ماكيت القاهرة.. رواية الفانتازيا البشرية: فن ترويض الزمن وتفكيك المدينة

ماكيت القاهرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الكفراوي

في روايته الأخيرة ” ماكيت القاهرة ” يصنع الكاتب الروائي طارق إمام عوالم فانتازية قوامها البشر، وبالتحديد أربعة شخصيات، يتفنن من خلال حياة كل شخصية أن يقدم نموذجا غرائبيا وفريدا وغير مألوف بالمرة، كما يسعى في سرد الأحداث وتراتبيتها إلى ترويض الزمن والتلاعب به وإلغائه في كثير من الأحيان، هنا تتولد دهشة مضاعفة ، فأنت لا تقف أمام شخصيات ذات طابع خرافي أو أسطوري فحسب، بل تقف أمام زمن زئبقي، ليس له حدود أو ملامح واضحة أو أبعاد معينة، ما يحيلنا إلى أفكار فلسفية كبرى حول تعريف الزمن والتعامل مع ماهيته، فهل هو مسار خطي أم دائري أم مجرد فكرة سيالة؟

يلعب الخيال دور البطولة في هذه الرواية التي تحتشد بالصور الخلابة، عبر أسلوب رشيق محكم، يحتكم للأمثولات أحيانا وأحيانا يجنح للتهكم والسخرية، فخيال الكاتب بداية من رسم الشخصيات واختيار أسمائها الغريبة  (أوريجا، نود، بلياردو، المسز) جعل لكل شخصية ميزة أو علامة أو طابعا خارقا ربما على مستوى الحكي أو التصوير الذي بدا وكأنه واقعيا بدرجة ما، فمن يتخيل المكان الرئيسي للأحداث “جاليري شغل كايرو” لا شك سيربط بينه وبين أحد المراكز الثقافية والفنية التي كانت مشهورة في وسط البلد، خاصة في بدايات الألفية، ومن يتتبع شخصية بلياردو سيعرف أنه ابن ثورة يناير واحد ضحاياها، وهو شخصية مقتبسة من الأحداث الشهيرة في محمد محمود وعرف فيها أحد الضباط بأنه “قناص العيون”، ومن هنا جاءت شخصية أحمد حرارة الواقعية جدا وهو أحد أبطال تلك الواقعة لتدلل على واقعية الشخصية أو تمنحها قوة الحضور الواقعي.

الشخصية الأولى أوريجا لديه علامة أو خاصية تبدأ في الظهور من السطور الأولى، فلديه إصبع السبابة الذي يمكن أن يطلق منه النار على أي شخص، وكانت الرصاصة الأولى من نصيب الشخص الخطأ وهو أبيه. ومن يومها لم يكبر هذا الإصبع ، وظل لدى الفتى يقين بأن هذا الإصبع سلاح يمكنه أن يستخدمه في أي وقت .

الشخصية الثانية “نود” لديها خاصة أنها ترى شخصا آخر في المرآة، فقط عندما تكون وحدها، بل وتقيم علاقة مع هذا الشخص وتنجب منه طفلا، سنعرف في منتصف الرواية أن هذا الطفل هو أوريجا نفسه صانع المجسمات وقاتل أبيه.

الشخصية الثالثة “بلياردو” ليس لديه خاصية خارقة، لكن لديه رغبات استثنائية تجاه المانيكانات ورثها من أبيه الذي كان يقيم علاقة مع المانيكانات.

الشخصية الرابعة “المسز” تجلس على مكتب لا أحد يعرف كيف دخلت إليه أو كيف يمكنها أن تخرج منه، ولديها صورة لطفلة تشبهها معلقة خلفها على الجدار تنظر عين الطفلة لمن يجلس أمام المسز بتمعن إذا كانت المسز مشغولة في أوراقها. ولا أحد يعرف بالضبط ماهية “المسز” هل هي كائن حقيقي أم متخيل؟ هل هي بنصف جسد أو بثلاثة أرجل؟ هل هي كائن بشري أم شبح؟ أسئلة كثيرة تدور حول هذه الشخصية التي لا تغادر مكتبها إلا محمولة من قبل شخص يظهر فجأة في مكان لا يظهر فيه أي أشخاص. والطابع الفانتازي لهذه الشخصية يجعلها تقترب من الأسطورة فهي تعرف الخاصية التي لدى كل شخص، تعرف تاريخ حياته، تعرف ما يفكر فيه الآخرون، بل وتفاجئهم بجمل وكلمات في أذهانهم قبل أن ينطقوها.

الرواية تبدو خارجة من قصة بسيطة، هي حكاية عائلة تكونت في ظروف غامضة وبالصدفة البحتة، الأم نود الهاربة من منزل أسرتها بسبب سوء المعاملة والاضطهاد الدائم لها، والأب بلياردو الذي فقد عينه في أحداث الثورة ولديه هوس خاص بالمانيكانات، والابن أوريجا. وجميع أفراد العائلة تربطهم بطريقة أو بأخرى وعبر أزمنة مختلفة علاقة بجاليري شغل كايرو، الذي يقرر تنفيذ ماكيت للقاهرة، فكل عشر سنوات تقريبا يقوم الجاليري بتوثيق القاهرة في ماكيت، لكن الغريب أن الماكيت بعد تنفيذه تتم إضافة التفاصيل إليه حية تماما، بشر وسيارات وعالم كامل يتحرك داخله، وكأن الماكيت هو حياة مصغرة موازية.

الأزمنة الثلاثة التي اختارها الكاتب 2011 و2020 و2045 تعبر عن محاولة منه لتأطير الزمن، ولكن خلال الأحداث نفسها ينتفي مفهوم الزمن ليبدو وكأن القارئ يسير وفق خوارزمية غامضة تقوده من عالم لعالم ومن الحقيقة للخيال ومن عالم الواقع إلى دنيا الأحلام، بحيث لا يكون هناك فاصل بين عالم وآخر أو زمن وآخر، وتحتشد الرواية بالألاعيب الفنية والأسئلة الفلسفية التي تحاول تلمس الحقيقة المجردة، وتحاول فض الاشتباك بين الخيالي والواقعي.

من فرط استخدام طارق إمام للخيال في هذه الرواية التي لا أعتبرها ضمن تيار الواقعية السحرية الذي يبرع إمام فيه، بقدر ما اعتبرها نابعة من فانتازيا الواقع أو تلمس جوانب السحر المخفية في التفاصيل البسيطة في الحياة اليومية وإعادة تشكيلها دراميا، هذا ما فعله الكاتب بطريقة مكثفة لدرجة أن القارئ يمكن أن يفقد الدهشة من التعامل مع التفاصيل الفانتازية ويندهش من التفاصيل الواقعية أو التي قد تبدو مألوفة، تماما مثل قصة أحمد حرارة أو تفصيلة “الكابو”  أو المقهى الذي يحتفي بنجم جيل الثمانينيات والتسعينيات حميد الشاعري، أو موضوع الفيلم الذي صورته “نود” للشاب الذي وقف أمام المانيكان في حالة ذوبان من النشوة وفي مقابله خلف فاترينة العرض تجلس البائعة في حالة موازية من النشوة ولكنه لا يراها، فكل شهوته متركزة في المانيكان التي أمامه.

لا تخلو الرواية من السخرية، وتتجلى هذه السمة حين يختار الكاتب كتابا بلا اسم ولكن له مظهر أسطوري فهو موجود في كل مكان وبكل الأحجام وكل من يقرأه يجد فيه قصة حياته، وكأنه كتاب للمصائر، واختار لهذا الكتاب اسم “منسي عجرم” في إحالة وإسقاط على المطربة اللبنانية الشهيرة . كما اختار كتاب آخر من نسج خياله أيضا لأحد المعماريين باسم يمزج بين الغربي والشرقي، وربما تصديره الرواية باقتباسين من الكتابين المتخيلين لخورخي خالد ومنسي عجرم هو نوع من السخرية التي يصدر بها روايته .

تخرج هذه الرواية من حيز الرواية التقليدية أو التاريخية وتدخل في إطار الفن الخالص الذي يهدف إلى تحفيز الخيال ويستهدف بناء عوالم مختلفة في مربع ضيق هو وسط القاهرة، وتنطلق لترصد العديد من الأماكن عبر الماكيت الرمزي، وكأنها تفكك المناطق المختلفة لتضعها في هذا الماكيت الذي يتم تدميره ذاتيا في النهاية، ومن هذا الماكيت يتجول الكاتب عبر الزمن ليصنع مفارقات بين عالم الحقيقة والخيال يتجلى في النهايتين الموجودتين في الرواية إحداهما نهاية للرواية الأصلية أو قصة العائلة مع جاليري شغل كايرو، والنهاية الثانية لفنانة الكوميكس (مانجا) التي ستأتي بعد ذلك بفترة طويلة، وفي زمن آخر، لترى العديد من الوجوه في وجه المسز، حتى أن (مانجا) ترى في وجه المسز ملامح وجهها هي نفسها، وتراها وهي تسقي قبرها بنفسها، وتسألها المسز عن إمكانية أن يمتلك شخص ذاكرتين، فتجيب مانجا أنها لا تعرف شخصا بهذا الشكل، وربما تكون هي نفسها هذا الشخص، أو تكون امتدادا للعائلة بطلة الرواية.. النهايتان إذن يجعلوننا نقف أمام نهاية مفتوحة وقصة قابلة للتكرار آلاف المرات في أبعاد زمنية ومكانية مختلفة.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم