قيس عمر
كثيرة هي الإشكاليات التي لم يقدم لها العقل، إجابات منتهية، إشكاليات بقيت ثاوية في العقل، وتبدو على المستوى القشري بديهيات، قدّ فرغَ العقل منها، و فُهمت بشكل ناجز، ولم يعد هناك أيما شك حول رسوخها وثباتها، ولعلَّ في طليعة هذه البديهيات الإشكالية مفاهيم من قبيل (الموّت، الزَّمن، الحريّة) هذه بعض المفاهيم الكليّة المنتظمة في العقل، تقف في طابور المفاهيم الناجزة داخل العقل، ولكنها في الحقيقة تقف في طابور الإشكاليات الكبيرة والمعقدة، والتي لم تستطع البشرية حسمها، ولا غرابة أن يكون مفهوم الزَّمن واحداً من أعقد هذه المفاهيم الضاربة في العمق، فالزَّمن هو قرين المكان الذي لا فكاك منه” فالزمان والمكان هما القالب، الذي صّب فيه هذا الوجود، وانتظم بفضلهما على هيئة كوزموس” وإذا كان هذا الانتظام الخطيّ الواضح الأبعاد والحدود، يجعل القدّيس أوغسطين يطلق الصَّرخَة الشهيرة عن الزَّمن، كتعبير عن الاضطراب العظيم، الذي يشوب هذا المفهوم “ما هو الزَّمن؟ عندما لا يطرحُ عليّ أحدُ هذا السؤال، فإني أعرفُ، وعندما يُطرحُ عليّ فإني آنذاك لا أعرف شيئاً”، وإذا حاولنا تفكيك هذه العبارة، سنجدها تحيل لفهم البديهيات القارة، التي لا تحتاج لجهد، والتي تفهم بشكل داخلي خاصّ بكل متلقٍ، وهي عبارة تضيء بشكل واضح، هذه الإشكالية التي تبدو، غير مقلقة بسبب من وهم طبيعة فهمها التاريخي، ولتأكيد طبيعة هذه الإشكالية أستعيد هنا توصيف أفلوطين “إننا نحسّ إزاءه بخبرة معينة، تحدث في نفوسنا بغير عناء، وعندما نحاول أن نختبر أفكارنا عنه نحتار” هذا التوصيف الرشيق لأفلوطين، لا يقدم غير سراب لغويّ، ضارب في التجربة الذاتية، فالخبرة التي يقصدها، هي الخبرة الذاتية، ولحظة التَّعالي في استقبال الزَّمن، كلحظة حدسيّة مُنزويةٍ تعاش وتمرّ، لتختفي في مكان مجهول، إنها عملية استشعار رهيفة، تمت المواضعة عليها ضمنياً، فثمة اتفاق على هذا الاستشعار الخطّيّ، أمام الزمن وجوهره، وظِّلاله، وفيوضاته المعنائية، هل هو فعلاً قالب يحتوي الوجود؟ أم أنه تصوُّر وهمي مخيلاتي لذيذ، أوجده الإنسان؛ لينظم حكايته الكبرى، ويقنن عيشه، ويقنعه بتقادم بيولوجيته، فهو كائن يقع تحت عامل ضغط مهيب يسمى الزَّمن، إننا لنقفُ اليوم إلى جوار أفلوطين و أوغسطين، بعد كل هذه العقود التي مَرَّتْ على استشعارهم، لنؤكد طبيعة هذا الاستشعار الخاص بالزَّمن، إننا لنشعّر بحيْرة واضحة أمام، هذا المفهوم السِحريّ التأثير، ولعلَّ الغريب هنا أن العقل البشري راحَ يصوغُ تنويعات إجرائية على الزَّمن، فثمة زمن نفسي، و فيزيائي، وتخييلي، هذه التنويعات على المفهوم الأصل، كلها تكاد تتفق أن الزَّمن يشبه نهراً أو مياهاً تنطلق من مكان خَفيّ، وتجري إلى مكان مجهول، لا عودة منه قطعاً، هذا الجريان المتواصل، قرين الحركة المتعلقة بتعاقب الليل والنهار، وهو الزَّمن بحسب الفهم البشري، وهذه الحركة المتواصلة للطبيعة، تم تحديدها على أنها شيء يسمى الزَّمن، ليتحول لاحقاً وبعد عمليات معقدة، استغرقت آلاف السنين، إلى إطار تصوريّ مهمته تنظيم الحياة، ولتولَّد لنا لاحقاً “السَّاعة” كشكل ماديّ تقريبيّ للزَّمن، وهذا الشَّكل الماديّ ينوء بمهمة مخيلاتية، هي أن يصوّر لنا جريان الزَّمن المتواصل، المقترن بالحركة، ثم يغيب في جهة مجهولة، يتلاشى ويختفي في ظلام عميم، ويرقد إلى حين، كما كائن خرافي عملاق، أتعبته الحياة الأبدية، وهي تجذبه نحوها، إنه يشبه تماماً كائناً حلمياً هرماً، تقادمت المصائر من حوله ووهنت، فصار يدرك جمال أن يطوَّى ويُمحى ويغيب إلى الأبد.
إن التصوّر النظري/ المخيلاتي الخاص بالزَّمن، هو إنجاز بشريّ مهم، ذلك أنه يبعث على الراحة والاطمئنان، فالزَّمن قرين المكان والحركة، وهذا بمجمله يدعو للاسترخاء ولكن المشكلة ماتزال قائمة، وغالباً ستبقى هكذا، وبناءً على هذه الإشكالية التاريخية/ الراهنة ذهبت الفلسفة لتوسيع هذا المفهوم، وتحريره من مواضعاته التاريخية، فتكوّن لدينا في فهم الزَّمن ثلاث مذاهب فلسفية” المذهب الطبيعيّ ويمثله أرسطو، والمذهب النقدي المتصل بنظرية المعرفة والذي يمثله كانت، والمذهب الحيويّ الذي يمثله برغسون.”
ولعل أقرب تصور لعمل المخيلة البشريّة/ الشاعريّة، في محاولتها وهي تحاول تقريب مفهوم الزَّمن، هو رأي برغسون وهو مفهوم “الديمومة” التي تجعل من الزَّمن، مفهوماً شعورياً أكثر حيويّة ودفقاً وسيلاناً، وذلك بالتعويل على الوجدان الإنساني، في محاولة فهم الزَّمن، وفك ارتباطه بالمعنى الآلي القبليّ الواقع خارج الذات، فهو يرى أن هناك تواصلاً وامتداداً “بين الماضي والمستقبل من دون ان تتوقف حركة الزمن.. بينما المستقبل يفسح المجال، لقوى الماضي، والدفق والحيويّة نفسها هي التي توحد بين أجزاء الديمومة” وهذا ما يمنح الزَّمن حياة، تشبه حياة الحكايات، وهي تُستعادُ على مواقد النار، إنه ليتحول إلى صورة طيفية مُعتَّقة، لا يمكن لها إلّا أن تكون قرينة، لمعنى الأبديَّة وهي تتحدر من طامور الأحلام، إن هذا المعنى المخيلاتي الشعريّ، يرتبط بحياة الإنسان وأحلامه، وطبيعة عيشه النفسيّ، والروحيّ، فالزَّمن بحسب برغسون كيفيّ، لاكميّ، وهذا ما يمنحه هذه الخصوبة في التأويل، فهو استشعار يمتد عميقاً في لحم التجربة الإنسانية، وعلى وفق هذا التصور الكيفيّ، فإن حياة الإنسان وتصوره عن الزَّمن، ستكون منطلقة من زاوية نفسية وجدانية، لا يمكن قياسها قطعاً، ذلك أنها تحسّ ويستشّعر بها، وهي تمتد بين الماضي، والآن، والمستقبل، إذ ثمة امتداد عميق بين هذه اللحظات النفسية، ترتبط فيما بينها برباط شعوريّ لا يمكن قياسه، وما هذه التفصيلات إلّا محاولة شعريّة، لتبسيط هذا التجريد المهيب للزمن، ولعل الزمن بهذه التصورات الحلمية والشاعريّة، يخبئ روّحه وجوهره المُصانّ، في مفردة تعكس روَّحه الفوارة وهي ((الآن)) وهي لحظة متأرجحة بين زمنين الماضي/ المستقبل، ولا غرابة أن يعبر أرِسْطو عن هذه الدفقة السيَّالة لجوهر الزَّمن وروّحه الخبيئة إذ يرى” أن الزمان يستمد وجوده الحقيقي من الآن” فهذه الآن هي عبور متواصل ما بين (آنات) ذهبت لميتاتها، التي لا يمكن استعادتها منها، و(آنات) لمّا تنوجد بعد، فيغدو الزَّمن ضرباً من استشعار ديموميّ سيَّال، يشبه تماماً حياة الأحلام التي لن تُستعاد أبداً، إنها محض آنات زمنية/حُلمية متلاحقة لا يمكن استعادتها؛ ذلك أنها مضت نحو ميتاتها بشكل ديموميّ، سيال، ومتلاحق.