجوارها مشتاق للحكاية وهى بديعة التفاصيل والجمال غير أن ببغائها حيث تماهت ألوانه مع ألوان الجدار كان يردد
“سحر.. يا خيبتك!”
كانت الجميلة تحتفل بعيد زواجها حيث مضى عام وهى تبكي وآثار كدمات على وجهها، الغريب أني رأيتها جميلة رغم ذلك وقد تصورت أن ألوان الكدمات تتماهى في شكل عجيب مع الببغاء والجدار، وأما الدخان ما بين أصابعها جعلني أتصورها كلوحة ل “فان جوخ”.
ظننتُ في البداية أن السحر الذي ذكره الببغاء هو سحر الحب الذي تبخر، ولسبب مجهول أحاول معرفته قام زوجها بضربها في عنف واضح.
كانت الجميلة قد بدأت تعارفها مع الببغاء الذي تصطحبه حيث رأته في بيت سيدة خمسينية عرفتها عن طريق الصدفة وهى تلتقط احدى صورها على الشاطئ، كانت تقرأ الودع!
وصاحبتنا مولعة بالغيب لأنها تعشق المسافر البعيد الذي رأته منذ عام مضى برفقة أحد أصدقائه، هو بعيد ومسافر وبارد وهى لازالت تتود إليه ، هو يغازلها مرة ويجافيها مرات وهى تصر على مراسلته لأنها رأته في المنام!
أه تلك الجميلة تخطت الثلاثين ولازالت تجري خلف علامات الغيب ودقات القلب..
عاماً مضى على بداية سحر حبها حتى أفضت سرها بسذاجة المحب لغريبة ما لبث أن نشأت صداقة بينهما واصطحبتها لبيتها فكان لقائها الأول ب “بديع” الببغاء وقد غازلها منذ البداية ،هي تعشق الألوان وفى أمس الحاجة إلى الونس وهو ببغاء بذبذبات طاقية منعشة ولما رأت المرأة الانجذاب بينهما لم تبخل به كهدية ثمينة لها.
***
حظيت بالدوار الخفيف الذي يعقب النفس الأول من دخان الشيشة بطعم المستكة مع كوب الشاي بالنعاع، وتأملت القهوجي بالطبع عينيه مالت للجميلة ولمحت رسومات الدانتيلا على صدرها تحت البالطو، على المدى البعيد لطالما حظيت بعلاقات لطيفة وودودة مع القهوجي وهى علاقات امتدت لسنوات، دائماً هي علاقة قرب وود واهتمام ولا مانع أحياناً من غزل لطيف، هؤلاء الرجال اللطاف طالما لبوا نداءات احتياجي من الونس والدفء فأخرج من عالمي والذي غالباً ما أواجه به خذلان إلى رحب أوسع خلف الجدار الملون الأنيق يقف القهوجي وهو يعرف تماماً ما احتاجه هذه اللحظة ويلبي، سؤاله البسيط لمعة عينيه ومواساته الهادئة لطالما كانت هي كل ما أملك مع السرير في بيت “كفافيس” الذي يرحب بحكاياتي ليلاً أينما كنت .
على مدار عام كامل كانت تتردد الجميلة على بيت السيدة فيطول الحديث والحكي ، وتستلم صاحبة القميص الدانتيلا لطقوس السيدة تسرح مع الإيحاء والجمل التي ترددها على أذنيها وتستقبل كل تفاصيل وصور الخيالات التي ترسمها لها تستشعر العالم الآخر الذي تبتغيه ، تستغرق جلستها حوالي الساعة تحلم فيها صاحبتنا بكل ما هو عكس واقعها حتى في يوم ما –ويا للعجب- قد أصبح بالفعل واقعها!
“سحر ! ده سحر”
كانت تردد ذلك في خوف في مواجهة قارئة الودع ولازال يسخر منها حتى الآن “بديع”
“سحر ! يا خيبتك!”
لولا أن السيدة كانت تجري تجاربها ولولا أنها تحب تلك الساذجة لنهرتها لكنها لم تعلق وهى لم تهتم فقد انشغلت بتجهيز العش الذي يجمعها مع ذلك البعيد حيث أصبح أخيراً معها وقريباً منها وربما أكثر من اللازم!
***
ولكن كيف تحول وانقلب الحب والسحر ؟!
وكيف غامرت بالنزول بقميص الدانتيلا والبالطو في الثامنة صباحاً على القهوة مغطاة بهذه الكدمات؟!
وتذكرت والسؤال يرن بذهني بأن المغامرة هي جزء أصيل من الحب ودهشة البدايات وأن لولا السذاجة لما أكملت تجربتها ولولا التجربة لما كانت الحكاية.
فقالت:
“الحيلة تغلب الحب”
وقد سرحت مع دخان سجائر “كابتن بلاك” واسترسلت
الحيلة في أن تخلق عالمها وحدها
الحيلة في أن تتغلب على مزاجية رجلها وتتغاضى عن الكثير
أما الحيلة الأكبر كانت في أن تتغلب على ثورته المفاجئة ولكماته لأجزاء من جسدها ثم ما يعقب ذلك من توسلات وعاطفة وأحياناً بكاء ثم جنس بشغف جارف لا تستطيع أن ترفضه !
ثم تتكرر الدائرة والنوبات والأيام وتنفذ الطاقة ويختفي السحر!
أهو السحر أم الحيلة؟!
تأملتها في رثاء لحالها وحالي ثم أطفئت سجائرها وأمسكت بيدي وأغمضت عيني معها وهى تردد كلمات أدهشتني:
“ما هي احتمالات التشافي المتواجدة لي الآن في جميع جوانب حياتي والتي لم أدرك واستوعب تجليها في واقعى وإن أدركتها سأتوسع في جميع جوانب حياتي ما هي الأفكار والنوايا والمشاعر والمعتقدات التي سأتبناها والتي تساعدنا بأن نكون أكثر تشافي ودعم وحب مع أطفالنا الداخليين ونحصل من خلالها على الدعم من جميع مخلوقات الله لجميع أمور حياتنا .
ما الطاقة والمساحة والاختيار والوعي والمعجزة التي يكون عليها طفلي الداخلي للحصول على الفتوحات والبشائر والافراح والتجليات المدهشة كل ما اعلمه وما لا أعلمه وكل ما ظهر على الأرض أو في الجذور والأعماق وكل ما هو مخبأ وكل ما يمنع ذلك على كافة النسخ والأبعاد والأزمنة وعبر كل الأزمان وكل ما اكتسبته من خلالي أو من خلال الآخرين أو من خلال الوعي الجمعي وما ورثته عن أسلافي وآبائي وعن جميع العهود والمواثيق والإيمانيات، بكامل السهولة واليسر والحب واللطف والأمان هلا ننسفها وندمرها من نقطة التكوين إلى نقطة التدمير ولا يعود خلقها في واقعنا ولا نعود لذلك ابداً عدد لا متناهي من المرات حتى نصل للفطرة الحقيقة .”
ورددت عليها دون وعي كامل مني
“نعم”!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ