هل اخترت هذا الوطن

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فرانسوا باسيلي

في مطلع عام 1970 هاجر الشاعر الشاب من مصر قافزاً فوق سبعة آلاف ميل وسبعة آلاف سنة معاً، وهو ليس واعياً تماما بغرابة وخطورة قفزته هذه، ولا كان واعياً وعياً كلياً بأنه يخرج من أقدم حضارة علي الأرض ليدخل أحدث وأقوي امبراطورية في عصره، ولعل إحساسه بهذه المفارقة وتداعياتها لم يصبه سوي وقد طعن في السن وفي الوعي وفي الغربة، وكان أن طعن أيضاً في الشعر وفي السحر وفي الحسرة، فراح يقول مخاطباً نفسه وغيره

هَجَرْتَ الْوَطَنَ الْأقْدَم
لِتُجَدَّدَ مَا لَا يُجَدّد
وَلتَجِدَ الَّذِي لَا يُوجَد
هبطتَ بأرض الموعد
وليس في انتظارك أحد
كأنك اخترتَ الخروج من رحم الأبد
إلي ما بعد الأبد
فَكَيْفَ اِخْتَرْتَ وَأَنْتَ مُقَيَّد؟

هل اخترتَ هذا الوطن
قبل شق النهار وشطر البحار
وقبل حرية الإختيار
فاخترتَ هذا المكان وهذا الجسد
لك أن تقطف تفاحة العشق فتمرق
أو لك أن تسجد
فاخترت أن تتمرد
وتهبط للأرض تبدأ قبل البدء
قبل أن يولد الحرف والخوف والآلهة
قبل أن تدرك أنك أول فرد

كان يا ماكان، وأما بعد
بعد أن خذلتنا الأساطير
بعد دهرٍ ودهرٍ وموتٍ وموت
ما عدتَ أنت كما كنت
وهل عاد من رحلة الدهر أحد
يخفف من روعنا، فنطمئن؟

هل اخترتَ هذا الوطن؟
أم اختارك النهر كي تكون شاهدا
علي فجر الضمير
تسمع أنات هذا الخرير
فتدرك سر الكون، تصير واحدا
مع الإله
تصير ابنه البكر
هكذا فضضت أختام الحياة
تصلي للإله “بس”
إله الضحك والسمر
ضاحكاً مشاركاً
فرح المأساة الملهاة
مدركاً أنك لن تخرج من دنياك
سوي كما تخرج روحٌ من حجر

كنت طفلاً، والأرض طفلة
لم يبدأ التاريخ بعد
ولا كتبته يد اللصوص القتلة
لا قبل مصر ولا بعد مصر
فهل كنتَ قبل الزمان إذن؟

هل اخترتَ هذا الوطن
قبل أن يسرقوا ما أتيت من يقين
وموازين الحكمة والحق
قبل أن يسلبوك سلوك الساحر والمسحور
رحت تصلي لهاتور
نورٌ من نور
إلهة عشقٍ من إلهة عشق
أيتها الساخنة الباردة
أيتها الهابطة الصاعدة
من أجسادٍ هامدةٍ وقبور
قدوسٌ قدوس
تسألها من أين أَتَيْتِ بنا؟
لنخْرج مِنْكِ نَعُود إِلَيْكِ
تسألها وما أنت سوي
لحم من لحم، حلم من حلم
تسألها وتجوع
فتدخل هيكل جسدٍ لا يعلم
أنه قدس الأقداس
ترفع قداس العشق فتسمع
جسد الأرض يجلجل كالناقوس
وقد حبل بنسل الحية
منك
فَلُعِنْتَ كَأَنَّكَ خَالَفَت النَّامُوس
وَطُرِدْتَ مِنَ الْفرْدوس
كأن العشق خطيئتك الأصلية
كيف تكون محبة قلبك إثم؟
حزنت نفسك حتي الموت
ومالت روحك فوق الأرض تئن
هل اخترت هذا الوطن؟

من كتب الهجرة لك
فخرجتَ وألقيتَ باللائمة
علي إلهك الذي لم يأت بعد
فما تزال الروح هائمة
أبصرتَ جثثاً بغير عدد
قلتَ هو الخروج إلي النهار
من نفق الرحلة القاتمة
أين يا موت شوكتك؟
فالقبر لن يصبح الخاتمة
قلتَ هذا وعدتَ إلي بيتك
قلتَ أن حبيبتك المسجاة
لم تمت، إنما نائمة
هل نمتَ علي نهدها
ورضعتَ حليب الحياة
فعشتَ بلا خوف أن يغلبك الزمن؟

هل اخترتَ هذا الوطن؟
فتقمصتَ نفسك فيه
دون أن تتقمص أحلامك القادمة؟
وتنكرتَ لزهرة لوتس
كانت تصطفيك وتصطفيه
وبدلتَ جلدك كي تشبه الفاتحين
ورحت تحارب ذاهباً قادما
كَيْفَ فَتَحْتَ فَجْرَكَ مُلْهَمًا وَمُلْهِمَا
وأنهيت يومك منهزما
ومشيت علي حافة الكون تقطر دما
هل نال منك الوهن؟

هل اخترت هذا الوطن؟
أم اخترت أن تتمهل
حتي تصير خيول الغزاة
قاب نهرين من مدخل المملكة
قاب نهدين من مخدع الملكة
فتذهب تجثو أمام مفاتنها النائمة
معتذراً عن غيابك عن ساحة المعركة
وفي لغةٍ منهكة
تصلي لكي يتكفل بالأمر ربك
ويمنحك البركة
لتستل سيفك
من غمد أوهامه، تضرب كل الجهات
التي جاء منها الغزاة
والتي جاء منها الطغاة
والتي جاء منها الدعاة
وكأنك تضرب جيشاً من أشباح
وتطعن نفسك
لكي تتبرأ من ليلةٍ لا يليها صباح
وقد بعت ما بعت دون ثمن

هل اخترت هذا الوطن
أم اخترت بقاياه
ورحت تجمع جثمانه المطروح
في كل حقلٍ تري جسداً دون روح
لم يبق منه سوي حبل رحمك
مازلت تمتص من بطن إيزيس
خبز يومك، قربانك المغموس
بدمع جبينك
وقد حولته الصلاة دماً في الكؤوس
تشربك الأرض نخب الطقوس
التي قتلتك صبيا
وتأكلك الأرض غصناً طريا
فتأتيك إيزيس
تنفخ فيك اللهاث فتحيا
ولكن ما أن تقوم من الموت
حتي تعود له راضياً مرضياً
وكأنك لا تستريح
سوي في كفن

هل اخترت هذا الوطن؟
أم هجرته واخترت معناه
فلم يبق منه سوي السور والمذبحة
ولم يبق ممن أحبوك وأحببت
سوي الأمس والرائحة
فقد هاجر الكل
هاجر الأهل والخل
هاجر الأصل والظل
ومن لم يهاجر
مشي نحو ضفة نهرٍ
يشبه النيل قبل الجفاف
وبكي وكأن مآقيه
ستروي له شجر الصفصاف
أتخاف علي من مضوا يائسين
أم علي الحاضرين تخاف؟
وتنعي من؟
والموت يطرق أبوابنا
جمعاً، وإيماننا
لا يقيم من الموت أحبابنا
فنواعدهم بلقاءٍ وراء الثريا
ونقيم العزاء علي من مات حيا
يتقلب في قبره، ويئن

هل اخترت هذا الوطن؟
أم هجرته واخترت أرضاً سواه
وتركته نهباً لمن هب ودب
تركت لهم طرقات الدخول
إلي عرش ملكك
فكيف تخليت عما بنيت
وبعثرت ما جمعته يداك
وخنت وصايا أبيك الذي في السماء
وأبيك الذي في الأرض
فلا أنت أرضيت هذا ولا ذاك
وما عدت تعرف من أنت
ومن أين جئت
تطوحك الريح من محنٍ لمحن

هل اخترت هذا الوطن؟
فوقفت أمام الإله
قلت لا، لم ألوث نهر النيل
ولم أنكر الحقل والنخل، لم أخن
فضع قلبي في ميزانك الذي يزن
قلبي أخف من ريشةٍ
ويحمل أثقال هذا الكون
إخترتني فاختارني الوطن
قبل أن أخطو علي درج الحياة
فعلقت به
كما تعلق نطفةٌ بمهبلٍ
وكما تعلق بالريح حصاة
وصرخت يا ألله
أشكوك أم أشكيه
وطني الذي أرسلتني إليه
ماذا أفعل فيه؟
ماذا أفعل يا ألله
وأنا أينما اقتربت
أينما ابتعدت
أينما أقمت أينما فررت
ليس لي نعمةٌ
أو نقمةٌ
أو لقمةٌ
أو كلمةٌ
أو جنةٌ
أو لعنةٌ
سواه.

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم