محمود عبد الدايم
في تسعينيات القرن الماضي، كانت الدراجة الهوائية (العجلة) الوسيلة المفضلة لي وأقراني في التنقل بين شوارع قريتي الكائنة في الجنوب، كنا نتسابق في إظهار مهارات القيادة، غير أن الذي كان يتمكن من قيادة دراجته دون أن يمسك بـ«جادون» العجلة، كان أكثرنا مهارة، وعندما كان يفعلها أحدنا، كنا نتطلع إليه بشيء من الانبهار والحسد الطفولي الذي لا يضر.
صفحات قليلة تركتها ورائي في رواية «أقفاص فارغة.. ما لم تكتبه: فاطمة قنديل»، الصادر عن دار «الكتب خان»، وجدتني أستعيد مشهد قيادة الدراجة، لحظتها، انتابتني فرحة طفولية، لأسباب عدة، منها أني كنت واحدًا من الذين يمتلكون – في وقت ما- القدرة على قيادة الدراجة الهوائية بهذه الطريقة الفذة، من وجهة نظرنا وقتها، وكذلك كانت «العجلة» التي لم يغادرها الصدأ إلا قليلا، حاضرة في طفولة بطلة «الأقفاص الفارغة»، بالطبع تذكرت «الخبطات» والدوائر الداكنة التي ظلت لأشهر طويلة علامة مميزة في ركبتي، والجروح في وجهي، لكن هذا لم ينتقص من فرحتي باستعادة المشهد شيء، بل زادني حنينًا إلى «أيام ولت».
بالطبع.. خلُصت في النهاية إلى أن الشاعرة والروائية والأكاديمية، فاطمة قنديل، كتبت وفق نظريتنا الطفولية «قيادة الدراجة رافعة يديها في الهواء»، والبداية كانت من العنوان «أقفاص فارغة» الذي منحته عنوانًا فرعيًا «ما لم تكتبه: فاطمة قنديل»، فـ«الأقفاص الفارغة» التي تقدمها لنا «د.فاطمة» في روايتها البديعة والموجعة في آن معًا، وإن كان البعض سيراها مجرد «مشهد هامشي» أو مجاز تتقن الكاتبة استخدامه، إلا أني رأيته «حياة مكتملة»، فجميعنا لدينا الشخص الذي يقتحم حياتنا، بيوتنا، وحدتنا، ويضع أشيائه الغريبة ويغادرنا ويغادرها.
صفحات قليلة وتماهيت كثيرًا مع البطلة، فتحت «علبة الشيكولاتة»، وهي العلبة التي لم يكن بيت من بيوت الطبقة الوسطى والموظفين يخلو منها، أدركت أني سقطت في «فخ الحكاية»، ولأكون أكثر صدقًا «فخ التاريخ» الذي قدمته «د.فاطمة» بطريقة مغايرة، فلم تحاول أن تمنحنا العبرة والنصيحة، لكنها تركتنا نقرأ تاريخنا من حياتنا، النكسة، الحرب، الانفتاح، الجماعات الإسلامية، «السداح مداح»، طفرة الثمانينيات و«ركود التسعينيات» و«شراهة الألفية الجديدة»، جعلتنا عراة أما تاريخ عاري، وكفى.
اعترف أني لا أعرف «د.فاطمة» معرفة شخصية، غير أني سقطت في محبتها منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات ويتقرب من الأربعة، وتحديدًا في 20 أغسطس 2018، بعدما قرأت حوارًا أجرته معها الصحفية النابهة إسراء النمر، والذي نُشر في مجلة «أخبار الأدب» سبتمبر 2017، لكني كنت في حاجة إلى عام كامل تقريبًا لأطالعة بعدما أعادت نشره على موقع «الكتابة».
«إسراء» قدمت لنا الشاعرة فاطمة قنديل بـ«عين المحبة» و«صدق المحب»، يومها أعجبتني الكتابة كثيرًا، تدفق المشاعر والألفاظ المنتقاة، غير أني أعجبت كثيرًا بـ«صاحبة الحوار»، طلتها في الصور، إجاباتها غير المتكلفة عن الأسئلة، «فضفضتها » المغلفة بـ«الحميمية»، وكأنها صديقة قديمة.
حوار تلفزيوني وحيد تابعته مع «د.فاطمة»، وقد كانت عند حُسن ظني بها، كانت هي لم تتغير، لم تحاول أن تسرق الكاميرا من المذيع الذي يكيل لها المديح حينًا والاعتراف بـ«الموهبة المكتملة» في أحيان آخرى، كانت عادية إلى درجة مبهرة، وواضحة جدًا، ومرة آخرى عاودني شعور «الحسد الطفولي»!
نعود إلى «أقفاص فارغة»، وصدماتها، وتحديدًا في المقطع الذي منحته الكاتبة رقم «35»، والذي أظنه يلخص جزء كبير من شخصية الدكتورة فاطمة قنديل، وفلفستها في الحياة، المقطع الذي أحطته – على غير عادتي، بدائرة زرقاء، أعدت قراءته ثلاث مرات، فقدت محطتي في المترو بسببه، ووجدتني في «المعادي»، لم أغضب، فـ«المقطع 35» يستحق أن أبدأ من «أول الخط».
كتبت «د.فاطمة» في هذا المقطع: «أسوأ ما يمكن أن يحدث لي بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقولًا مأثورة ما أكتب الآن، أن تصير حياتي قولًا مأثورًا، هو ما يصيبني بالغثيان، أن تصير درسًا أو عبرة، هو الجحيم بذاته، أحاول أن أتجنب هذا المصير وأنا أكتب، بلغة عارية تمامًا، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات، لأن الحياة تصير أكثر شبقًا بعد أن نموت، كذئب مسعور، لا يروي ظمأه، إلا الحكايا».
«البتر» الذي يمكن أن تلحظه في هذا المقطع المختلف تمامًا عن المقاطع التي سبقته والتي ستليه، لن يكون بالشيء السيء، بل على العكس تمامًا، سيكون قريب الشبه بـ«خصلة الشعر» التي كانت تصر بعض الأمهات على تركها وحيدة في رأسها طفلها الوحيد خوفًا عليه من الحسد، هكذا تعاملت مع «المقطع 35»، ومن هذه الزاوية أكملت مسيرتي مع «الأقفاص الفارغة».
«الاغتراب.. الوحدة.. الفشل.. النجاح الناقص.. الاعترافات العارية.. المرض.. السقوط.. التخلي»، المصطلحات السابقة، وغيرها الكثير على شاكلتها، دارت في مخليتي على طول صفحات الرواية، وبشجاعة، اعتبرها صديق لي «وقاحة محترمة بعض الشيء»، تواجهنا «د.فاطمة» بحقيقتنا، علاقاتنا المشوهة، تقشر جلد «الأسرة»، وتترك الأوردة في الخلاء، لم تحاول أن تكون شاعرية في كتابتها الرواية، بل أظن – وليس كل الظن إثم- أنها تعمدت التخلي عن «لغة المجاز» ومنحت «شاعريتها» أجازة قصيرة حتى تنتهي من كتابة «أقفاص فارغة».
أخيرًا.. «أقفاص فارغة» رواية لا تصلح معها القراءة بـ«أحكام مسبقة»، ولن تكتمل متعتها إلا بالتخلي عن التفكير في قواعد الكتابة وتقنيات السرد، قراءة «أقفاص فارغة» سيحبها كل من حاول قيادة الدراجة دون أن يمسك بـ«الجادون»، من مر على المستشفيات في الصباح الباكر، وفي المساء، ورقد قليلًا في أحد الممرات التي تسيطر عليها رائحة المنظفات الرخيصة و«الديتول» و«الفنيك».. «أقفاص فارغة» ليست بـ«نزهة للمتعة»، لكنها عملية «تنظيف» موجعة لجروح فشل الزمن في أن يداويها، فكانت الكتابة عنها نوعًا من الأمل الذي يمنحه الطبيب لمريض ينتظر «معجزة».