محمد أبو الدهب
(1)
المسافة من مستشفى الصحة النفسية إلى المركز الطبي، لا تستهلك ثلاث دقائق أو أربعا من المشي هائمًا. هذا، على اعتبار أنه لم يعد من اللائق طبيّا أن أنطّ السور، الذي يفصل بينهما، وأنا تعدّيت الخمسين، وصاحبتُ انتكاساتٍ صحية عابرة. كنت قفزت السور كثيرًا، قبل عشرين عاما أو يزيد. الدكتور عصام كان ينادي، من غرفة (صدر/ممارس واستشاري): “يا واد يا بتاع المجانين”. أو يلوح بذراعه، حين يرى أنني أراه من شباك غرفة (عيادة طب المجتمع/عيادة المراهقين). ولما اخترعوا الموبايلات صار يرنّ رنّات بَرقيّة. ألاعب حواجبي، ضاحكا للممرّض هشام، الذي يفهم الخطّة، مع إعادتي سجلّ (النشاط اليومي) إلى مكانه على الرفّ العلوي بالدولاب الصاج. وأردّ الضلفتين بحرص، وأتأكّد من غلق القفل.
بالمناسبة، مات هشام صباحَ يومٍ من الأيام، عندما فتح القطار عليه هواءه، حال وقوفه بالموتوسيكل، عند مزلقان مُعطّل؛ بسبب تنازع الشرطة والسكة الحديد على ملكيّة أرضه. حلَّ خلفًا له الممرّض أيمن، وكان يكشِّر عندما يلاحظ تأهّبي للذهاب إلى المركز الطبي، وفي إحدى المرات توعّدني: “هبلّغ الإدارة إني شغّال بدون أخصائي اجتماعي”. وكان ذلك يُتخمني إحساسًا بالأهمية.
وهناك، بعد أن أقفز السور وأنفض هدومي، نقعد نشرب الشاي، وندخّن، بشكل عادي، في أثناء مناظرته المرضى الذين جاءوا ليشتكوا من أوجاع وأزمات صدرية، والمرضى يسعلون ويضحكون، ويعتبرون تدخين الطبيب، في وجودهم، دليلا على أن حالتهم ليست بالتدهور الذي تصوّروه. واقعة واحدة فقط انعطفت عن هذا السياق: انهمر عليه أهلُ مريضٍ باللكمات والركلات بمجرد أن أشعل السيجارة، وكانوا ثلاثة، ضخام الأجسام، يرتدون الجلاليب البلدي، والطواقي الصوف مرفوعة بشموخ على رؤوسهم. تدخّلتُ لأدافع عن صديقي، فأخذت نصيبي من اللكْم والرَّكل. ولم نقلع عن إشعال السجائر في غرفة الكشف. كنا نتكلّم في كل المواضيع، حتى تلك التي لم تحدث، ولا يمكن لها أن تحدث، سواء كانت مواضيع غيبية أو واقعية.
لماذا لم يجرّب الدكتور عصام قفز السور، ولو لمرةٍ واحدة، لنعقد اجتماعنا في غرفتي الهادئة، المنطوية في نهاية طُرقة عيادة الإدمان الخارجية؟ الآن، أردّ ذلك إلى فوارق مظاهر طبيعة العمل، بين دوره كاستشاري صدر وقلب ينتظر منه الآخرون كلمة مُهدِّئة طول الوقت، من دون أن يتوقّعوا رؤيته يقفز أي سور، ودوري كأخصائي اجتماعي مُجبر على البلادة لأن الآخرين أنفسهم لايعرفون كيف يمكن لهذا أن يساعدهم. وأستغربُ الآن من إحساسي المتأخّر بالمهانة لتجذُّر هذا النوع من المقامات الطبقية المهنية. خرج الدكتور عصام إلى المعاش، فيما أفكّر بتثاقل في السّير برويّة، مع محاولة التظاهر بالرشاقة، خطواتٍ إلى المركز الطبي، لأزجّ بنفسي في حكاية الدكتورة شيرين.
(2)
المُسجَّل في الملف الطبي الداخلي وكراسة الملاحظات التمريضية أن “عاطف سمير عبدالرافع” مات في حدود الثامنة والنصف مساء. هذا ما أثبته الطبيب النوبطشجي، مع أنه افتتح تقريره ب “تم إخباري بوفاة…”. داخل تلك الحدود، كنت حائرًا بين استئناف قراءة الجزء الأول من الأعمال المسرحية الكاملة لأوجين يونيسكو، وكنت توقفت عند صفحة (170) بعد مسرحية “الأستاذ”.. أو الشروع في كتابة قصة عن رجل مُسنّ، له عينان جاحظتان، وصوت غليظ، مفاجئ دائما كصوت الضّراط. صادفني الرجل سهرةً واحدة، في بار شعبي كنت أرتاده قبل أعوام، وأذكر أن أسلوبه في الشرب أعجبني. في الأسبوع الأخير، دأب على مزاحمة ذاكرتي ومخيّلتي، على نحوٍ غير مهضوم. لم أفكر في وجود أو عدم وجود “عاطف سمير عبدالرافع” في الثامنة والنصف مساء. لم أتلقّ إشارة روحية أو جسدية، تخطرني أن شخصا أعرفه غادر هذا العالم تلك اللحظة. هل كنت أتلقّى إشاراتٍ من هذا النوع مع أمواتي السابقين؟ وقياسًا عليه، هل يرقد رجل البار المسنّ، البارع في السُّكْر، داخل قبره منذ أسبوع؟
رغم أني لا أعمل من مدّة طويلة بالأقسام الداخلية، كلّفتْني إدارة المستشفى بمتابعة موضوع “عاطف” في المشرحة والنيابة، خصوصا أن رقم التليفون المدوّن بملفه الاجتماعي غير موجود بالخدمة، وبالتالي لم يأتِ أحد من أهله لاستلام جثته. أصلا، لم يأتِ أحدٌ لزيارته منذ أعوام. خلال يوم ونصف، حصلت على تقرير المركز الطبي دون أن أقرأه، وقد شافهني الموظف بمحتواه، وتسلّمت تصريح الدفن من قسم الشرطة، بناء على قرار النيابة، على أن يكون في أقرب مقابر صَدقة، ووقفت مع المُغسِّل في المشرحة، أسند وأرفع وأصبّ وأطوي، ونزلت إلى القبر مع الشيخ والتُرَبي، أحمل وأضع وأدفن. في اليوم الثالث، جلست، وحيدا رغم دخان سجائر الممرض “أيمن”، الرائح والغادي في سماء غرفة (عيادة طب المجتمع/عيادة المراهقين)، أشرب الشاي، دون أن يرِدَ على تفكيري شيءٌ من قبيل الساعات المختلَسة الضائعة مع الدكتور عصام، ولا اللحظات البطولية الزائلة لقفز السور الواطئ، حين تلمّست ورقة مطوية في جيب بنطلوني. لم تكن الورقة إلا تقرير المركز الطبي/ مكتب صحة رابع. نسيت إرفاقه بالنوتة الذي سيتم حفظها للأبد. تُرى إلى متى يظلُّ الأبد أبدًا؟!… التقرير الذي كتبته الدكتورة/ شيرين حميدة عبدالنعيم.
(3)
بخط يدها، كتبتْ شيرين:
“(بناءًا) على الإشارة الواردة إلينا من قسم شرطة (ثاني) لتوقيع الكشف الطبي على المتوفّى إلى رحمة مولاه عاطف سمير عبدالرافع وبيان ما به من إصابات انتقلت أنا د/ شيرين حميدة عبدالنعيم مفتش صحة رابع وتبين الآتي: الجثة لشاب في العقد الخامس من العمر الطول (حوالي) 170 سم والبشرة (قمحي) اللون والملابس عبارة عن تيرنج أخضر في أبيض وبنطلون تيرنج رصاصي غامق ولا توجد أي إصابات ظاهرة بالجثة وسبب الوفاة ادعاء سكتة قلبية حادة ولا توجد (شهبة) جنائية من عدمه ما لم تثبت تحريات المباحث خلاف ذلك والجثة موجودة بمشرحة المستشفى العام تحت تصرف النيابة.”
وقَّعتْ شيرين باسمها الثلاثي، ثم بفورمة غير دالة على حرفٍ واحد من هذا الإسم، أعلى يمين توقيع اعتماد مدير المركز.
(4)
كم تقريرًا مشابها قرأتُ في أثناء سنوات خدمتي؟ عشرون؟ ثلاثون؟.. لكن الدكتورة شيرين كتبت تقريرها، بينما نهداها العاريان، الناصعان القويّان، يفترشان حافة المكتب افتراشا كالانتصاب، حال انكفاءتها المقدّسة لإنجاز المرحلة النهائيّة والحاسمة من عملها، بعد المعاينة المتفحِّصة لجثة عاطف. أية إشارة منحرفة! لا بُدّ أنها أتممتْه بعد وصولها، من مشرحة المستشفى العام، إلى غرفتها بمكتب صحة رابع. لا مجال لتعرية صدرها كاملا في مصلحة حكومية، أمام الداخل والخارج. أتحيّز للعقل والمنطق عندما يلزم الأمر. لمَ إذن جاءتني الإشارة واضحة، ومنحرفة، بمجرد شروعي في قراءةٍ روتينية لورقةٍ تمّ تكهينها بالفعل.
وبزغ لي الحُلم القديم: أن أضاجع طبيبة ناجحة. رغبة ثلاثين عامًا إلى الوراء. مضاجعة امرأة، بعد أن تُضاعف زينتها ببكالوريوس طب/ امتياز مع مرتبة الشرف، وماجستير نوعي واحد على الأقل، ثم تضفير مخزون انجليزيتها المتقَنة في حواراتها العربية اليومية، وإنصاتها الذي يصل حدّ الملل إلى نداءات (يا دكتورة.. يا دكتورة) من المحيطين، كما لو أنه افتقار رعيّةٍ إلى ملكتهم. الدكتور عصام يضحك، ويضربني في كتفي: “حلمك هايف زيّك.. ما هي معايا بقالها رُبع قرن.. إيه إللي جرى يعني!”. يقصد زوجته، استشاري النساء والتوليد. لا أعلم، لعلّني أبحث عن نظافةٍ شخصية، مثالية، معتمدة على وصفاتٍ علمية راسخة، وعن تفاعلات جسدية مختلفة العطاء من إنتاج الوصفات نفسها. أنظر في المرآة يوما، لأقول: “لقد كانت مضاجعةً نظيفة، وممنهَجة!”..
يموت الحُلم ويحيا. وأستشعر، مع هذه الورقة، المختومة بختم أزرق واضح، أنها هَبَّته الأخيرة. أقتنصه، أو يذهب بلا رجعة.
لو تخلّيت عن كسلي، وقمت أروّض عضلات رِجلي، برويّة مفروضة أو برشاقة مصطنعة، إلى المركز الطبي، وسألت عن مكتب الدكتورة شيرين، وأطلعتُها على الحالة التي هيّأت بيننا مشترَكا متعلّقا بمهام العمل، لأضمن استماعها، ثم أدخل إليها من باب إعجابي بالحرفية التي حبكت بها تقريرها، متغاضيا عن تخابثها في توزيع المسئوليات بعيدا عن اختصاصها (ألم تقل “ادّعاء” سكتة قلبية، قبل أن تقول “ما لم تثبت” تحريات المباحث خلاف ذلك).. وحرصًا مني على اكتمال جمال الصورة، حضرتُ لأنبّه إلى خمسة أخطاء لغوية، تلك التي وضعتُها بين الأقواس، وإن كان في نفسي شيء من الخطأ الخامس (شهبة).. أظنها تعمّدت وضْع الهاء قبل الباء، لأن ضميرها كان يضايقها، خاصة مع ترجيحي ميلها إلى التديّن، وإلا ما كانت مضطرة لتضيف “إلى رحمة مولاه” بعد “المتوفى”، تلك الإضافة غير الإدارية (لن يعلم أحد، أننا في النفسية، اتفقنا على إخفاء أن عاطف مات مضربًا عن الطعام، لمدة اثنتين وستين ساعة).
من المحتمل أن يكون عُمر شيرين نصف عمري. هل عاودني الكسل؟ ليس ثمة ما يمنع أن يكون مفتش مكتب صحة رابع طبيبة شابة. ناجحة ونظيفة. تبتسم شيرين بتواضع ودود: “شكرا ياعمو.. تسمح لي أقول لك يا عمو؟”. وأنا أسمح. لماذا هذا التشاؤم؟ هي كتبت: “الجثة لشاب في العقد الخامس من العمر”. كأن لاوعيها يشوّش بطريقةٍ ما على قبولها فكرة توغّلها في السنّ، حتى أنها تعُدّ الذي فارقَ الأربعين شابا لم يزل. هل أقفز السور، كنوع من استعادة أمجاد الماضي، بما يليق بالدخول على الدكتورة شيرين؟ أم آخذ طرقة عيادتنا الخارجية الطويلة، ثم أستدير يمينا لأقطع الحوش كله بالعرض، وأمرّ من البوابة، فأدور دورة غير مكتملة حول سورنا وسورهم؟
(5)
في الساحة الصغيرة، التي تطلّ عليها المباني القديمة المنخفضة، راسمةً المركز الطبي كمربّع من ثلاثة أضلاع، شاهدتُ ردفيْ عاملة النظافة، الطاعنة في السنّ، كبيرين جدا في الزيّ الإجباري والموحّد لشركة النظافة، والمكوّن من قطعة واحدة، تُلبَس من تحت لفوق. هي ضحكت وقالت: “جرى إيه يا أستاذ! ما انت عارف إنه معاش من زمان”. كما لو أنها تعرفني.