ميسلون هادي
عندما التحق الدكتور خالد عزب( مؤلف هذا الكتاب)* بكلية الآثار في جامعة القاهرة عام 1984، وجد أمامه حالة من الجدل بين زملاء دراسته القادمين مثله من بيئة قروية متدينة. وكان هذا الجدل يدور ويحتدم حول دراسة الآثار هل هي حرام أم حلال في الشرع الإسلامي، الأمر الذي جعل بعض أولئك الطلاب يهجر دراسته الآثار المصرية القديمة، ويتجه لدراسة الآثار الإسلامية، أو يترك الدراسة في الكلية برمتها.
هذه الأزمة دفعت بالدكتور خالد عزب، طالب الآثار حينذاك، إلى تبني مشروع بحثي عن المنظور الإسلامي لعلم الآثار وفلسفته سواء بالنسبة لنتاج حضارة المسلمين، أو آثار القدماء من الفراعنة وغيرهم. ثم تواصل بحثه الدؤوب في هذا المشروع حتى تتوج هذا البحث بكتابه المهم( فقه العمران)، والذي تجيب فصوله عن أسئلة كثيرة هي مثار جدل بين المشتغلين في الحضارة الإسلامية، ويحاول أن يبني، كما جاء في مقدمته، منهجية جديدة لدراسة تخطيط المدن الإسلامية، ودراسة العمائر الإسلامية.
يقدم كتاب(فقه العمران) الربط بين هذه العمارة وبين الفقه الإسلامي بشكل عام، وذلك من خلال المفهوم الإسلامي للبناء والعمران، والذي يرتبط بالقوة والإتقان والجمال.. أما العمران فقهياً فارتبط، برأي المؤلف، بإطارين حاكمين أولهما السياسة الشرعية، التي يتبعها الحاكم في المجال العمراني، وثانيهما هو فقه العمارة .
والمقصود بفقه العمارة هو مجموعة القواعد والأعراف التي ترتبت على أسئلة المعماريين الأوائل، والتي كان يجيب عليها فقهاء المسلمين مستفيدين من أصول الفقه الإسلامي، فكانت هذه الأجوبة والأحكام تتراكم بمرور الزمن لتشكل إطاراً قانونياً لحركة العمران في المجتمع.
يستعرض الدكتور عزب في كتابه هذا تخطيطات المدن القديمة التي دخلها المسلمون الأوائل فاتحين، وما أجروه عليها من تعديلات وفقاً لأحكام الشرع.. وتنقسم هذه التعديلات العمرانية إلى البناء الواجب كالمساجد والحصون والأسوار، والبناء المندوب كالمنائر والأسواق، والبناء المباح كالمساكن، والبناء المحظور كدور المنكر والخمارات والقمار والتجاوز على المقابر وأراضي الغير… إلخ. وهذا النوع الأخير من البناء قد أزاله المسلمون في المدن التي فتحوها.
أما المدن الجديدة، حينذاك، كالبصرة والفسطاط، فقد كان تمصيرها تحدده السلطة وفقاً لإحتياجات المسلمين، أما نموها بشكل منتظم فيكون دون تدخل السلطات، ووفقاً للأعراف السائدة والأحكام المستقاة من الشرع.
ويعرف الدكتور عزب الأعراف السائدة على أنها الأنماط البنائية الأكثر تأثيراً في البيئة العمرانية، بمعنى أن يتصرف الناس بطريقة متشابهة في زمن واحد، فنقول أن هناك عرف بنائي أو نمط عمراني ما، كأن يستخدم سكان القاهرة مثلاً الحجر بكثافة في عمارتهم، بينما يستخدم سكان مدينة رشيد الطوب بكثافة.
وقد إحتلت قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) باباً واسعاً في فقه العمارة الإسلامية، وعليها قامت أحكام لا حصر لها، فأثرت هذه القاعدة على حركية العمران في تلكما المدينتين والكثير من المدائن الإسلامية.. أما المقاصد الشرعية التي يمكن استعمالها كضوابط لأي نشاط عمراني فهي المصلحة العامة، وإذا تعارضت المصلحة العامة مع مصلحة الأفراد، وهو أمر شائع في مسائل العمران، كانت المؤسسة القضائية هي الحكم في مثل هذه الحالات.
الفصل الثاني من الكتاب يتناول دور الفقه في التنظيم العمراني، والذي ترتب على مبدئي( لا ضرر ولا ضرار)، وعلى الأخذ بالعرف مما نتج عنه مبدأ( حيازة الضرر)، والذي صاغ المدينة الاسلامية صياغة شاملة، ويعني أن من سبق في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب على من يأتي بعده احترامها، وبذلك يقوم المنزل الأسبق بصياغة المنزل اللاحق من الناحية العمرانية، ويسيطر على حقوق عدة يحترمها الأخرون، أما الطريق العام فهو للمارة، ويجب أن لا يعتدي عليه أحد، وإن كان بميزاب أو دكة او أي ضرر آخر، ثم يستعرض المؤلف آراء المذاهب المختلفة كالمالكية والحنفية والشافعية حول كيفية التعامل مع الطريق العام وكف الأذى عنه.
يتخذ الكاتب من بعض المدن العربية كالقاهرة ورشيد والجزائر خلال العصر العثماني نماذج لدراسته القيمة عن فقه العمران الاسلامي، ولا يبقي حجراً إلا وقلبه في وصف طرائق ترصيفها وإضاءتها وتصريف مياهها وحقوق شوارعها وساكنيها بعد استقرار خططها العمرانية، ومن طريف ما يذكره الكاتب عن خصائص شوارع تلك المدن الاسلامية هو ندرة الطرق المستقيمة فيها وتعرجها بحيث يضيق الشارع في أماكن معينه ليتسع في أماكن أخرى، الأمر الذي ذكرني بما قرأته ذات يوم في كتاب (لورنس في بلاد العرب) الصادر عام 1933 لمؤلفه لويس توماس صديق لورنس الحميم، والذي كتب فيه وهو يصف مدينة جدة:
“أما التناسق فغير معروف في هذه الجزيرة من الشرق الأدنى ويقال أن النجار اليدوي لا يستطيع أن يرسم زاوية قائمة(……) بل من النادر أن تجد الشوارع في الاقطار العربية متوازية وهذه البلاد هي بلاد الاضطراب وعدم النظام.”
منع الاعتداء على تلك الطرق يأخذ حيزاً كبيراً من الفصل الثاني إذ يستعرض الباحث العديد من النصوص الفقهية، وأقوال الخلفاء والصحابة في كتب التراث حول حقوق الجار وحمايته من الأذى الذي قد يلحق به إذا اُستغل دار جاره في أمور الشغل كالحمامات والأفران. وأكثر ما يميز أحكامها الفقهية هو آداب وأعراف حسن الجوار في الحي الواحد، ومنها نظام فتح الأبواب على الطرق، أو البيوت الأخرى بحيث لا تكشف حرماتها.
في الفصول اللاحقة من الكتاب يعرج الدكتور خالد عزب على فقه المساجد، ثم فقه الأسواق والعمران التجاري، وفقه العمران السكني، وفقه المياه والمنشآت المائية، والهندسة المعمارية في الحضارة الاسلامية، فنتعرف على الحوانيت والخانات والتكايا والحمامات والأسواق التي تختص باختصاصات مختلفة كالنجارة والخياطة وتجارة الثياب..وكما هو الحال في باقي فصول الكتاب فإن الباحث يتخذ من مدن معينة كالرشيد والقاهرة والجزائر عينات لبحثه. وأكثر ما يلفت النظر في هذا المدن القديمة هو وجود نظام لنظافة شوارع المدن بهدف دفع الضرر، حيث يتولى المقيمون في كل شارع تحمل نفقات نظافته، ويقوم الكناسون المحترفون بكنس ورش الشوارع مقابل أجور يدفعها سكان المنازل.. وكان نظام نظافة المدينة أكثر اتفاقا في الجزائر حيث يوجد قائد زبال مكلف بمراقبة النظافة، وكان على السكان ان يضعوا القمامة في فجوات خاصة مصنوعة داخل الجدران. ثم يمر كل صباح رجال يسوقون الحمير المحملة بالقفف، يقومون بتفريغ الفجوات ونقل القمامة خارج المدينة. كما ويتعرض المهملون للنظافة من السكان لدفع الغرامات .
أما الأنماط المستخدمة في بناء المساكن فثمة مدارس معمارية مختلفة نجد بينها نماذج يمنية ودمشقية وقاهرية، ليس من بينها نماذج عمرانية لمدن الأندلس التي اشتهرت بخصائصها العمرانية الفريدة، وبغداد التي عرفت بوجود عدد كبير من الصروح الهامة فيها كالمتاحف والمكتبات والبيوتات البغدادية القديمة، فضلاً عن آثارها الإسلامية الباقية من العصر العباسي، والتي تتمثل ببقايا أسوار مدينة بغداد، والمدرسة المستنصرية. ومع ذلك لم يرد اسمها بشكل واف إلا عند الإشارة للسقايات التي اشتهرت بها بغداد في العصر العباسي، ومنها الأسبلة والمزامل وأنواع أخرى من السقايات كسقاية جامع القصر وسقاية دار الخلافة.
ولكن المؤلف يعدنا بأن يتواصل هذا البحث المضني، ويأخذ مديات أخرى يشير إليها الدكتور خالد عزب في مقدمة كتابه واعداً باستكمال كل فصل من فصوله معتبراً أياه بمنزلة مشروع بحثي قيد الإعداد سيأخذ وقتاً طويلاً إلى أن يصل إلى مرحلة نشره بشكل متكامل.
…………………..
*”فقه العمران. العمارة والمجتمع والدولة في الحضارة الإسلامية” للدكتور خالد عزب. صادر عن الدار المصرية اللبنانية، وفائز بجائزة أفضل كتاب عن مؤسسة الفكر العربي 2014.