شعيب حليفي
طقس
ساعة العصر تزحف بطيئة، وآلة الحصاد تواصل دورانها بنفس الصخب تحت شمس حارقة. أما نوار الشمس المشرئبُّ من الحقل، ذاك، خلف الوادي، فقد كَلَّ من ليِّ عُنقه متابعا دورة الشمس، ولو علِمَ أنها ثابتة لاستراح ورفع رأسه أو ترَكَه يتدلّى.
لم ييأس الجُعل (بوجعران) من دفع كُرته التي اعتادَ تكويرها من روث البغل، ودسّ بيوضه فيها. يُبدع في دفعها بستة أرجل تتناوب فوق أرض غير مستوية نحو بيته الذي يُخفيه كما يُخفي جناحيه، ولا يشهرهما إلا للضرورة والبحث عن قوت إضافي.
عاد الْحَيْمر الراعي يروي على مسامعي أن ساعة هجرته قريبة، حتى وإنْ مات في البحر فليس له ما يخسره، عاش راعيا وقد تجاوز الثلاثين من عمره، وأقسم إنْ عَبَرَ حيّا سيعود بعد خمس سنوات في سيارة أوتوماتيك وزوجة نصرانية شقراء. يكره نساء البلد لأنه يعلم ما يجري في الدوار من أسرار عصية على الحكي. ثم يلتفتُ إلى هاتفه المذياع وقد حوّل الموجة إلى قناة شدى إف إم في برنامج ” برلمان الشعب” مع مقدمه الإعلامي الحسين شهب الذي ينفحه حماسة وهو شارد.
حوّلتُ بصري نحو الغابة فرأيتُني، هناك، في نفس الحقل، طفلا أسمر اللون في سن العاشرة من عمري، أعدو خلف آلة حصادٍ بلا دِراس حمراءَ اللون، تحصد السنابل بأعوادها ثم تربطها في حُزم صغيرة قبل نقلها على عربات يجرُّها بغل أو حمار، وتجميعها في مكان معلوم للدِّراس.
فجأة ينادي الأب ابنه الذي يعدو مُقلدا عدْوَ الفرس. يشير له بالجلوس إلى جانبه وهو برفقة ثلاثة من أصدقائه.
– لماذا حينما سأترككَ وحيدا.. تحوّلتَ إلى كائن قاس بلا قلب.؟ قال له بصوت لم يعهده منه.
نظر الطفل الأسمر ذو النظرات القاسية إلى السماء، ثم نحوي في الفراغ المتمدد، بدهشة مُضاعفة وهو يقول في نفسه..كيف يحدثني عما سيقع في مستقبل بعيد.. لا أتخيل حياتي من بعده، بعد ذلك حوّلَ بصره إلى رُفقاء والده الذين كانوا يبتسمون.
– اترُك الردّاد وغيره لله، ضرْبتُك قاضية وقاصمة. قال الأب مستطردا.
(كنتُ، أنا الآن، أتابع المشهد مختلطا بنفسي في زمن سابق، فهمَمتُ بالحديث إليه لأهزمَ الزمن ولو لمرة واحدة، لكن صوتي كان ذائبا وبعيدا بسنوات، أتحدثُ به فلا يُسمعُ ولا يُرى، غير أن الطفل، الذي كُنتُه، أحسّ بي ونظر نحوي بابتسامة ماكرة لم تمسح دهشته مما سمع، فقام مقتربا مني .. مُلتفتا نحوهم ومتحدثا بنبرة استعارت لساني).
– دمي من دمكم وروحي من روحكم. ألمْ ترَوا أنه همَّ بقتلي عن طريق آخرين أجّرَهم ثم هيّأ لتسميمي. هل أتركه يسرقنا ويقلل من احترامه لنا!!.
نهضَ سريعا يعدو بنفس الطريقة، قبل أن يتوقف فجأة، مُلتفتا نحوهم. كانوا ينتظرون التفاتتهُ وهم يبتسمون.
صفّرَ صفيرا متعاليا وكرره ثلاثا.. ثم مضى يركبُ سُويعات العصر خلفَ الآلة والعصافير والمطّ المحزوم بعناية..
كانت سوسو رابضة، وفجأة رفعت أذنيها والتفتت يمينا وشمالا كما لو أنها سمعت صفيري من بعيد وأنا صامت، وفي تلك اللحظة رنّ الهاتف الذي لم يستطع قطع حبل الزمن المتصل، وجاء صوت سي الحاج بلْمدَني هادئا ومطمئنا وسعيدا، وأنا صامت لا أرد عليه، ولما هممتُ بإنهاء المكالمة، قال سي الحاج باندهاش:
– ولد بويا.. ! أنت تكلمني بصوت طفل في العاشرة !!
لم أندهش وإنما تبسمتُ، لأني لم أنبس بكلمة.. فقط كنتُ أستمع إلى حصيلة لقائه بالردّاد، وأنا أعرف أن الطفل، الذي كنتُه، يحب مثل هذه الاشتباكات، ويجاملني بما فعلته معه في الرّد على سؤال غامض لبويا.
لماذا سافرتَ وحدك!
الزمن مأوى الأسرار الهاربة في بحثها عن كهوف ترقد فيها أحلام تهفو للعودة إلى الحياة.
-هل نحن، فعلا، خارج الزمن؟ قلتُ.
– أنتَ تهذي؟ نحن في قلب انفجار الأزمان والأكوان. قال.
– من يسرق أعمارنا هكذا ويتركها تُسافر ولا تعود؟
– من قال أنها لا تعود ؟ الزمن ليس نسخة واحدة تتكرر في اللحظة الموالية. إنه خيارات لامتناهية.
– الزمن يتغذى على أعمارنا ليحيا.
– إنها معادلة تخصُّ كل الكائنات. لماذا أنتَ وحدكَ تريد تغيير الناموس؟
– أنا الناموس… أريد تغيير نفسي.(في المسودة الأولى نسبَ الراوي القولة إلى سوسو، ثم حذفها وتركها غُفلا من القائل).
***
يعلو صخب الآلة بنفس النوتة ويخفت كلما ابتعدتْ وهي تلتهم سنابل الشعير. صخبٌ لا يُخالطه سوى نُباح بعيد أو نهيق مُفاجئ.
العرق يغسل جسمي وأنا جالس داخل الخيمة أقلّب في أوراق قديمة تفتح عيني على ما جرى ذات يوم.
الطفل الأسمر- الذي كنتُه – ذو العينين الواسعتين بحدقة سوداء وسط قُزحية عسلية داخل بياض تختبئ خلف طبقته الشفافة عروق رقيقة تسكب احمرارا في ساعات الغضب والضجر والتأمل المطلق، فتتحول إلى جمر مشتعل يُحاكي الشمس.
في نفس المكان، يراقب والده من بعيد أو قريب، يرى فيه جبلا لا يهزه الزمن، وأحَبُّ الأوقات إليه.. مرافقَته في الحقل والسوق والحياة التي لا حدود لها، وقد باحَ مرّة لأمه أنه لا يريد المدرسة وإنما يبغي أن يكون مثل الأب، فنهرته وهي تُعدّد له التعب الذي سيُلاقيه في سبيل توفير لقمة العيش.
لم تكن لوالده نظرية في التربية، ولكنه حاسم في الحرص أن يبقَى أبناؤه، من الذكور، بعيدين عن مُجالسة النساء في الصغر، حتى تأتي مشاعرهم مُخشوشنة رجولية، لا عطف فيها ولا حنان، فتدرّبَ على إخفاء محباته وإظهارها في شكل القوة مع الحيوانات أو مع الطيور التي يصطادها ويشويها على النار. أما أمه فلم يكن يُمدّدُ رأسه بالقرب منها إلا وقت قيلولة الوالد أو في أسفاره التي يغيبُ فيها دون أن يُخبر أحدا بوجهته، فتروي له من الحكايات ما لا يوجد في الكتب، مما ألهبَ خياله بنار لا تخمد كان يخفي لهيبها في مخابئ كثيرة بذاكرته وقلبه ونفسه وفي شقوق لسانه وفي جيوبه الخلفية وجيب قميصه الأمامي وفي كثير من الدفاتر وبين إبهام وسبّابة مريم، وأسفل لسانها العسلي، وبين أوراق التوت البري، وفي الرسائل الضائعة.. ولأن الخيال مثل الحب والعطر، فمن الحكمة ألاّ يوضع في سلة واحدة.
ارتعبَ مرة، في تلك السن، وهو يسمع من بعض أصدقائه حكاية عن جدّه الذي كان يفصل الأبناء عن أمهاتهم في سن الخامسة ولا يسمح لهم برؤيتهن إلا مرة في الأسبوع، اعتقادا منه أن التنشئة، بهذه الطريقة، تجعل من الأطفال أكثر خشونة في عالم بلا قلوب.
لم يلجأ والده إلى هذا الفعل، وإن كان يعرفه، لأنه لا يقلد أحدا وإنما يسير وِفق ما يرى، وهو الذي عاش يتيما لا يتذكر والدته فاطنة بنت الطاهر التي ماتت باكرا، وترعرعَ بعيدا عن زوجات الأب قبل أن يخرج إلى الحياة وحيدا في عراك خرافي مع الزمن الذي يعجن، بلا ماء، البشر والحجر. وقد اهتمّ أن يُجلسَ ابنه وشقيقه الأكبر منه، دون اثنين آخرين ما زالا صغيرين، مع أصدقائه من الفلاحين والتجار، يتابعان حوار الكبار في الحياة.
في درس لن ينساه بسوق البهائم، مجمع الدهاة ممن يمتلكون الأسرار غير المدوّنة، كان أبوه مغادرا بعدما باع ما جلبه من عجول، والطفل خلفه مثل ظله، وفجأة يحتكُّ به رجل غريب سعى إلى سرقته وقد رأى شكّارته الجلدية تتدلى من كتفه الأيسر. شدَّ، سريعا، خناق اللص ثمّ نطحه في نقطة محددة ما بين الحاجبين والأنف، فانهمر الدم والتفّ الناس وهو يكيل له الضرب بيُمناه، بينما يُسراه ما تزال قابضة على خناقه واللص يصرخ مرتعدا بعدما سمع من المتحلقين أنه سارقٌ غبيٌّ لا يعرف بويا ورجال السوق. من عادته أنه لا يغفل عما حوله، مهما كان منشغلا، لذلك وبلا سبب، أفلتَ من يديه اللص ففرّ هاربا، والتفتَ نحو ابنه، الذي كان مكتفيا بالتفرج، فصفعه وأخذه من ذراعه بقوة ومشيا. حبس الطفل دمعه وخطا صامتا، إلى جانبه، ولعله لم يفهم ما جرى. جلسا بواحد من الخيام في أقصى السوق. شربا الشاي بالاسفنج ثم خاطب ابنه يؤنبه حتى لا يكون متفرجا في أي معركة سيسيح فيها دمه أو في كل ما يخص العائلة. اضربْ واضربْ بقوة، ولا تجعل من يمْسُسْ دائرتك يفكر مرة أخرى في الاقتراب منك.
كان حكيما ونارا تلتهب مثل شمس ضاوية.
– لماذا سألتني أن أكون رحيما بالردّادْ ومن يشبهه. هل تختبرني .. نعم إنك تختبرني؟!.
***
انتبهتُ إلى جلبة مفاجئة، فخرجتُ من الخيمة لأرى مُساعد سائق آلة الحصاد وقد ارتمى يجرى خلف أرنب رمادية مرتعبة، ثم يتوقف مثل رامٍ خبير رمى عصاه التي لم تُفلتها، والقبض عليها وهي دائخة.
عدتُ إلى خلوتي أقَلّبُ في المَشاهد التي تحيا معي. لا أعرفُ في أي شقوق من نفسي ولساني تختبئ. كيف لا ننتبه إلى تمثلات آبائنا لنا.
أنا هو أنتَ.. لا تسأل كثيرا
النظرُ إلى الوراء مُتعبٌ ويُضعفُ قوة القلب الدافعة. ما قيمة التذكُّر إذا كان مجرد ذكرى مقطوعة عن الزمن الذي نحياه، وما جدواه إذا لم يفسر ما يجري أو يصون اللحظة الراهنة من ألاعيب النسيان؟
– هل أنتَ هو أنا.. أم أنا هو أنتَ؟
أريد أن أكون أنتَ وأستريح.
كان بويا، مثل باقي أجدادي، يؤمنُ بالزكاة وإخراج العُشُر من كل شيء يملكه ويدور عليه الحوْل، في الزرع والمال والبهائم والصوف وكذلك في الزمن والأبناء أيضا. وقد أحسستُ، منذ تلك السن، أنه جعلني عُشُرا للعلم، ولو كنّا في زمن سابق لجعلني عُشُرا و”عُشُورا” للحروب القدرية في شاويتنا وامتداداتها.. أن أكون جنديا أو قائدا،كما باح، عَرَضا واختصارا، لوالدتي، ولا يريدني أن أخلفه في ما هو فيه. وقد سَعدَ كثيرا وذبح شاةً حينما أخرجتُ السّلكة القرآنية وحفظتُ سورا كثيرة وأنا بالمسيد، في سن الخامسة من عمري، حِفْظا بالسمع فقط.
لم أر مثل فرحته، من بعد، بنفس الشغف، لذلك فإنني اليوم في كل ما قرأتُ وكتبتُ وما فكرتُ فيه، ما زلتُ أرى أن ما تعلمته بالمسيد سمعا دون تعلم الكتابة، هو الأبهى والأنقى.
***
دنا مني الْحَيْمَر الراعي وهو يسردُ عليّ كيف لم يعد يحتمل البقاء في هذا العالم الميت، وأنّ الحرّاڱ قد وعده بسعر تفضيلي لأنه من أبناء بلدته وينتظر فقط إشارة من الغيب.. كونه يؤمن بأن حياته لا تُفسَّر إلا بالعلامات.
جلس على الأرض بعدما التقط ثلاث خنفسات سوداوات وضع من كتفه جرابه الذي يجمع فيه ما يحتاج إليه الراعي، وكذلك هاتفه، ثم رتّبَ الخنفسات الثلاث في صف ولامسهما في حركة ببداية السباق، وهي لعبة كان يهواها كما يهوى اللعب بكويرات روث الأغنام والأحجار الصغيرة.. قبل أن يستولي الهاتف على كل أوقاته. كان من قبل يعرف تفاصيل الحياة الخاصة والدقيقة للحشرات التي تحيا في الطبيعة، كما يعرف مواعيد الطيور وألاعيبها وتحولاتها، وقدرات النمل، وصبر النحل، وحيل القنافذ، وعِزّة الخير، وصفاقة الحمير..أما الكلاب فهي التي علّمته العوم والإنصات والحب والشراسة.
الخنفسات الثلاث البطيئات في مشيتهن لا علم لهن بلعبة الرعاة، لذلك فإن تحركهن يأتي مشتتا فيعيدهن إلى خط الانطلاق دون جدوى. لم يعد له صبر فقام بعدما انتبه إلى انفلات بعض الخراف نحو الجزء غير المحصود من الحقل. نهضَ وهو يصيح راميا بحجر للتنبيه.
كانت سوسو تراقب كل شيء باختلاس النظر، وحينما قام الْحَيْمَر الراعي حوَّلتْ نظرها إلى قدميه تتأمّلُ مَشيه المشتت، بينما تذكرتُ مكالمة بلْمدَني فنظرتُ إلى هاتفي وشرعتُ أضحك وأضحك وتبعتني سوسو تضحك، ثم توقفنا معا نصيخ السمع لجلجلة بعيدة من طفل يشوي طائر اگْريگرْ في الخلاء، ومن حين لآخر يرمي بنظره نحو فِخاخه المدفونة بعناية قرب البئر، كما يرمي ببصره بعيييييييدا نحوي، فأرتبك وأُغضي.. وتفعل سوسو نفس الشيء.
يزحف العصر، بلا رجلين، مُحاكيا آلة الحصاد في صمت، وهو يعلم أنه سيُسلم ساعته للغروب ويستريح منتظرا دوره في يوم جديد.
يُتبع…