من هو الجزائري؟

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

غزلان تواتي

سيكون سؤالا سفسطائيا، في حال تساهلت وقبلت أن نطرح سؤالا مماثلا، ولكن لدّي سبب مبرر لطرحه بهذا الشكل المباشر…وأمام مطلب مماثل سأجد كثيرا من المجتهدين الذين سيحاولون بحسن نية وصفاء أن يجدوا إجابات قد تتقارب، تختلف أو تتناقض تماما، سينظر كلٌّ إلى ذاته، ثمّ بدل أن يجيب بموضوعية سيتقلّص داخل نفسه، نفسيته، أخلاقه، تطلعاته وشعوره الآني ربّما، وسيقول بمنتهى الذاتية والاختصار بكلمات تضمر معنى غير المعنى المقصود “هذا هو الجزائري” وهو في الحقيقة يريد أن يقول  “هذا هو أنا الجزائري” بكلمات مبهمة لا يفصل فيها بينه وبين أُمّة الجزائر.

سؤالي بعيد بعض الشيء عن هذا التصوّر الأولي البسيط، إذ أنّه يُطرح على الأدب، على الكتاب والأدباء، على ذوي الخبرات الجمالية والاختراع اللغوي الذي قد يكون ذا حمولة تتجاوز الإجابة البسيطة لشخص عادي يفترض أن كل ما لا يشبهه فهو أجنبي، غريب عنه، لأنه وببساطة تعلّم أن يكون هو “مقياس الأشياء كلّها” (فليسامحني بروتاغورس على هذه الاستعارة).

قد قرأت في مناسبات متباينة، عبارة مكرّرة كثيرًا من طرف الأدباء أنفسهم عندما يقدحون في بعضهم البعض: “هذا الأديب -أو ذاك- لا يتوجه بخطابه، بصوره، بالبيئة التي يرسمها، إلى الجزائري، والشخصيات التي يبتكرها أبعد ما تكون عنه (عن الجزائري)”. أكثر من هذا أن بعضهم -أتجنب ذكر الأسماء عن قصد- يصل إلى حدّ الجزم أنّ “الكاتب الفلاني يلاقي قبولا في دول عربية أخرى، لأن ما يكتبه لا يحمل أي ملمح جزائري”. حسنا هنا تطرح أمامي مشكلتين: الأولى مشكلة تصوير البيئة الجزائرية، التي لن أولي لها اهتماما، لأنها ليست موضوعي الأساسي. لكن سأسجل هنا أنني وبصدق لا أعلم كيف يمكن ذلك؟ هل يكفي ذكر أسماء الأماكن؟ هل يجب نقل وبشكل فوتوغرافي مجتمع ما داخل رواية أو قصّة؟ ربّما تكون أحداث الرواية تدور على رأس جبل مهجور اختاره الكاتب ليكون مسرحا لروايته دون أن يكون لذلك المكان وجودا فعليا، فيرسمه مثلما رسم غويا رجُلَه آكل البشر، أو مثلما اخترع غارسيا مركيز الواد والوهاد التي حرّك داخلها رائعته مئة عام من العزلة. فلأتوقف في هذا الشأن عند هذا الحد.

المشكلة الثانية هي شخصية الجزائري داخل الأدب (سأستعير هذا التعبير رغم عدم موافقتي عليه)، هناك من يرى أن للجزائري شخصية تتحدد ملامحها من خلال أمور مشتركة يتم تصنيفها تصنيفا فريدا، كاريكاتوريا أميل إلى أن يكون مجموعة كليشيهات، إذ حتّى تكون جزائريا يجب أن تكون: شرسا، فائر الدم، متهوّرا، غير مهذب، غضوب، لا تخجل، ذو أنفه مبالغ فيها، كثيف التدخين، تحب المقاهي، في بعض الحالات تكون سكيرا ومحبطا، كثير السوداوية، تحتقر غيرك ممن يتهاونون في علاقاتهم مع المرأة، ويفترض بك ان تكون محبا وحنونا، طيبا، ساذجا، تنتقل من الغضب الشديد إلى المحبة الشديدة، مضيافا، أمّا في الحب يجب أن يتحدد الحب بشكل معين لا يخرج عنه، يجب أن تحب المرأة أمه وإلا فهو لا يمكن أن يعاشر امرأة لا تحب أمه أو لا تتحملها، يجب أن تكون امرأته خاضعة تماما، تتحمل عنفه، وتحقيره لها فهذا ما ينتظره من امرأة يحبها وربّما لا يعترف حتى بينه وبين نفسه بذاك الحب، بينما هي كي تعبر عن حبها له يجب أن تتحمل أوامره واشتراطاته التي لا تتوقف عند حد. وهو مع هذا معروف بعجزه عن التعبير عن ذاته خاصة فيما يتعلق بمشاعره الرقيقة، يجب أن يتفوّه بكلمات خشنة وأحيانا وقحة حين يعبر عن حبه فيبدو الأمر أقرب إلى السب والتوبيخ منه إلى الحب، ينضاف إلى هذا رجولته الطافحة وخلوّه من أي احتمالات للتسامح وجفاف في العلاقات، منافق يظهر عكس ما يطوي في سريرته، متحمّس لفلسطين جدا، مدافع شرس عن الدين، قلق، مزاجي…هذا هو الجزائري -أو تقريبا كذا يكون- الذي يراد للأدب أن يعكسه وأي خروج عن هذا، يصبح محاولة فرض نمط غير جزائري على الشخصية الجزائرية كما هي فعلا، ولكن أليس هذا التصوّر ذاته هو محض تنميط من نوع آخر وتعميم أيضا لما يجب أن يكون عليه الجزائري؟ وأي جزائري؟ في أي مرحلة؟ هل هو الشاب الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين؟ الكهل، الشيخ؟ هل هو المرأة، أم الرجل، أم هما معًا؟ أليست هذه صفات موجودة في العالم كله؟ فلماذا يُراد للجزائري دونا عن غيره أن يكون بهذه الصورة بالذات؟ ثمّ لماذا تبني نظرية جالينوس القائمة على تقسيم الأمم على أساس الأمزجة، والتي ينطبق فيها المزاج الجماعي على الفردي بقصد محو أي إمكانية لوجود الفرد بمعزل عن الجماعة، والحقيقة أنّها نظرية لم يعد أحد في العالم يركن إليها في تحليل السلوك.

 من وجهة نظري، لا وجود لشخصية جزائرية، لا وجود لجزائري نموذج (un algérien type, algérien générique) يوجد جزائريون ولا يوجد جزائري، أو قالب جاهز والفرد مجرد كائن سائل يمكننا وضعه داخل القالب فيأخذ صورته دون أي إمكانية للتفرد. في الفن وفي الأدب بالذات، لا يعقل أن نكرر الأنماط السائدة، الأدب هو فضاء التفرد. إيما بوفاري مثلا لم تكن تمثل الشخصية النموذج للمرأة الفرنسية في زمانها، بل بما فعلته وعاشته وتفردت به كانت شخصيتها فقط، وهكذا في أمثلة كثيرة أخرى لا جدوى من إزعاجها -فقط- بغرض القول إن الأدب ليس درسا سوسيولوجيا، ليس تحليلا لظواهر اجتماعية، والأديب ليس مرشدا ولا مصلحا اجتماعيا، أو باحث عن الهوية وراغب في ترسيخها، كما أنه ليس مصورا فوتوغرافيا عليه نقل ما هو موجود -رغم أن الصورة الفوتوغرافية إذا أخذت بذكاء ستكون مختلفة عن الواقع الذي تنقله-.

الأدب لا تهمه الشخصية الوطنية التوافقية التي ترضي الجميع، ويتفق حولها أغلب الناس هذا موجود في الواقع فلماذا نبحث عنه في الرواية؟، كما لا تهمه الشخصية الاجتماعية فيصيغها ألاف المرات والمرات حتى يتم قبوله.

ولعلّه من المشروع القول هذا ما نحن عليه في الواقع، من ثمّة التساؤل حول واقعية العمل الأدبي؟ صحيح أنّ الأديب ينطلق دائما حتى وهو يكتب عن كائنات فضائية من واقعه، من تجربته الشخصية التي يكتبها كل مرة بشكل مغاير، لكن الواقعية لا تعني أن يكون الكاتب مقيّدًا تماما بالواقع، بل عليه وهو يكتب أن يراعي الإمكانية لا الواقع، يمكنني أن أمثل على ذلك بلوحة جون أوغست إنغر (J.A Ingres)، اللوحة لظهر امرأة يقال أنّها زوجة الرسام، لأول وهلة تبدو امرأة عادية، لكن مع قليل من التدقيق يلاحظ أيّ كان أن حجم ظهرها يماثل حجم رجليها، ولو وجدت تلك المرأة في الواقع لما استطاعت الحركة بسبب ضخامة ظهرها، حتّى أن بعض النقاد أكّدوا أن إنغر قد أضاف ضلعا (الثالث عشر) ليتمكن لظهرها التقوس بذلك الشكل. هكذا يمكن أن يجمع الفن والأدب في آن الواقعية بالانفلات من الواقع. الواقعية بالنسبة للكاتب هي الانفتاح على الممكن، المحتمل والفرداني، تتيح له أن يضيف للواقع تلك الضلع التي تجعل منه مستحيلا وممكنا في آن، هي أن يهب الواقع ما شاء وكيفما شاء. وعليه فيمكن للجزائري كشخصية أدبية أن يكون هادئا، دافئا، حالما، تواقا إلى السعادة أو هو سعيد فعلًا، محبا للحياة، عاشقا، فنانا، وقد يكون تجسيدا للشر ذاته…أن يكونهم كلهم، أن يكون ما يريد..

في الأخير أكرر ما قاله أحد المخرجين السينمائيين عن السينما بأنّها ليست إلّا انعكاسا لذاتها. هكذا هي الرواية انعكاس لذاتها، للقيمة الجمالية والذوقية التي تقدمها والتي لم يعد أحد يناقشها أو يهتم لها…

 

   

 

مقالات من نفس القسم