يونس بلعلى
«النساء لا يفعلن ذلك…..» هو عنوان لمجموعة قصصية صدرت حديثا عن دار النشر “فضاءات” الاردنية، في (182 صفحة) للكاتبة الجزائرية “غزلان تواتي” وتعتبر هذه المجموعة القصصية أول عمل أدبي لها.
ما يجذب الانتباه ويثير الفضول ويحفز على قراءة هذه المجموعة هو العنوان نفسه. فبمجرد أن تسمع هذه العبارة ستجعلك تفكر وتتساءل: ترى ما الشيء الذي يجب ان تفعله المرأة؟ وما الذي لا يجب ان تفعله؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العبارة (النساء لا يفعلن ذلك) في لهجتنا العامية الجزائرية (النسا مايديروش هكا) هي نوع من العتاب والتوبيخ للمرأة التي تخالف أبسط القواعد -الكثيرة- التي يفرضها المجتمع الأبوي باستمرار(رجالا ونساء)، نوع من التحذير والتهديد للمرأة التي ترفض الانصياع والخضوع للأوامر، فأي شيء تفعله المرأة لا يناسب الآخرين ومحيطها مهما كان بسيطا أو تافها يعتبر خطر يجب التصدي له، فالمرأة لا ينبغي أن تكون ولا ينبغي أن تفعل، ولا حتى أن تفكر أو تحلم إلا ضمن الأطر المحددة مسبقاً لتحقيق توقعات ورغبات المجتمع الذكوري.
فالكل يقول هذه المقولة لأي امرأة سواء أكان على علم بما تحمله من معنى أو ليس له علم -حتى أنا ربما قلتها مرة أو مرتين في الماضي لأختي دون أن أنتبه لمعناها- لأنه مع الوقت والتعود تصبح مثل هذه العبارات التي تسيء للمرأة من الأمور العادية والمقبولة في المجتمع.
وفي نفس الوقت عندما تنتهي من قراءة هذه القصص، وبمفهوم عكسي مناقض تماما لما سبق ذكره، تستنتج أن الكاتبة وبكل ذكاء تحول مفهوم هذه العبارة (العنوان) الى حافز للمقاومة وتحدي يجب أن ترفعه المرأة لتشق طريقها وتكتب قدرها، ويظهر هذا جليا مع كل البطلات في المجموعة القصصية.
عودة الى المجموعة القصصية ومحتواها، فهي تتكون من ثماني قصص بمواضيع وقضايا متنوعة (الإجهاض، السكن، العمل، العذرية، الجنس، الغيرة، الأمومة،الصداقة…) في بيئات اجتماعية مختلفة (الغنى/الفقر) ومستويات ثقافية متباينة(متعلم/ أمي) أو حتى مناطق جغرافية متعددة(الريف/القرية/ المدينة)، هذا التنوع أضفى عليها قيمة وثراءً أدبيا وإجتماعيا ونفسيا جد مهم، مع رابط مشترك بينها وهو – المرأة – فكل القصص تهتم بحالة ووضعية المرأة في مجتمعنا، ولهذا نستطيع القول أنها تنتمي الى الأدب النسوي الملتزم. ومع هذا فلن تشعر ولو للحظة وانت تقرأ هذه القصص أن هناك تحيزاً أو تعصباً لصالح المرأة، أو اتخاذ موقف معادي ضد الرجل كإمرأة، فالطرح كان جد واقعي، متزن وهادف بشكل يخدم القضايا بكل عقلانية.
بداية مع بطلة القصة الأولى (القضية 311) “نعيمة ساسي” المُدرّسة والزوجة والأم، والتي تقوم بعملية إجهاض بطريقة غير قانونية، وبذلك ستكون مضطرة لمواجهة سلسلة من العوائق والأحكام الأخلاقية والاجتماعية والقانونية على وجه الخصوص بقرارها هذا، وتعتبر هذه القصة من بين أعقد القصص في المجموعة لحساسية وأهمية هذا الموضوع. ربما تعتبر سابقة أن عملا أدبيا كتب بالعربية اهتم بالإجهاض من وجهة نظر قانونية-اجتماعية. ترى كيف ستواجه “نعيمة ساسي” هذا الأمر؟
ثم تنقلنا الكاتبة في القصة الثانية (وراء الحلم) بأسلوب سلس وبسيط وأقل تعقيدا في الأحداث والموضوع من الأولى، الى يوميات الشابة “كنزة”، الطالبة في معهد الفنون الموسيقية، الفتاة الحالمة المقبلة على الحياة بكل حب ومرح، لتتبع مشروعها في ان تصبح فنانة موسيقية كبيرة، على الرغم من النظرة السلبية والمحبطة من المجتمع وأهلها، وحتى من “حسين” الذي اقتحم حياتها، للتكون بذلك مجبرة بأن تختار بين الحب الذي ولد للتو وحلمها وحريتها. يتم الاختيار بسرعة، تفضل كنزة شغفها بدلاً من حب لا يعد بشيء.
اما “خيرة” بطلة قصة (النساء لايفعلن ذلك….) والتي تحمل نفس عنوان المجموعة القصصية، تنحدر من خلفية ريفية وبيئة ثقافية مخالفة تماما، حيث تضطر “خيرة” وعائلتها بأن يتركوا القرية التي كانوا يعيشون فيها الى ضواحي مدينة (وهران) الكبرى، أين تبدأ شكوكها في خيانة زوجها، حتى تصل الامور الى الطلاق، وهنا تنطلق تحدياتها في تأسيس حياة جديدة، وأول ماكان عليها فعله هو العمل في الحقول، الشيء الذي اعتادت القيام به من قبل لإعالة أسرتها لكن بلا مقابل مالي. فهل سيكون العمل والراتب نقطة تحول في حياة خيرة؟ وهل سيجعلان الآفاق والأحلام ممكنة؟
وأخيرا تنهي المجموعة بقصة مثيرة للاهتمام (اللقاء) والتي أعتبرها بمثابة خاتمة للقصص. هي قصة ثلاث صديقات “كاملة”، “خديجة” و”سومية” فقدن التواصل منذ زمن طويل بعد ان اتخذت كل واحدة منهن طريقا في الحياة. فقررن أن يلتقين في مقهى(الجاز چاردن) في أحد أحياء “وهران”، وبينما هن يتحدثن تطفوا الذكريات والمشاعر، ولحظات من سنوات الدراسة في الثانوية، فالماضي لم يمضي أبدا. فجأة يبدأ اللوم، وموضوعات المناقشة لا تتركنا غير مبالين : الصداقة، الحب، الزواج، الأمومة البيولوجية، عمل المرأة، كل هذا مرتبط بسعادة كل واحدة منهن. في بعض الأحيان يكون الحوار بينهن هادئًا وفي أحيان أخرى يكون عاصفًا بعض الشيء. في الواقع القصة عبارة عن جرد لتجارب الحياة، وحصيلة للاختيارات التي تم إتخاذها، بين سومية وخديجة اللاتي قبلن بالواقع كما هو، وكاملة التي فرضت الواقع الذي أرادته، حتى لو كانت في نظر مجتمعها تعتبر امرأة غير مكتملة، لأنها ليست متزوجة وليست أم، كما أخبرتها بذلك “سومية” : « العمر يمر بسرعة وبعد سنوات قليلة ستصبحين عانسا في سن اليأس، بلا أولاد ولا أسرة، وعندما يجف مهبلك ستندمين على كل هذه الحياة البوهيمية». بمعنى آخر أن للنساء جزء كبير من المسؤولية في الواقع الذي يعشن فيه.
سأتوقف عند هذا الحد، ولن أخوض في بقية القصص كي لا أفسد فضول القارئ في اكتشافها والإستمتاع بها. أستطيع فقط أن أضيف شيئاً عن اللغة والأسلوب الذين كتبت بهما هذه القصص، ففي البداية اعتقدت أنها ستكون قصص نسوية مثل باقي القصص من هذا النوع، حتى وإن كانت جيدة فلا شيء مميز فيها، لكن من الصفحات الأولى لاحظت أن هناك إختلافاً وشيئاً جديد في طريقة تقديم ومعالجة المواضيع والقضايا، فعلى الرغم من أن أغلب المواضيع قد تم تناولها سابقا إلا أن الكاتبة استطاعت أن تبث فيها روحا جديدة وتعيد احياءها بلغة بسيطة وواضحة، حوارت قوية، وسرد ممتع، بجمل قصيرة ومستقلة تخلق ايقاعا سريعا وحيويا، وأسلوب سلس يجنب الرتابة والإبتذال.
فما يميز هذا العمل ويعطيه أصالته هو البساطة، الوضوح والقوة في اللغة كما في الأسلوب بحيث يجعلك لا تشعر بالملل، وتسترسل في القراءة حتى النهاية.
أستطيع أن أقول دون مبالغة أنه لأول مرة أقرأ قصصًا باللغة العربية عن ظروف المرأة، وتركت لدي إنطباعا وكأنني في عصر نضال ومقاومة الكاتبات النسوية “كفيرجينيا وولف”، “سيمون دي بوفوار”، “دوريس ليسينج” و”مارجريت أتوود”.