غزلان تواتي
ما الذّي حققته المرأة العربية بعد انقضاء ما يزيد على قرن من كتاب تحرير المرأة (لقاسم أمين 1899)؟ هل تحررت المرأة العربية؟ ما حقيقة ذلك؟
بلا أدنى شك، فقد حققت المرأة العربية المعاصرة كل تلك المطالب التّي تحدّث عنها قاسم أمين، وناضل من أجلها طيلة حياته، أفرد لها مقالات وكتب واتهم بسببها بالبدع والتّطاول على الدين. تعلّمت المرأة العربية وعملت، وخرجت من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام، تحولت من حريم يذكره الرجل كناية واستعارة، بألفاظ تختلف من منطقة إلى أخرى لكنها تتفق كلها على إخفاء كائن بشري يسمى امرأة. مسيرة طويلة -لا شك- أوصلت المرأة إلى السياسة، الجيش، الفنون والآداب، امتهنت الوظائف التي بلغت فيها من التفوق ما بلغه الرجل وأكثر، كما أنها من جهة الحقوق المدنية والسياسية امتلكت حق الانتخاب، التّرشح، حق النيابة، الحق في أن تصبح وزيرة ورئيسا -لما لا-.
لم يكن من الممكن لقاسم أمين في قرنه وزمانه أن يحلم بأبعد من أن تسير المرأة مع الرجل على نفس القدم في نفس الرّصيف عارية الوجه والكفين، وأن تتحدث بطلاقة وأن تحسن القراءة والكتابة وتتعلّم في المدارس، مثلها مثل الصبي أخيها.
نعم تحقق ذلك كلّه، ولم يعد من الممكن للأولياء مجرّد التّخيل أنّ بناتهم لا يتعلّمن، لا يذهبن إلى المدارس ويركنّ في البيوت للطّرز، الحياكة، الطبخ والعناية بالنظافة الداخلية للبيوت فقط، بل أن تعلمّ البنات أصبح مصدر عزٍّ للأولياء في المجالس، عندما يتفاخرون فيما بينهم ببناتهم المهندسات والطّبيبات وأستاذات الجامعة، وربّما نطق أحدهم وقال إن ابنته قاض أو نائب عام، أو قائد طائرة ولما لا جنيرال في أحد الجيوش، ويا له من شرف رفيع لا يناله الرّجال كل يوم، فما بالك بالمرأة في مجتمع وضعها جانبا لعهود طويلة.
ليس من العدل نكران هذا، إنما يظل السؤال: هل تحررت المرأة فعليا؟ وإن كان الأمر كذلك ما الذّي أصبح يعنيه تحرر المرأة في قرننا هذا؟ صحيح أنّ المرأة من النّاحية العملية أصبحت كل ما قيل أعلاه، لكن هناك خلل ما، هناك تأخّر تعانيه المرأة وهو تأخر ذو شقين: أولا كان قاسم أمين يعتقد أنّ تعلّم المرأة سيحرر عقلها ويرتقي بآدميتها أو يحقق كمالها وبالتّالي سعادتها، إلا أن ما حدث في هذا الجزء محيّر فعلا، بل ومخيّب للآمال، لأن المرأة من هذه النّاحية ما تزال تابعة، لا تستطيع تقرير أمور كثيرة من حياتها، كالولاية على أطفالها، كالزواج من غير المسلم إن رغبت بذلك، كالشهادة، أو الزواج بغير ولي إن شاءت، أن تتصرف بحرية تامة في مالها، أن تسكن وحدها دون أن يثير ذلك حفيظة أحد، ودون أن تتهم في شرفها وأن يعتبر تصرّفها هذا حرية شخصية، لا انحرافا أخلاقيا.
هذا التأخر اجتماعي بالدرجة الأولى، بحيث تعمل البنيات الاجتماعية كعائق أمام التطور حتى عندما تتوفر الإرادة السياسية فإن الجماعة لا تسمح به، وعندما لا تكون البنيات الذهنية والاجتماعية جاهزة لتقبل أو تسعى هي إلى التغيير فإنها ستعمل على تعطيل القوانين في حال وجودها، ويصبح من الصعب اللجوء إلى القانون لأن الأسرة، الجماعة، العشيرة، المجتمع سترمي بكل ثقلها لأن تُبقِي الحال على ما هو عليه، هذه العملية سنسميها مقاومة، وهي مشتركة بين المجتمع والمرأة نفسها.
مقاومة المرأة هي الشق الثاني الذي يتسبب في تعطيل النساء والحد من تقدمها. تساهم فيه المرأة بصلابة وحماس إما خوفا من التغيير، أو لعدم فهم عام للمسألة. الخوف من الحرية أكبر عائق يواجه المرأة، إذ ستعني تحمل عقبات كل ما يحدث في حياة المرأة كفرد، وستصبح لأول مرة مسؤولة تامة المسؤولية عن قرارها، تمتلك كل متعلقات مصيرها بنفسها وتتحمل عقبات ذلك. لكن هل كل النساء مستعدات لتحمل هذه المسؤولية؟ هل لدينا ما يكفي من الإمكانيات المادية والمجتمعية والنفسية والتعبيرية تسمح للمرأة أن تعيش دون الحاجة لأن تسندها العائلة أو تحميها، وتطمئن لفقدان قوقعتها الصلبة التي تقيها من عواصف الغضب المجتمعي، هل تأمن إذ هي تزوجت بغير ولي؟ هل يمكنها ببساطة رفض المهر؟ أو رفض الوصاية ونفقة الزوج أو الأخ أو أنها ستقول بكل ثقة -كما اعتادت- أعمل ولكن زوجي هو المسؤول عن الإنفاق، وإن ساعدته فبفضل مني لا بواجب تفترضه مسؤوليات الارتباط والعيش معًا؟ هل ستقبل المرأة الغنية مثلا أن تدفع هي تكاليف الزواج والطلاق إذا تم دون أن يختل في نظرها مفهوم القوامة والفحولة اتجاه الرجل؟ هل ستقبل أن تنفق على أطفالها في حال كانت الحضانة من حق طليقها؟ أليست هذه بالذات أمور ترفضها المرأة التي تربت على المسكنة واعتبار نفسها قاصر وضحية ويجب العناية بها وتدليلها؟ ألا تخلط المرأة بين حقها بالحب وواجبتاها كامرأة؟
لا يمكننا نكران ما حققته المرأة، لا يمكن أن نزعج قاسم أمين في قبره، على العكس فقد تحققت أمانيه بالكامل لكن البنى الاجتماعية ما تزال جامدة، الذهنيات ما تزال ثابتة، مثلما تزال الأمثال تضرب بالرّجل عندما تقوم المرأة بأي عمل شجاع أو صعب (أخت رجال، ولا ألف رجل، امرأة بألف رجل حسب آخرين)، ما تزال نساء في مناصب عالية يلقبن بأم فلان، أو تترشح للانتخاب ولا تستطيع اظهار وجهها. الكثير من الأحكام المسبقة تلحق المرأة كما لو كانت أمرا مطلقا، لا يمكن أن يتغيّر، ما تزال النساء في بعض الدول العربية لا تستطيع تقرير ما تفعله براتبها فيتم توزيعه في عقد الزواج بين أهلها وزوجها، تقسيما يهمل وجودها كأنها مجرد عبد يستفاد من مجهوده دون مقابل. ما تزال تحتار في تصريف الإشاعات عنها. وما تزال لا تملك جسدها تحاسب على براءته كما لو أنه ملك لكل الأطراف إلا هي، ما تزال العذرية سجنا تسجن فيه، وإن مست إحدى بنات العائلة في عذريتها، فإن العار يلحق جميع فتياتها وعلى مدار أجيال عديدة. المرأة في مجتمعاتنا متعلمة، عاملة كانت أو غير عاملة، ليست قادرة بعد على تجاوز عقدة الزّواج وأوصاف العنوسة (كل امرأة للطبيخ في بيت زوجها طبعا، حتى لو وصلت المريخ)، يبدو تعديد هذه النقائص وكأنه مجرد سرد لألفاظ سوقية لا مقابل واقعي لها، والحقيقة أنّ المجتمعات تشكّل لغتها الخاصة وألفاظها السّوقية والمهذبة معا، وأمثالها الشّعبية كما أشعارها من صلب الواقع اليومي، الذي تواجه فيه تلك الأحكام وتصدرها وتصوغها، بل الأهم أنّها لا تتصرف ولا تفكّر خارج ذلك الواقع.
بعد مئة عام على وفاة قاسم أمين، حقّقت المرأة العربية حقوقا أغلبها مادي، كانت تبدو مستحيلة آنذاك، ويجب أن تواصل نضالها اليوم لتحصل على حقوق إنسانية، إذ لا تكفي الحقوق المادية لتحقق كمالها العقلي والإنساني.