مينا ناجي
خط رئيسي في رواية “الخزي” لجي إم كويتزي هو توديع البطل، الأستاذ الجامعي الذي شرف على المعاش، لمرحلة عمرية وولوجه إلى مرحلة أخرى هي عالم الشيخوخة المبكرة. نرصد المرارة والارتباك والشعور الكئيب بالنهايات: نهاية طريقة حياة، نهاية عمل، نهاية عصر، نهاية حياته كلها. يرصد كويتزي شخصًا يجد الحياة تدير له ظهرها وهو يسأل: أهذا كل شيء؟
على عكس من ذلك، نجد في مجموعة “شهادة مخالفات” للقاص محمد أبو الدهب، الصادرة عن دار الناشر عام 2021، تصديرًا بجملة مُربكة: “الحقيقة المرّة أن الواحد قد يعيش أكثر من اللازم”.
تدريجيًا تتضح معنى هذه الجملة، فالموت في المجموعة ليس نهاية مريرة لا مفر منها، بل حضور مستمر في الحياة. هذه العلاقة الخاصة مع الموت خلقت عالمًا تظهر المعاني فيه من اللقاء اليومي والمستمر مع الموت – حتى المعني الإيروتيكيّ كما في قصة “زرع بصل”-، عالم أساساته العيَش اليومي والأحلام والهواجس الشخصيّة.
يقع هذا العالم على تخوم الموت لكنه ليس بالضرورة مقبضًا. في الحقيقة يمكن وصف نصوص “شهادة مخالفات” بأنها كتابة “كوميديا الموت”، حيث يتحول الفناء إلى كوميديا تستدعى في الذهن أعمال لوودي آلان وكافكا وحتى أحمد خالد توفيق الذي لعب في مساحة مشابهة من تجاور الخوف والموت مع السخرية والكوميديا.
لدي شخصيًا اهتمام بالكوميديا التي تحدثها المآسي الصعبة. وصنعت فيلمًا قصيرًا باسم “فول مدمس” يحكي فيه أشخاص عن مواقف كوميديّة حدثت لهم وقت فقد شخص عزيز عليهم. لذلك تواصلت مع كوميديا المجموعة التي تبدأ من الابتسام، كما في الجملة الاعتراضية في أول سطر من المجموعة “أشعر بالعار من حيث المبدأ”، إلى الضحك في مشاهد بعينها مثل مشهد الراوي حين صدم بعجلته وهو طفل، امرأةً، بطريقة جعلت الدم يخرج من خصيته، حيث تخرج الكوميديا من طريقه السارد المحايدة في حكي مثل هذا المشهد الأليم والدموي.
هذه المُحايدة، التي تلمس التقريريّة، في سرد أصعب المواقف ومنها حدث الموت، تتعلق تقنيًا بلغة الكاتب المُحكَمَة، حيث السيطرة للاختزال والتكثيف، ومع ذلك فهي لغة حيّة تعكس بذكاء التقلقل والصراع الداخلي للرواي الذاتي، والذي قدر من خلالها أبو الدهب على سرد وقائع يوميّة مُرهِقة، مُطعَّمة بالخيالات والأحلام والخواطر الوسواسيّة، التي تكون غالبًا في موضع مُفارق مع هذه الوقائع. ومن هذه الزاوية تدرك أنك أمام كاتب له ثقله وتراكمه في الكتابة -المجموعة هي التاسعة للكاتب- حيث الغنى الأساسي لهذا العالم هو الداخل وليس الخارج فقير المعنى والروتيني.
الأحلام تحضر بشكل أساسي كأداة تخييل، لتصنع جوًا من عدم الوثوقيّة والغموض المَصنوع بحرفيّة، والذي سرعان ما يعتاد عليه القارئ ويندمج معه، كما أن السرد له منحى كافكاوي في الأسلوب، مثل قصة “جلسة صلح” و”رسم مخ”. كافكا له إشارة صريحة في إحدى مقاطع “ليلة الأربعين”، النص الأطول في العمل، والاسم الذي كان مناسبًا أيضًا للمجموعة ككل. صاحب كافكا اسم بوريس فيان، الكاتب الفرنسي الذي كان مشغولاً أيضًا بالموت وله رواية مشهورة تدور حول مرض وموت زوجة البطل، تحولت لفيلم مرتين، بعنوان “رغوة الأيام”.
رغم المتعة الكبيرة في قراءة المجموعة، خلّفت كثرة الكلام عن الموت إنهاكًا نفسيًا بعد قراءتها. ربما يرجع ذلك لهوس ما عند الكاتب بالموت (في المجموعة السابقة “المُتفاعل”، المتخمة أيضًا بحضور الموت، يبحث بطل إحدى القصص عن العزاءات ليحضرها على سبيل الهواية والمتعة)، أو قنوطًا من حياة فقيرة بالمعنى الروحي والاجتماعي. من هنا يمكن فهم لمّ يتحسّر أستاذ جامعي أبيض في جنوب أفريقيا عند بلوغه الستين، على زوال زهرة الحياة وانتهاءها، في حين يتعامل موظف مصري مع بداية سن الكهولة -الأربعين- بصفتها تكأة على العالم الآخر ينظر منها على صَحيفة حياته كشهادة مخالفات طالت، كحقيقة مرّة، أكثر من اللازم.