جراب الكتابة الخاوي في رمضان

أحمد جاد الكريم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد جاد الكريم

ليس لي عادةٌ الكتابة بشكل منتظم في رمضان، ربما تتحقق تلك العادة في بقية أشهر السنة عدا شهر الصيام، أتوقف عن الكتابة إن كنت أعمل في مشروع روائي، حتى المراجعة المستمرة لما تم كتابته من قبل أتخلى عنها، لم يحدث إلا مرة واحدة منذ عدة سنوات ألزمتُ نفسي بكتابة مقال يومي في أحد المواقع على الإنترنت، تقاعست بعض الأيام بسبب إرهاق العمل، وحر الصيف أو قفلة الكتابة، أثمرت تلك المقالات التي وصل عددها نهاية الشهر عشرين مقالًا نواةً لرواية عملت على إنجازها حتى استوت، وصارت الرواية الثالثة لي “تغريبة بني همام” الصادرة في خريف عام 2019م.

بعدها بأعوام قليلة أُكلف من قبل صحفي يعد ملفًا في مجلة الكواكب على ما أذكر عن دراما الصعيد فأكتب مقالًا قصيرًا عن مسلسلات الصعيد، وقد جعلتني تلك الكلمات التي كتبتها أسترجع معها وقع النقر على لوحة المفاتيح، ومتعة صف الكلمات، وهي تتخلق أمامي على صفحة الوورد البيضاء، متعة العائد بعد توقف، والمُفطر بعد صوم يوم طويل مُرهق.

أحاول تفادي خسارة أوقات الكتابة بتعويضها عن طريق القراءة، فلها لذة خاصة في ذلك الشهر، تقتصر على قراءة القرآن بتدبر مع سماعه بأصوات قراء أحبهم، مع القراءة في كتب التصوف، قلما أقرأ رواية في رمضان، أميل إلى الكتب الروحانية، والسير الذاتية، أقلب كثيرًا في الإنترنت، وأقرأ مقالاتٍ عدة كل يوم في مجالات مختلفة، لا أضع برنامجًا منضبطًا، لكني أترك الأمر كيفما اتفق.

رمضان من كل عام يخلق عادةً جديدةً، فقد ظللت مرتبطًا بمشاهدة مسلسل واحد، كلما رأيته بعد ذلك تذكرت الأوقات التي كنت أشاهده فيها، واظبت أيضًا لعدة أعوام على متابعة برنامج “الموهوبون في الأرض” الذي كان يقدمه بلال فضل على قناة التلفزيون العربي، حتى صرت عندما أستمع لموسيقى البرنامج أتذكر ليالي رمضان.

لا أستطيع الآن أن أستعيد ذكريات رمضان القديم بكل ما يحمله من عبق الماضي، وسحر الطفولة، يوم كانت القناتان الأولى والثانية هما فقط اللتان تعرضان المسلسلات والبرامج، وقد اُختزل ذلك “الزمن الجميل” وقُدِّم مرة أخرى على شاشة قناة “ماسبيرو زمان” التي أقضي أغلب اليوم في متابعة برامجها خاصة أوقات قبل وأثناء الإفطار.

من العادات التي تخليت عنها عادة المشي في وقت ما قبل المغيب خاصة مع مجيء شهر رمضان في فصل الصيف إذ يصعب التسكع في ذلك الوقت، قديمًا كنت أمشي حتى ساعة الأذان، لا أدخل البيت إلا في ذلك الوقت، أبدلتُ بذلك الطقس متعة تأمل الشوارع في ساعة المغيب، مرأى الناس وهم يهرولون للحاق بالإفطار، تخفف الشارع من المارة رويدًا رويدًا حتى خلوه تمامًا من البشر، تلك اللحظة من أنقى لحظات اليوم الرمضاني، ربما ينافسها ساعة ما بعد الفجر، ورجوع المصلين إلى بيوتهم.

في هذا العام راقبتُ حركة الناس وقت انطلاق الأذان، لاحظت شابًا يوقف المارين والعربات القليلة المسرعة في الشارع ليقدم لهم كوبًا من التمر هندي، يُشير بيدٍ للسائق، وباليد الأخرى يمد له الكوب، طقس رمضاني غاب عنا طيلة أعوام كورونا، خاصة مع الحظر، وخشية الناس من التلامس، وانتقال العدوى، عادت أيضًا ثلاثة أكشاك صغيرة كانت قد أغلقت أيام الحظر تُقدم مشروب الشاي فقط في الغالب، يرش صاحبها الماء قبل المغيب بدقائق ثم يرص الكراسي، ليستقبل الذين ينطلقون مباشرة بعد الإفطار لشرب الشاي أو الشيشة في الهواء الطلق، على مقربة من الأكشاك الثلاثة التي لا يبعد الواحد منها عن الآخر إلا بضعة أمتار، ينطلق من المسجد صوت إذاعة القرآن، ليغلف الجو بحالة روحانية عجيبة، تدعو للتأمل مع حركة المارة، وانبعاث القرآن مجودًا ثم انقطاعه فجأة ليصدح أذان المغرب.

العادة الأخرى التي تخليت عنها قليلًا هي الاستماع إلى الراديو؛ ذلك يرجع إلى ضعف المادة التي تُقدم مع رحيل رواد الإذاعة الكبار، وأيضًا وجود الإنترنت، وإتاحة المواد الإذاعية القديمة وربما الحديثة أيضًا لسماعها في أي وقت، منذ عدة سنوات كتبت عن ذكرياتي مع الراديو في سنوات الطفولة وبواكير الشباب، وسجلت أسماء البرامج التي كنت أستمع إليها؛ خوفًا من تسربها من الذاكرة، ولتوثيق تلك المرحلة المهمة في التكوين، التي لا تقل عن مرحلة التكوين من خلال القراءة والاطلاع؛ فقد كان الراديو دالا على كتب بعينها، وكُتَّابٍ حرصت بعد ذلك على قراءة أعمالهم، إلى أن جاء الإنترنت فاتسعت الرقعة أمامي، وأصبح ملاحقة الجديد والقديم الذي لم يُقرأ أمرًا ليس ميسورًا.

أرجو أن أعود إلى عاداتي الرمضانية القديمة، وأستمر في اكتساب عادات جديدة، تُراكم لدي الذكريات كلما تقدمتُ العُمر، وتباعدت صور الطفولة شيئًا فشيئًا، وألا يكون جراب الكتابة خاويًا.

 

مقالات من نفس القسم