غادة أحمد
في المرة الأولى التي أُصبت فيها بالدوخة كنت أقوم بمهامي اليومية المعتادة. بقيت ملقاة في السرير لثلاثة أيام، لا أتمكن من مجرد الجلوس، لا آكل ولا أحرك عيني حتى. كأن أي شكل من أشكال التجاوب مع الحياة؛ التعبير عن أنني حية، محرم.
مر الأمر في المرة الأولى ولم نُعِر الأمر اهتمامًا. حتى تكرر في نوبات متقاربة. ذهبت للطبيب، أجريت الكثير من الفحوص، لم نتوصل لأي شيء. لم يكن هناك أي سبب عضوي.
وأخيرًا، ذهبت إلى طبيب اكتشفت أنه من نوع خاص، يحدق بك كأنه لا يراك أنت بل يرى شيئًا آخر لا يراه غيره، كانت به تلك المسحة الروحانية التي ميزت فيما بعد أصحابها وكنت أشعر بهم. في حجرة الكشف ثمة بلكونة مملوءة بالزرع، المكان به أوراق وأشياء أخرى ملقاة بغير نظام، التراب يعتلي بعضها، والأرضية من البلاط القديم، بعضها متهالك، ولديه راديو قديم، دائمًا تصدر منه أغنية من ذلك الزمن البعيد الذي كان يأخذنا الحنين إليه، ليس لأننا نريد أن نعيشه، بل لتلك الرغبة في النظر إلى كل الأشياء من دون غلالة الزمن الشفافة، كأننا سنتعرف فيها إلى أجزاء من أرواحنا مبعثرة عبره.
سألني عدة أسئلة وهو يركز بصره عليَّ لدرجة أربكتني، نظرته كانت لا تركز على كل ما يراه الآخرون فيَّ؛ شكلي ومظهري، بل تتعداه إلى شيء ربما أنا نفسي لا أراه. هذا ما شعرت به تمامًا ولذلك ارتبكت وشعرت بأنني على وشك البكاء. أمرني بالوقوف، بإغماض عيني ومد يدي أمامي واستقامة رأسي، حافية، شعرت بأن الدنيا تميد من تحتي، لم أستطع الثبات، أمرني بأن أفتح عيني وأرتدي حذائي. لحظتها لعنت نفسي لأنني لم أرتدِ حذاء مريحًا أكثر وسهل اللبس؛ كنت أريد أن أسمع حكمه/تشخيصه بسرعة.
شبَّك يديه ووضعهما تحت ذقنه، وقال جملة بدت كأنها خارجة من رواية «تبدين هادئة جدًّا، وفي داخلك بركان ثائر». في ذلك الوقت لم أكن بدأت الاهتمام الفعلي بالقراءة، لكني ميزت هذه الجملة بلون أحمر داكن في رأسي، واحتفظت بها. صمت لحظة وقال:
– ما تعانينه حالة نفسية.
«حالة نفسية»؟ بدا التعبير غريبًا عليَّ. أنا مجرد ربة منزل، تفعل ما يتوجب فعله تمامًا. فقط. من دون أي شيء آخر. ماذا تعني «النفسية» في وضعي؟! للوهلة الأولى فعلًا لم أفهمه تمامًا. وصف عدة أدوية ونصحني بالاسترخاء. «الاسترخاء» أيضًا كلمة غريبة على أذني.
ما يهم هنا أن علاجه أفادني بالفعل، وفي اجتماعاتنا العائلة وصفناه بالطبيب الشاطر، الوحيد الذي استطاع علاجي بعد الدوخة عند الأطباء. غير أن علاجه لم يمنع الدوخة من تكرار زياراتها، وفي كل مرة كنت أعيد العلاج. وحينما يشتد الأمر أزوره مرة أخرى. في المرة الأخيرة التي زرته فيها وقررت بعدها ألا أزوره مجددًا، قال:
– روحك ثقيلة. تتعاملين مع الحياة بغشومية وحِدة. افتحي يديك. جربي الاسترخاء.
لحظتها نفرت منه، شعرت أنه يردد مجرد كلام، وأنه لا يفهم أي شيء.
لم أحكِ لأحد طبعًا عما كنت أفكر فيه في أثناء انعزالي عن الواقع بدوختي الفظيعة. الصمت المطبق والسكون التام وعدم القدرة على التفاعل مع الواقع ولو بنظرة عين، كل هذا منحني وقتًا كافيًا لتكرار محاولة النظر إلى داخلي. بكلمات الطبيب بدأت الأسئلة تتشكل: مم أنا غاضبة؟ ماذا أشعر حقًّا تجاه نفسي والآخرين؟ والأهم كيف أشعر حيال واقعي؟
اكتشفت أن المشكلة التي أتجاهلها هي أنني غير قادرة على التعايش مع هذا الواقع، ولا يمكنني تجاهل وضعي كأي قطعة أثاث. فهمت أن جسدي يسبقني للوعي بخطوات سمحت له برفض المواصلة حينما كنت أتهاوى من الداخل، فلكي يمنعني من السقوط، حملني على السقوط. استغربت فهمي لهذا الأمر وتفسيري له. وهالني أنني في تلك اللحظة التي أدركت فيها هذا رأيت ذاتي تنقسم إلى اثنتين. واحدة برأس ممسوح، تعمل بجد، لا تفكر أبعد من حدود بيتها ومسؤولياته وأوامر حماتها وزوجها وما تفرضه عليها أمومتها من خدمات. وواحدة أخرى تجلس في الزاوية عارية تدخن، تقرأ وتعيد القراءة لتفتح في عالم الأولى ثقبًا يتسرب من خلاله النور. لأنها تسعى لإقناعها بأن ثمة حياة وراء الجدران يجب أن تراها وتنشدها.
في أثناء دوران هذه الأفكار في رأسها كانت تُنقي الأرز لتعد الغداء، حينما فجأة لفَّتها الدوخة معها رغمًا عنها، فتركت ما في يدها وانسحبت إلى سريرها. مع اشتداد الدوخة وحركتها من المطبخ إلى السرير، شعرت بغثيان رهيب، هرولت إلى الحمام متخبطة، تقيأت، وتكومت مكانها. لم يكن هناك أحد في البيت، كانت وحدها، بحاجة إلى من ينقلها إلى السرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية