حذاء أبيض بكعبٍ عالٍ

ميرثيديس دي بابلوز
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ميرثيديس دي بابلوز*

ترجمة: أحمد عويضة

توقف قلبي عندما انعطفت، ما رأيته بدا كأنه هيكل عظمي لذراع ينتهي بخطافٍ شرير منمق، كرسم من رسوم قراصنة هوجو برات[1]، كان عليّ أن أبذل بعض الجهد وأركز عينيّ في النظر، كنت على وشك البحث عن نظارتي في حقيبة الظهر، للتحقق من ذلك، من أنني لست مخطئًا، من أن الواقع لم يحبس الأموات والكنوز ولا المغامرات في كايب هورن[2] وفي أقراط ذهبية منتصرةٍ تتدلى من أذنيّ. واقعي كان سبعة عشر كيسًا من القمامة، في حجم الحديقة، وحاوية ملابس مستعملة في محيط خمسين كيلومترًا.

واقعي كان هو أمي الميتة، قلبي الفارغ، وكيلوجرامات من الأشياء في الخزائن والأدراج وحتى في طرقات المنزل الذي كان منزلنا ذات يوم. هُزِم العقل، وتحطم القلب لأنه رغم أن المنطق أعفاني من الشعور بالذنب، فقد كنت إبنة جيدة – أكرر تلك الجملة لنفسي كأنها ترنيمة – إلا أن تلك الأشياء التي تم التخلي عنها، المهجورة، المنفية، جعلتني أشعر  كأنني تركت أمي وحيدة، وحيدة جدًا مثل تابوتها في المقبرة، وحيدة للغاية مثل موتى بيكير[3]، مثل كل الأموات.

زوجة لوطٍ قضت بسبب فضولها، مباركة هي، ذلك ذنب أخف مما حولني، ليس إلى ملح مثلها ولكن إلى أسمنت، يحتلني شلل تام، عاجزة عن الخروج من حلقة الألم هذه.

برز الحذاء الأبيض من فوهة حاوية الملابس، حذاء أبيض من الستينات، ربما من لاتوش، إحدى ماركاتها المفضلة، تم الاعتناء به وترطيبه مثل جلد طفلٍ رضيع، وحُفِظ بمحبةٍ في فوضى أتباع ديوجين[4] الفاخرة الذي كانت خزاناتهم هي منازلهم وأشياءهم.

هذا الحذاء ذو الرقبة العالية والكعب الغاضب، ذلك الخطاف المغروس في ألمي، تلك الصورة التي أراها أمامي منذ تلك الليلة وفي كل الأوقات. نزوحي، الذي كان هروبًا، من مكب النفايات، والأمل في أن أنسى ذلك المنظر، ثياب أمي ابتلعتها قطعةٌ فنية، مخلوقٌ أخضر اللون ذو بطن كبير،  وفكرة سخيفة في رأسي تشبه أغنية مبتذلة لا تتوقف عن التردد داخل رأسك، وكلما ظننت أنك نسيتها عادت رأسك إلى ترديدها، شرهة مثل النمل الأبيض، ومثابرة مثل الحجر الذي تحولتُ إليه. قلت لنفسي: إنه حذاء من لاتوش مثل الكثير من أحذيتها حقائبها، بالتأكيد تتوق إليها إحدى الجمعيات الخيرية، ولكنني لا أعيش في المملكة المتحدة، ولا يمكنني إنتظار شخص متقلب المزاج من Wallapop[5] يريد أن يأخذها. نطقتُ لاتوش وفي الحال حضر إلى ذهني وجه لاتوش، ليس المصمم وصانع الأحذية.. بل الاقتصادي، ذلك الفرنسي هادم اللذات، الذي أصرّ على أن أعدادنا يجب أن تقل لننقذ العالم. من المضحك والمحرج أنني رغم عدم إخلاصي لأغراض أمي، ذكرياتها الحية، وكنوزها، لأ أزيل من رأسي هذا المُحرِض الذي يذكرنا بأننا أتلفنا العالم من كثرة استخدامه، بعضنا أكثر من الآخرين بالطبع.

في وقتٍ آخر، ربما كنت سأربط الأفكار ببعضها كي أنظر في الأمر مرة أخرى، بل وسأدخل الطبقية ضمنه، وسنرى تناقض العيش الذي يطالب بالحقوق التي تتغذى على إنعدام حقوق الآخرين. تهديد نهاية العالم غير الوارد ذاك الذي هدد به لاتوش يؤكد لنا أننا لم نقتل الدجاجة التي تبيض بيضًا ذهبيًا، ولكننا قتلنا كل الدجاج والديوك الممكن قتلها، وأن أسلوب حياتنا أصبح هشًا مثل أسلوب حياة الديناصورات وأن كل الأبراج العالية قد سقطت.

أبراج عالية، أحذية برقبة عالية. من الغريب أنك تنجو من أضرار حيوية، فنحن ننجو من حروبٍ حقيقية، وعاطفية، قادرون على ابتلاع الآلام والمرارات والمجاعات والمآسي، ولكن ذات يومٍ تأتي صورة، إشارة، تنقض على مؤخرة رأسك.. عندها أنت شخصٌ مهزوم، خسرت بالفعل، لقد هزمك الحذاء الأبيض ذو الكعب للأبد.

من يتذكر شارلمان اليوم؟ هذه من الجمل المفضلة لواحدٍ من رفاقي المفضلين، مدرس مثلي، ولكن بأطنانٍ من الشك أكثر مما أحمل، وبكثير من الحكمة بين سينيكا[6] ورجل في حانة[7]. عندما رآني متورطةً في شجار أكاديمي أو ربما شخصي، إن كنت أستطيع التمييز بينهما، عندما رآي معاناتي وشعر بسخطي، رأى أرقي والحزن الذي كسا شخصيتي، دعاني لتناول القهوة وسألني بإصرار: من يتذكر شارلمان اليوم؟ حتى أعظم الأشياء تسقط في النسيان، لا تفقدي سلامك لأجل أشياء سيطويها النسيان، الباقي هو الصمت.. تذكري هاملت، انتهى.

كيف يمكنني أن أتحدث عن صمت أمي، ذات الحكمة الحياتية، التي لم تتوقف عن الصراخ في وجهي منذ أفرغتُ منزلها وتركت هذا الحذاء كرايةٍ تتوج قمة الهزيمة. الصورة الخرساء للحذاء الأبيض هي، لسوء حظي، استحالة تصحيح الخطيئة، خطيئتي.. معتقدًا أن الذاكرة تُبقي اللذين رحلوا أحياء، واقعًا في خطأ التفوق والهيمنة البشرية على الأشياء، لا شيء أكثر زيفًا من ذلك.

 

نجا مقعد الحديقة حيث قبلوكِ للمرة الأولى، ودفعوا ألسنهم داخل فمك بشكلٍ أخرق محاولين محاكاة قصة حب وجعْلك تشكين في شغفك تجاه حبٍ لم يكن أفلاطونيًا. لم يتبقى شيء ممن ظننت أنك ستموتين حزنًا عندما توقف عن الإتصال بك، ولكن المقعد ظل هناك ولم يتمكن منه لا المخربون ولا المخططات الحضرية، بعد ذلك بخمسين عامًا رأيتِه وأنت تمرين بتلك الحديقة وبقيت القبلة الأولى على قيد الحياة على ذلك المقعد، لا من قبَل ولا من قُبِل، فقط ذلك الإطار الحديدي القديم الذي أُعيد طلاءه وبقي قديمًا، وحيدًا ومهيبًا كما لو كان شجرة.

بقيتْ اليوميات الأولى التي كتبتينها على قيد الحياة، مبتذلة وملتوية، بخطِ لا تفهمينه، وتجعلك تحمرين وتشعرين بسعادةً لا نهائية عندما تفهمين جزءً منها كأنك من عائلة برونتي[8] في الغرفة إكس، خاصة تلك القصائد ذات القوافي المبهرجة التي لا تجرؤين على تمزيقها أو إلقاءها في القمامة، لخوفٍ قديم – أكثر منه ولاء لماضيكِ- من شيئ يشبه الخرافة، وهو الاعتقاد بأنه إن مزقت تلك الأوراق وألقيتها فسوف تختلط مع أوراق الأشجار الملطخة بالدهن والفاكهة تقوم بتحفيز شيء شرير، وسيؤدي ذلك إلى أن تفقدي يدًا أو ساقًا، أو حتى بعض من قدرتك على التفكير والحب.

نجا الكرسي الذي أُهدي إليك عندما بدأت في الدراسة، قرر والدك أنه لا كرسي آخر في المنزل يستوفي شروط الجودة كي يرافق رحلة سعيك دون أن يحولها إلى محنة. من غرفتك كطفلة إلى غرفتك كطالبة.. سافر الكرسي إلى كل منازلك، قويًا جدًا ومتينًا للغاية لدرجة أنك لم ترغبي في استبداله قط، رغم أنه يبدو الآن قديمًا بالمقارنة بتلك التصميمات الجديدة التي تنتجها المصانع، التي هي في غاية الجمال والراحة، ومع أن ذلك الكرسي ذو القماش الأزرق الكهربي يتنافر بشدة مع كل أثاثك، ورغم أنك – قبل كل ذلك – لا تستخدمينه قط لأنك تكتبين وتقرأين على اللابتوب الذي تضعينه على ركبتيك وأنت جالسة على الأريكة في غرفة المعيشة.

بقيت حافظة الأوراق التي اشتريتيها لتحتفظي فيها بأوراق الانفصال، حكم الطلاق، وإثبات الدفع للمحامي، كلها محفوظة ومرتبة بعناية ومغلقة بشريطٍ وردي، أردتِ أن تغلفي تلك الأوراق ذات الخط الصغير، تلك القبيحة غير الودودة التي شهدت على الكثير من الفشل، لم تشهد على حبٍ انتهى، بل على علاقةٍ تحولت إلى حرب.

الأواني والأطباق وأدوات المائدة نجت أيضًا، تلك التي أهدوك إياها عندما قررت أن تعيشي بمفردك، بادئة دون أن تقصدي أطول مرحلة في حياتك، حياة الوحدة، المساحة المغلقة للخصوصية، لفترة طويلةٍ حد أنك لم تعودي تتذكري حتى كيف ينبغي أن تشاركي مناشفك مع أحد، كيف تدعين يدًا أخرى ترتب الفراش، تنظف أطباق العشاء، أو تختار المحطة التي تريد مشاهدتها في التلفزيون.

نجا الحزام الأسود ذو الأحرف الذهبية، وهنا بدأتِ تتشبهين بأمك، الذي انتزعته من إكليل والدك الجنائزي، قبل لحظة من وضعه في الحفرة رفقة التابوت، يا لها من دموع تذرفها الزهور، تزينها لمرافقة ذلك الجسد المستلقي، الجسد الذي لا يراها ولا يشم عبيرها ولكنها ترافقه كزوجاتٍ هندوسيات ينبغي عليهن أن يتبعن أزواجهن المتوفين. بدافع عبارة ” زوجتك وأطفالك لن ينسوك” ورغم أنها عبارة تقليدية، أخذت الشريط الأسود واحتفظت به، بقي محفوظًا في صندوق من تلك الصناديق الخاصة التي رافقتك في كل المنازل التي سكنتيها، وفي حياتك. بقي ذلك الشريط المذنب تحديدًا مرافقًا لشريط آخر انتزعته من قبعة التزلج التي سقطت من آخر رجل أحببته، أخذتها ووعدتِ بأنك ستخيطينها له في القبعة ولكن لم تكن القبعة هي التي تمزقت بشكلٍ لا يجدي معه تصليح، بل كان الرجل نفسه. تكسّر من الداخل وعانى من اكتئابٍ كما قال الأطباء، تمزق تمزيقًا لااحتمال لخياطته أو إصلاحه.

بقيت الأشياء كما بقي الحذاء الأبيض، متوحشًا من كل المشاعر التي شعرتِ بها عندما صرتِ يتيمة بشكلٍ كامل. منظر الحذاء كان متغطرسًا، عابثًا، سخيفًا وغريب الأطوار بعض الشيء، يمنع المأساة والميلودراما، والبكاء.

لأن الشعور بالذنب، عدواني مُجتاح، شبه مُجسد، قابل للّمس، مادي. الشعور بالذنب مثل الوشم، وبصمة الإصبع، مثل العلامة، الذنب البارد الناتج عن معرفة أنه لازال هناك الكثير من أيام العمل، بل وحتى الحفلات والضحك.

نجت الخيانة، خيانة ترك الحياة تستمر، خيانة البقاء على قيد الحياة.

………………………….

* نُشِرت على موقع زِندا في إبريل 2022

 

[1] كاتب ومؤلف قصص مصورة إيطالي، من أشهر أعماله كورتو المالطي.

[2] Cape Horn: تقع في الجزء الجنوبي من جزيرة هورن في تشيلي، وهي تعتبر آخر نقطة في قارة أمريكا اللاتينية

[3] جوستابو آدولفو بيكير، شاعر وكاتب إسباني (1836 إلى 1870)

[4] أحد الفلاسفة الكلبيين

[5] شركة إسبانية تم تأسيسها في عام 2014 لتبادل الأغراض المستعملة.

[6] فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني

[7] لوحة زيتية لآدريان بورير

[8] عائلة برونتي، أو الأخوات برونتي: هي عائلة أدبية انجليزية من القرن التاسع عشر، وهن ثلاثة أخوات (شارلوت وإيميلي وآن) شاعرات وروائيات كن ينشرن أعمالهن تحت أسماء مستعارة لذكور.

مقالات من نفس القسم