ترجمة: سعيد بوخليط
لايستكين قط الهوائي لدى وليام بليك، بل يظل ”طاقة”. طاقة معبِّرة. تصور أشار إليه حقا جان لوسكور في مقالته الرائعة ضمن كتاب الرسائل(1939). لقد منح بليك: “حيزا إلى هذه الطاقة المبدعة التي تضغط عليه كي تنتزعه من غموضه غير المجدي والمؤلم، ثم تحمله بواسطة الصياغة نحو الوجود وكذا الحركة”.
هيَّا أنت انهض! انهض يا هذا! أيها النائم في بلد الأوهام، انهض، وتمدَّد!
يهيئ هذا التوتّر نهوض الكائن، وضع يجسِّد في نهاية المطاف الدرس الأخير لشعرية ويليام بليك.
سنعود إلى قصيدة أقل توتّرا، وهوائية بكيفية خاصة. لم نتوخ إظهار سوى أوجاع كائن تمتلكه الأرض من كل جهة، لكنه يشتغل بقوى متخيَّلة تتوخى مغادرة الأرض. نلاحظ، عبر جلّ صفحات عمل بليك، سلاسل متوترة جراء مجهود أبان عنه بروميثيوس جديد. بروميثيوس طاقة حيوية، يتمثل شعارها في التالي: ”تشكِّل الطاقة الحياة الوحيدة، مصدرها الجسد. الطاقة متعة أبدية”. تستدعي هذه الطاقة تخيّلها. ذلك أن حقيقتها في حد ذاتها متخيَّلة. طاقة متخيَّلة تنتقل من المحتمل إلى الفعلي. إنها تسعى نحو تشكيل صور على مستوى الشكل والمادة، تملأ الأشكال، وتنعش المواد. الخيال الديناميكي، عند ويليام بليك، إبلاغ عن الطاقة.
لكي يستوعب القارئ بليك، يلزمه التمرّن على استنفار مختلف عضلات جسده، ثم أن يضم أساسا المجهود إلى النَّفَس، نَفَس الغضب. وقد تأتى له أيضا، إعطاء الدلالة الحقيقة لما يمكننا تسميته كي نميز إلهام ويليام بليك، ب: إلهام أجشّ. يعكس حقا هذا النَّفَس الموجع، صوتا متكهِّنا يتكلم بين طيات صفحات مؤلفات ”أورزين”(1)، لوس(2)، أهانيا(3). ضمن”قائمة وصفية بلوحات، لإبداعات شعرية وتاريخية”، رسمها بليك بذاته (الرسائل 1939)، كتب التالي: ”ليس الفكر والرؤيا، كما تفترضهما الفلسفة الحديثة، مجرد بخار ضبابي أو لاشيء، بل هما مهيكَلان ومترابطان بكيفية دقيقة أبعد مما بوسع أن تنتجه الطبيعة الفانية وكذا القابلة للتلف. من لايتخيَّل بسمات أقوى وأفضل، ثم بوضوح أقوى وأفضل، مما أمكن عينه اليسرى رؤيته، فإنه لايتخيَّل قط” (ترجمة جون لوسكور).
أن نتخيَّل، يعني التسامي بالواقع من خلال نبرة معينة. يبدو بأن أشباح بليك امتلكت بالضرورة صوتا عميقا، صوتا حَلْقيا، أكثر”تلفظا وبتأنٍّ دقيق”، مثل الأصوات المهموسة التي تتحدث بين طيات القصائد حيث ”لانتخيَّل قط”. يبدو بأن نصوص عمله “الكتب المتكهنة”، حين الإصغاء إليها كقصيدة للنَّفَس المعذَّب، ستغدو مثل ابتهالات للطاقة، وكذا صيغ تعجبية متأمِّلة. بكيفية أكثر عمقا، يلزمنا تبيُّن تحت الأقوال، خيالا يحيا أو حياة تتخيَّل.
ويليام بليك، نموذج نادر عن خيال مطلق يوجه المواد، القوى، الأشكال، الحياة، الفكر، والذي يمكنه الإقرار شرعيا بفلسفة تشرح الواقع بالمتخيَّل، مثلما نتوخى القيام بذلك.
سنحاول على امتداد هذا الفصل طرح ملخص للموضوعات الشعرية المتنوعة جدا كما تطرحها جمالية الأجنحة، أو تحديدا، الطاقة التي تمنح الخِفَّة والحبور. نقتفي هدفا عاما: نشتغل أيضا قدر مايكون التدقيق على الإشكالية الصعبة لعلاقات الشكل والقوة التي نعيشها الواحدة تلو الأخرى بفضل الخيال. لانعتقد بـأنه يجوز لنا المبادرة إلى دراسة بكيفية شاملة لمختلف الصور التي يمكنها التراكم لدى كائن منعزل. بالتالي، سيكون مفيدا دراسة مختلف الصور الشعرية التي يقدمها طائر معين.
تتيح مجموعة حيوانية حول صور أدبية، مذهبا عاما بخصوص نظرية جمالية معيارية، مثلما تحقق نفس الأمر مع تلك المتعلقة بالصور الأسطورية، كما اشتغل عليها أنجيليو ودي جوبيرناتيس، فقدم بذلك خدمة إلى الأسطورة. لكنها، مهمة تتجاوز قوانا، إضافة إلى كونها تربطنا بأمثلة اقتفيناها طويلا جدا، وبالتالي افتقاد وجهة الوظيفة الفلسفية التي تصورتها وتحيل باستمرار على قواعد المتخيَّل العامة، وكذا تأمل عناصره الأساسية.
مع ذلك نريد إنهاء هذا الفصل بعرض مثال خاص جدا، يؤكد حسب اعتقادي أطروحتي العامة بخصوص سيادة الخيال الديناميكي قياسا لخيال الأشكال. الصورة الماثلة أمام نظري، تلك المتعلقة بطائر القبَّرة. صورة مشتركة لدى مختلف الآداب الأوروبية.
لكي ننخرط بسرعة في السجال، نلفت الانتباه بأن القبَّرة مثال ساطع عن صورة أدبية بحتة. محض صورة أدبية؛ تجسد مبدأ مجازات عديدة، مجازات مباشرة جدا كما يظهر لنا، حينما نتحدث عن القبَّرة، من ثمة فهي تعكس حالة واقعية. بيد أن حقيقة القبَّرة في الأدب، ليست سوى محض حالة خاصة وخالصة عن واقعية المجاز.
هكذا، وقد تاهت القبَّرة بين الأعالي والشمس، ينعدم حينئذ كيانها بالنسبة لعين الرسام. إنها صغيرة جدا كي تشكل دلالة مشهد طبيعي. لون أخدود، لايمكنها إضفاء أي وردة على أرض الخريف. لذلك، فالقبَّرة – التي تلعب دورا كبيرا في لوحات الكاتب- لايمكنها أن تظهر في لوحات الرسام.
حينما يستدعيها الشاعر، ستبدو من بعض النواحي، ضدا على كل مقياس، مهمة بقدر أهمية الغابة أو الجدول.
لقد منح ”جوزيف فرايهرفون أيشندورف”، القبَّرة في عمله”مغامرات إنسان بلا كفاءة”، موقعا ضمن الكائنات الكبرى للمشهد الطبيعي:
أتركُ الرب يدبر أمور كل شيء،
هو الذي يضمن استمرارية الجداول، القبَّرات، الغابات، الحقول،
الأرض والسماء(4).
لكن هل بوسع الكاتب نفسه أن يقدم لنا بهذا الخصوص وصفا حقيقيا؟هل يمكنه حقا أن يفيدنا على مستوى شكلها ولونها؟
فعلا التزم جول ميشليه بذلك عبر صفحات غذت توثيقا شعبيا. غير أن وصفا من هذا القبيل: ”طائر بكساء رثٍّ جدا، لكنه في غاية الثراء حين الإحالة على فؤاده وشدوه”، سرعان مايتخذ طابع لوحة أخلاقية. يلزمنا تسميتها ب” قبَّرة ميشليه”. الآن، أضحت القبَّرة ”شخصا وستظل كذلك إلى الأبد”، حسب تعبير ميشليه دائما، متحدثا عن طائر من هذا القبيل وصفه ألفونس توسينيل (ميشليه، الطائر).
يبالغ توسينيل، وقد عبَّر بالأحرى عن وصف سياسي بدل المقاربة الأخلاقية (توسينيل ص 250 ): “ترتدي القبَّرة معطفا رماديا، الحزينة المستسلمة إلى العمل، عمل الحقول، الأكثر نبلا، وفعالية، والأقل تعويضا، ثم الأكثر كآبة مقارنة مع الباقي”. ستظل إلى الأبد ”رفيقة المُزَارع”. إنها ابنة المحراث، مثلما يقول بيتروس بوريل: نزرع من أجلها(5). غير أن الرمزيتين الأخلاقية والسياسية، تبعدنا عن الرمزيتين الطبيعية والكونية، المرتبطتين بالقبَّرة، كما سنرى.
مع ذلك، وفيما يتعلق بوصف القبَّرة، ينمّ أصلا نموذج ميشليه وتوسينيل، عن أعراض؛ ذلك أن وصفها يعني، تجنّب الوظيفة الوصفية، قصد العثور على جمال ثان غير الجمال الوصفي. “صيَّاد صور” صاحب عين ثاقبة؛ يراهن ببراعة لاتعرف الكلل على تعدد ألوان الأشكال، كما الشأن مع جول رونار، حينما وجد نفسه صدفة أمام ظاهرة القبَّرة، على نحو مثير بكيفية فورية (وقائع طبيعية، القبَّرة).
لم أر قط طائر القبَّرة وأستيقظ بلا جدوى قبل الشفق.
ليست القبَّرة طائرا أرضيا.
لكن استمعوا مثلما أسمع
اسمعوا، في مكان ما، هناك صوب الأعالي، دقَّ قِطع بلورية وسط كأس ذهبي.
من بوسعه إخباري أين تشدو القبَّرة ؟
تعيش القبَّرة في السماء، إنها الطائر الوحيد الذي ينساب شدوه غاية مكاننا(6).
يستحضرها الشعراء ويرفضون وصفها. لونها، على سبيل المثال؟هكذا رسمه أدولف ريسي (الأعمال الكاملة، ص 30)، وفق الصيغة التالية: “ثم، انتبهوا: ليست القبَّرة من تغرد بل طائر لون اللانهائي”. نضيف بدورنا: لون التعالي. القبَّرة انبجاس لتسامي بيرسي شيلي: إنها خفيفة وغير مرئية. اقتلاع من الأرض ثم انتصار فوري؛ صرختها لاتنطوي عن أي سمة من قصيدة ويليام بليك. إنها ليست خلاصا، بل على الفور حرية. ترنّ نغمة التعالي، عبر مختلف نبرات شدوها.
نستوعب في هذا الإطار، دواعي تأطير القبَّرة من لدن جان بول جوبيل(ترجمة ص 19)، ضمن خانة الشعار التالي: “غرِّدْ، تحلق إذن”. ويبدو، بأنه تغريد يرتفع زخمه قدر ارتفاع تحليق الطائر. يعطي تريستان تزارا (حبيبات ومنافذ، ص 120)، القبَّرة مصيرا ”بعد” الفعل النهائي: “بعض انعطافات القبَّرات، التي تستوجب تتمة بعد فعل نهائي، تشكل دائما موضوع نصح”.
لماذا اتسم المنحى العمودي للشدو، بتأثيره الكبير على النفسية الإنسانية؟ كيف يمكننا التقاط هذه السعادة والأمل الكبيرين؟ ربما، لأنه شدو يعتبر في الوقت نفسه ساطعا وغامضا. وقد ابتعدت فقط بأمتار عن السطح، تثير القبَّرة غبارا على ضياء الشمس: تهتز صورتها مثل زغاريدها؛ نراها تتيه بين طيات الضوء. أليس بوسعنا ونحن نرغب في صياغة هذا الساطع اللامرئي، تضمين الشعرية بعض أهم خلاصات العبقرية العلمية. نقول إذن: ضمن الفضاء الشعري، القبَّرة جُسَيم لامرئي تصاحبه موجة سعادة. نوع هذه الموجة انتابت شاعرا مثل جوزيف فرايهر فون أيشندورف إبان الفجر (ص 102): “أخيرا، أعيش على امتداد السماء أسرابا طويلة حمراء اللون وقعها أخفّ من أثر نَفَس على مِرآة ؛تغرد قبَّرة في أقاصي الأجواء فوق الوادي. هكذا، وبفضل هذه التحية الصباحية، غمر روحي صفاء كبير، وتلاشى كل خوف”.
أما الفيلسوف، مستندا تماما على تهور مهمته، فسيقترح نظرية تموجية للقبَّرة. متوخيا إقناعنا بأنه وحده الجزء النابض بالحياة في كياننا، سيتأتى له اكتشاف القبَّرة؛ يمكننا وصفها ديناميكيا بفضل مجهود للخيال الديناميكي، ولايمكننا وصفها شكليا في خضم سيادة إدراك الصور المرئية. يتعلق الوصف الديناميكي للقبَّرة بعالم متيقِّظ يغنِّي عبر واحد من وجهاته.
لكنكم تضيعون وقتكم حين السعي إلى مباغتة هذا العالم في أصله، بينما يحيا سلفا وفق تمدّده. تضيعون وقتكم في تحليله، بينما يعكس تركيبا خالصا لكائن وصيرورة، تحليق وشدو. يعتبر العالم الذي تحرضه القبَّرة الأكثر استخفافا مقارنة مع باقي العوالم. هو عالم أرض السهول، شهر أكتوبر وقد انحلت الشمس المشرقة بأكملها بين ثنايا ضباب لانهائي. عالم كهذا، امتلك ثراء دون مباهاة على مستوى العمق، العلو، والحجم. من أجل عالم كهذا يحدث دون تخطيط، تشدو القبَّرة اللامرئية: “أغنيتها مرِحة، خفيفة، دون تعب، لاتكلف شيئا، فتبدو مثل سعادة فكر لامرئي يتوخى تسلية الأرض”(ميشليه الطائر، ص 30).
لم يتغنَّى أيّ شاعر أفضل من شيلي بالساطع اللامرئي مثلما تجسده القبَّرة-بمصطلحات موجة السعادة- فقد استوعب أفقها الكوني، سعادة”دون جسد”، متجددة للغاية على الدوام في إيحائها بحيث يبدو بأن عِرقا جديدا يمثل مبعوثا لها:
Like an unbodied joy whose race is
Just begun
مثل سحابة نار، تمنح أجنحة إلى العمق الأزرق. بالنسبة لقبَّرة شيلي، الأنشودة اندفاع، والاندفاع نشيد. إنها سهم حاد يركض ضمن مجال فضي، تجابه القبَّرة جل مجازات الأشكال والألوان.
لايدرك الشاعر”متواريا خلف ضوء الفكر”، الإيقاعات التي تبعثها القبَّرة صوب”كل ملتقيات السماء”(توسينيل):
ما أنتِ عليه، لاندركه قط.
……………………..
هوامش:
مصدر المقالة:
Gaston Bachelard: Lair et Les songes. Essai sur l imagination du mouvement(1943). pp: 96-101.
(1) يمثل أورزين، في أسطورة ويليام بليك، تجسيدًا للعقل والقانون التقليديين. عادة ما يتم تصويره كرجل كهل صاحب لحية كثيفة (المترجم).
(2) المقصود هنا كتاب ويليام بليك: The Song of los(المتر جِم).
(3) كتاب أهانية، من الكتب المتكهِّنة للشاعر ويليام بليك. صدر عام 1795(المتر جِم).
(4) ترجمة بودلو ص. 12
(5) بيتروس بوريل: السيدة بوتيفار، 1877، ص 184.
(6)من خلال لعبة وكذا صراع صور انتُزعت من غشائها الثقيل، يقدم موريس بلانشار في سطور معينة كل سوريالية القبَّرة: “تتحطم قُبّرات مزعجة على حائط مرآة، ومنذئذ، هي فواكه تسبح باسم الرب. أضحت حناجرها الشفافة مواطن سوداء تائهة بين عاجِ الفِقْريات. تعيدها صرخة الزُّجاج إلى ريشها البلوري”(دفاتر القصيدة، “السوريالية مرة أخرى ودائما”، غشت 1943، ص 9 ). نتيجة الزُّجاج، امتلكت القبَّرة الشفافية، صلابة المادة، ثم الصرخة. هكذا، ستحدد مادة صلبة، ملامح قبَّرة أخرى أبعد من حقيقتها المادية.