عن استقلالية الأدب

محمد كرم إسماعيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد كرم إسماعيل

“ليس هنالك قواعدٌ ثابتةٌ للأسلوب الأدبي،  فهي محكومة باستعمال المجتمع  والاستعمال لا يتوقف في مكانه لأي فترة من الزمان أبداً.” 

سينيكا

لم يعد هناك اهتمام بالتساؤل عن ماهية الأدب في عصر لم نعد نرى فيه أدباً من كثرة “الأدباء”؛ إذ لو ظهر عمل أدبي جاد؛ لغَرِق في بحر السوق تحت موجة الكتابات المُداهِنة لوعي “العامة”، التي تحقق أعلى المبيعات، من ناحية، وموجة الكتابات المُذاهِنة لوعي ” النخبة”، التي تحظى بالجوائز وإطراءات النقاد المُبهمة، من ناحية أخرى. لم نعد نستطيع أنَّ نميَّز “أديباً” عن الآخر، صار الدافع إلى الكتابة مدفوعاً بالرغبة في عدد المبيعات وتصيُّد الجوائز، وابتعد الكُتاب، بشكل لا واع ربما، وليس من باب التواضع، عن وصف أنفسهم بالأدباء واكتفوا بتعريف أنفسهم بالكُتاب، وأمسى إنتاجهم استهلاكاً لكتابات سابقة، تنويعات عليها واجتراراً لها. وما طال الأدب طال النقد الأدبي؛ فوظيفة النقد الأدبي في استكناه مقاصد الأدب وفك رموز العمل الأدبي أمست مُعطلة؛ فمعظم نقاد الأدب صاروا يحيطون الكتابات، سواء كانت بسيطة واضحة أو معقدة غامضة، بهالة من الغموض المُضاعَف، مؤسسين لكهنوت أدبي مضنون به على غير أهله، بل وعلى أهله!

الأدب والأديب

أين هذا العصر من تعريف كلمة “أدب” و”أديب”، الذي ذكره يحيى حقي في كتابه “هموم ثقافية”؟

لقد تتبع أصول كلمة أدب في اللغة العربية، ووجد أنها تعني تغذية البدن؛ ” يقال أدب فلان (بفتح الدال) أو (بتسكين الدال) بمعنى صَنَع مأدبة.” ثم أصبحت كلمة أدب تعني “تغذية العقل والروح”.

 أما الأديب فهو ” من أخذ من كل علم بطرف، أي صاحب النظرة الشاملة، لا تصده عن المعرفة أبواب مغلقة أمامه وما وراءها مجهول أو منبوذ، إما عن كسل أو عن عمى… فالأدب هو معيار نضج العقل والروح معاً، وأنَّ له وظيفة اجتماعية، وأنَّه يؤدي إلى الاتزان وترقيق الحس والقدرة على النمو.”

الأدب والمجتمع

إذا قلنا إنَّ الوضع البائس للأدب ناتج عن وضع أكثر بؤساً في المجتمع فإننا لم نضع في الحسبان ما أسماه ماركس: (العلاقة غير المتكافئة بين تطور الإنتاج المادي والإنتاج الفني) فالإبداعات الفنية العظيمة لا تشترط وضعاً اجتماعياً عظيماً؛ إذ أنتج الإغريق أدباً عظيماً في وضع اجتماعي واقتصادي منهار. فالتدهور الاقتصادي والاجتماعي قد يكون دافعاً للإنتاج الأدبي والفني؛ كنوع من التنفيس عن ضغط هذا التدهور، أو التعبير عن رفضه والرغبة في تجاوزه. في حين أنَّ الرخاء الاقتصادي والاجتماعي قد يؤدي إلى الكسل العقلي وتعطيل الخيال، وينتج كتابات استهلاكية لا ترتقي إلى وصفها بالأعمال الأدبية، أو يؤدي إلى ترف في الكتابة كانعكاس لبذخ المعيشة كالأعمال المنغمسة في الأسلوب التي ترفض الدور الاجتماعي للأدب ولا تستخدم المضامين الواقعية فيه، وقد أوضح الفيلسوف الروماني الرواقي سينيكا، في كتابه رسائل من المنفى، أنَّ البذخ والفخامة في اللبس والترفيه كالبذخ في الأسلوب الأدبي – علامة مرض في المجتمع.

نظرية الفن للفن

في مقال بعنوان “الأدب ونقد الحياة” كتب سلامة موسى أنه إذا حاد الأدب عن دوره الاجتماعي وزاغ نظر الأديب عن هذه المهمة الأصلية؛ انحطت قيمة الأدب، فإما أن تضيع فائدته ولا يعود يؤثر في الأمة، وإما أنه يعود عليها بالضرر الأكيد الذي قد يقضي عليها.

 الأدب إذن عندما يكون معنياً بواقع مأزوم، راغباً في تجاوزه؛ يصبح أدباً عظيماً، عابراً لسياقه المكاني والتاريخي، قابلاً للقراءة في سياقات أخرى، أبرز مثال على ذلك أدب تلميذ سلامة موسى النجيب: نجيب محفوظ.

لكننا إذا سرنا بهذه النتيجة في طريق المدارس الأدبية سنصطدم بنظرية “الفن للفن”، والنزعات الشكلية.

إنَّ النزوع نحو الشكلانية الخالصة والاستغراق في نظرية الفن للفن، يوحي بأن الشكل جمالي، لا مضمون له، والمضمون غير جمالي، لا شكل له، فهو قائم على ثنائية بينهما كثنائية الذات والموضوع عند كانط، وثنائية الروح والجسد عند ديكارت، وثنائية الوعي والأفكار عند البوذية.

إن استقلالية الأدب لا تؤدي بالضرورة إلى تبني نظرية الفن للفن والشكلانية الخالصة، فبالإضافة إلى أن الثنائية بين الشكل والمضمون ثنائية وهمية – فلا شكل بلا مضمون – الرؤية الجمالية الخالصة لا تستلزم الاستغناء عن كل مضمون أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي للعمل الفني؛ فالمضمون أيضاً له دور جمالي، وأكثر من هذا أنَّ الأديب كلما كان مخلصاً لجمالية الفن، ماهراً في الأسلوب؛ أصبح عمله مؤدياً لوظائف مثل: إثارة الشعور الأخلاقي، أو الكشف عن الحقيقة، أو التعبير عن الأفكار، أو التعبير عن الواقع، أو التحريض السياسي، أو تطهير الانفعالات، أو التعليم والتثقيف، بشكل أكثر فاعلية ونضجاً وتأثيراً، وكذلك كلما كان الأديب صادقاً في تحقيق تلك الغايات عن طريق الأدب؛ ارتقت مهارته الأسلوبية وازداد إخلاصه في التعبير الجمالي. وقد رفض الأديب الألماني برتولت بريخت في مقاله “المسرح للمتعة أم للدراسة” هذا الفصل بين جمالية الأدب ووظيفته، فقال: “لا يسعنا أن نقول إن التناقض بين التعليم والتسلية ليس قائماً بالضرورة وبالطبيعة؛ فهو لم يكن موجوداً قط، وليس هناك ما يدفع إلى وجوده باستمرار.” حيث إن “المسرح يبقى هو المسرح عندما يصبح مسرحاً تعليمياً، وهو ما دام مسرحاً جيداً فلا بد أن يسلي.”

لقد أوضح بليخانوف في كتابه “الأدب بين المادية والمثالية” أنَّ نظرية الفن للفن نابعة من عدم انسجام مع المجتمع، ومحاولة للهروب من مواجهته، ويقول الناقد الأدبي الروسي تشيرنيشفسكي: “غدت فكرة الفن للفن غريبة في هذا العصر، غريبة كقولك الثروة للثروة، والجمال للجمال، والعلم للعلم، والأخلاق للأخلاق وهكذا.. يجب أن تخدم جميع المجهودات والمحاولات الإنسانية غرضاً من أغراض الحياة ينتفع به الإنسان، ما لم تكن تلك المجهودات طائشة، والمحاولات عبثاً لا طائل وراءه. وكما أنَّ الثروة لم توجد إلا ليستخدمها الإنسان لسد احتياجاته وتحقيق رغباته، والعلم لم يُستنبط سوى ليسترشد به في حياته، كذلك الفن ينبغي أن يخدم أهدافاً حيوية، ولا يظل كماً معطلاً لتزجية الفراغ أو الترويح عن النفس.”

لقد كان الاتجاه الرومانتيكي إلى تنزيه الفن عن المجتمع محكوماً بسياق تاريخي اجتماعي وسياسي؛ إذ كان الأدباء الفرنسيون الرومانتيكيون لا يهدفون إلى تخليص الأدب من خدمة المجتمع، بل من خدمة الطبقة البرجوازية، فكان اتجاههم إلى نظرية الفن للفن موقفاً من المجتمع أيضاً، وتعبيراً عن عدم الرضا. لكن تلك المعارضة لم تهدد العلاقات الاجتماعية البرجوازية؛ فبالإضافة إلى أن الأدباء الرومانتيكون كانوا من أبناء تلك الطبقة، ولم يرفضوا العلاقات الاجتماعية البرجوازية؛ لكن رفضوا انحطاط سلوك البرجوازيين فحسب – كان اعتراضهم الجمالي على المجتمع بالانغماس في تنزيه الفن، للمفارقة، دعماً، بدون وعي، لهذا المجتمع. وهذا في رأيي ناتج عن قراءة خاطئة للواقع أدت لكتابة تروم الانفصال عنه، ثم نتج عنها تكريساً لأزماته.

لقد أدان الفيلسوف الروماني سينيكا الأدباءَ الذين يهتمون بالأسلوب على حساب المضمون؛ لكن – وللمفارقة – صُنّف سينيكا ضمن الأدباء الذين يدينهم، وهذا راجع إلى السياق التاريخي الذي تجاوز إدانته وتحكم في كتابته؛ فالخوف من بطش الإمبراطور والرخاء الذي تنعم فيه من ضمن الأسباب التحتية التي تحكمت في كتاباته هو ومن أدانهم. لذلك صرّح بوعيه الحاد أنه ” ليست هنالك قواعد ثابتة للأسلوب، فهي محكومة باستعمال المجتمع.”

صرَّح تيري إيجلتون في كتابه معنى الحياة أنه كلما أُجبِر الأدب على العمل كبديل لوضع عام مأزوم؛ قلَّت قدرته على القيام بذلك؛ فمحتوى العمل الأدبي – الذي لا مهرب منه إلا بعدم استخدام الكلمات واستبدال رموزاً ومعادلات بها – هو انعكاس حتمي للواقع المأزوم المراد الهروب منه إلى الأدب كعالم بديل؛ لذلك سيفقد الأدب حتماً قدرته على تقديم الخلاص الفردي والنجاة.  

إذا كان الأدب بديلاً للدين، كما أوضح تيري إيجلتون في كتابه الثقافة وموت الإله؛ فربما تكون نظرية الفن للفن هي بديل للتصوف، تنزيه الفن هنا يتوازى مع تنزيه الإله وحبه من أجل ذاته، والكتابات الشكلية المتقشفة، المُجرَّدة عن الهموم الاجتماعية، وكذلك عن زخارف المحسنات البديعية – تتوازى مع توصيات التصوف بالتقشف والتجرد عن زخارف الحياة وهمومها.  لكن هناك أيضاً في التصوف نظرية وحدة الوجود، التي تجعل الإله في علاقة عضوية مع العالم، محايثاً له.

الأدب والطبقة الوسطى

إنَّ الرغبة في تجاوز واقع بائس، التي تنتج أعمالاً أدبية بحق، لا بد ألا تكون عند الكاتب فحسب، بل عند القارئ أيضاً، وإذا جمعنا إحصائية عن الوضع الاجتماعي للقراء في هذا العصر سنجد غالبيتهم من الطبقة الوسطى بشرائحها العليا والمتوسطة تحديداً، وهي طبقة لا تعاني الضغط والبؤس كالطبقة الأدنى وكذلك لا تتمتع ببذخ الأغنياء، على الرغم من أن فعل القراءة عند أبنائها هو في الغالب نوع من الترف وليس فعلاً ثورياً. ولأنهم يميلون في الغالب إلى ثبات الوضع يتجهون إلى كتابات تداهن ذهنيتهم المؤدلجة كالروايات الرومانسية والبوليسية والدينية والخرافية، أو تذاهن إيديولوجيتهم المُداهَنة، بشكل نظري لا يؤدي إلى شيء، مثل روايات التاريخ البديل الهادم للمرويات الرسمية، والكتابات المعنية بالهويات الدينية والجنسية والعرقية، والكتابات الصوفية والذاتية، وأيضاً هناك آخرون منهم مهووسون بمجرد شراء الكتب، غير مهمومين بالقراءة. ربما هذا هو سبب هروب الأدباء الجادين إلى العلو بالأدب عن هؤلاء القراء والمهووسين، مركزين جل اهتمامهم على الشكل والتكنيك، واضعين مضامين ملغزة يصعب على هؤلاء المستهلكين فهمها.

كما أنَّ الطبقة الوسطى، باستهلاكها المتضخم، وتطلعاتها الوحشية التي ترغب في تجاوز الوضع الفردي ولا تهتم بتجاوز الوضع العام، لا تعرقل تجاوز الرأسمالية فحسب، بل، وهو الأخطر، تُنشّط الاقتصاد الطفيلي غير الرسمي – فهي تُنشّط كذلك، باستهلاكها الثقافي، الكتابات الرديئة، وتسمح بزيادة وجودها وتكاثرها السرطاني في السوق، وأيضاً، بتجاهلها للأدب الجاد، تشجع – بلا قصد – وجود الكتابات المجردة، التي لا تُعنى بالقارئ، وتهتم بالألعاب اللغوية والسردية فقط، دون هدف. وتلك الكتابات الأخيرة تُمثل “الأدب المستقل”. فكلما ازداد الإقبال على الأدب الغث؛ زادت سمنة الأدب “المستقل”، وازداد كُتابه المُترفين تجرُّداً، مما يفاقم الأزمة الثقافية في مجتمعنا. إنَّ كلاً من الكتابات الاستهلاكية والكتابات النخبوية الشكلية انعكاس للإيديولوجيا، للوعي الجمعي المشوَّه، والأدب لا بد أن يخترق الإيديولوجيا ويكون وَهَجاً كاشفاً عنها، وليس مجرد مرآة عاكسة لها.

خلط المثقفين

هناك فئة من الكتاب المثقفين، الهاربين من مسؤوليتهم، يخلطون بين الدور الاجتماعي للأدب وتسليعه، وفي الوقت نفسه يفصلون بين تحميل النص الأدبي مضامين واقعية وبين الاهتمام بتغيير الواقع، فلا مانع عندهم من استخدام مضامين واقعية، اعتراضهم فقط على الدور الاجتماعي الأدب. دور الأدب بالنسبة لهم هو تحقيق المتعة فقط، وهذا  للمفارقة، تسليع للأدب أيضاً، غايته فقط جعل الأدب سلعة باهظة غير رائجة، وحصره في فئة معينة قادرة على اعتصار المتعة من نصوصهم المُراوِغة، أو حصره على أنفسهم فقط!

إن الاعتراضات على مسؤولية الأديب، حتى لو تقبَّل أصحابها وجود مضامين اجتماعية في الأدب – لحفظ ماء الوجه وذر الرماد في العيون –  تتعلل بأنَّ الكتابة عن الهموم الاجتماعية لن تُحدِث شيئاً في المجتمع؛ فالكتابة عن كوب مثلاً لن تُغير من طبيعته كما قال سارتر؛ لكن المجتمع ليس شيئاً، بل هو صيرورة جدلية بين الأبنية التحتية والفوقية، والقارئ ليس كوباً! والأدب باعتباره بنية فوقية لها من التأثير الإيحائي ما ليس لغيرها – عليه أن ينتقل من الاكتفاء بتصوير العالم وإعادة تشكيله جمالياً إلى الاهتمام أيضاً بتغييره.

 كيف يمكن للأدب أن يغير العالم؟

على سبيل المثال وليس الحصر:

1ـ دعمت المخابرات الأمريكية، أثناء الحرب الباردة، ترجمة قصيدة: “الأرض الخراب” لـ ت.س إليوت، إلى اللغة الروسية؛ وذلك لبث روح العدمية في الشعب السوفيتي.

بالطبع لم تكن تلك الحيلة الأمريكية سبباً وحيداً وحاسماً لتفكك الاتحاد السوفيتي؛ لكنها كانت أحد الأسباب المؤثرة بشكل اجتماعي تحتي في وعي السوفيت. وهذا يؤكد أنَ جهاز الاستخبارات الأمريكي كان على وعي تام بسحر الأدب وقدرته على إحداث تغيير على مستوى الجمهور. وغني عن البيان أنَّ أمريكا تستخدم حالياً الأدب، والفنون عامة، لتبرير إيديولوجيتها وتمريرها للجمهور في كل العالم.

2ـ قدَّم جورج لايكوف ومارك جونسون دراسة بعنوان: “الاستعارات التي نحيا بها” مفادها أنَّ الاستعارات ليست مجرد ضرب من المجاز الشعري، يحوّل الحقيقة، بل هي – الاستعارات – تخلق الحقيقة؛ إذ أنَّ بنية الذهن استعارية بالأساس. وقدما عرضاً عن الاستعارات الشائعة، الراسخة في اللا وعي الجمعي، وما ينتج عنها من أفكار ومشاعر وسلوكيات؛ مثل استعارة ” الجدل – حرب” التي ينتج عنها اعتبار الجدل نوعاً من المعركة، وبالتالي استخدام جمل الانتصار والهزيمة في وصفه، والشعور بالنصر أو الخيبة بعده هو لأن الذهن لا يشبّه الجدل بالمعركة؛ لكن لأنه يعتبره معركة بالفعل. وبما أن الاستعارة من أقوى الأدوات الأدبية، وبنية الذهن استعارية؛ فإذن دور الأدب، في هذا الشأن، هو خلخلة الاستعارات الجمعية الراسخة، ونقلها من اللا وعي إلى الوعي.

وإذا طبقنا تلك الدراسة على أسباب رفض الدور الاجتماعي للأدب؛ فقدْ نجد، من ضمن الأسباب، أن هذا الرفض قد يكون قائماً أيضاً على استعارة؛ فجملة: ” الفن للمجتمع” تحمل تشبيهاً للفن بالعبد وللمجتمع بالسيد، أو الفن وسيلة والمجتمع غاية، أو الفن أداة تُبلى باستعمال المجتمع، وتلك مجرد تشبيهات لا أكثر، لا تعبر عن الواقع بقدر ما تعبر عن الرؤى الذاتية لمن يرفضون دور الأدب الاجتماعي؛ والواقع أن كلاً من الأدب والمجتمع يُغني الآخر ويغتني به في الوقت نفسه، فالعلاقة بينهما ليست علاقة تبعية.

ربما يتقبل المعترضون على مسؤولية الأديب دورَ الأدب في التغيير؛ لكنهم يقبلون التغيير على المستوى الفردي فقط، لا الجمعي؛ إلا أنه بالإضافة إلى أن العمل الأدبي ليس مُنجزَاً فردياً خالصاً، لكنه نتيجة لتراكمات من الاحتكاك بالواقع ولتفاعلات النصوص المقروءة داخل الذهن، وبالإضافة إلى أنَّ الفرد المستقل عن أي سياق لا وجود له، وبالإضافة إلى أن العالم الافتراضي يحكم العالم الآن، والأدب عمود أساسي لهذا العالم – العمل الأدبي عندما يُغير شيئاً في الفرد يغير ما هو كُلي فيه؛ إذ أنَّ الأدب يتعامل مع ما هو مشترك بين الجميع، وقد أوضح شيلر في كتاب “التربية الجمالية للإنسان” أنَّ “النمط الجمالي في التواصل يوحّد المجتمع؛ لأنه يتصل بما هو شائع عند الجميع.” لكن ما هو شائع بين الجميع ليس مبدأَ ميتافيزيقياً أو طبيعياً مستقلاً عن السياق التاريخي؛ هذا الشائع الآن بين الغالبية العظمى يتمثل في الإيديولوجيا بما هي مُتخيَّل جمعي مُشوَّه، على الأديب اختراقه وإبراز تناقضاته  لتجاوزه.

مقياس قيمة الأدب

وغني عن القول أننا هنا لا ندعو  إلى واقعية اشتراكية على طريقة مكسيم جوركي؛ إذ أنَّ الوعي الجمعي المزيف، الذي يقتطع النظريات الأدبية، والفكرية بشكل عام، من سياقها المكاني والزماني – كما يحدث مع النزعات التجريبية والشكلية – ويَتَّبعها في واقع آخر، هذا الوعي هو ما ينبغي على الأدب الراهن اختراقه وتفكيكه؛ فلا ينبغي لنا أن نكرر الخطأ نفسه مع واقعية جوركي.

كما أنَّ قياس قيمة الأدب لا يكون بمدى الاقتراب عن الواقع أو البعد عنه، بل في كيفية التعبير عنه دون مبالغة في الأسلوبية، ودون أن يكون هذا التعبير انحداراً بالأدب إلى مجرد تسجيل الواقع. لقد شبه سينيكا الأديب المبالِغ في الأسلوبية برجل ينزع شعر جسده لدرجة نزعه لشعر الساقين، وشبّه الأديب المُبالِغ في تسجيل الواقع، بشحمه ولحمه، برجِل لا ينزع حتى شعر إبطيه.

إنَّ لا واقعية الأدب ليست للهروب من الواقع، ولا هي مطلوبة لأجل ذاتها؛ بل هي مطلوبة لعلاقة أوطد بالواقع، وإدراك أوضح له، فعالم الأدب هو عالم افتراضي خيالي؛ لكنه، برفع الستار عن الحقيقة، وبتحطيم الأصنام، يجعلنا نرى الواقع وندرك أنفسنا بشكل أفضل؛ إذ وفقاً للتشبيه الشائع للأدب بمرآة الواقع – الواقع، كالأجسام المادية،  يبدو أقرب في المرآة مما يبدو للعين المجردة.  ولكي يكون العمل الأدبي راهناً حياً ليس عليه أنْ يكتفي بمجرد التصوير؛ بل عليه أيضاً أنْ يُلغّم سطوره بإرادة التغيير، فكلما استهدف العمل الأدبي استقلالية القراء؛ تحققت استقلالية الأدب بدرجة أكبر.

 

 

مقالات من نفس القسم