مجدى خلاف
امتد الطابور الواقف بطول الماركت الكبيرالممتلئ بمئات الأصناف من أنواع المأكولات والمشروبات والمنظفات.
تجمع موظفو الكاشير أمام الشاشات، تدافعت الأصابع على لوحة المفاتيح وأجهزة الباركود وأجهزة الدفع المميكنة. لم يستمر الأمر طويلا فسرعان ماساد الضجر وغطى الغضب وجوه الناس، واستشرى القلق فى الطابور الطويل وأخذ كل واحد يقلب فى الموبايل بحركات عصبية سريعة توحى بوجود مشكلة!
خلف الحائط الزجاجى حيث المكتب الفخم كان العجوز يراقب الموقف، وأمامه الشاشة المتصلة بكاميرات المراقبة.
كان الرجل العجوز يجلس فى هدوء يحتسى القهوة ويقلب الصحيفة ويراقب الشاشة حيث عشرات من عربات المشتروات تكدست أمام نوافذ الكاشير، والكل يتحدث فى الموبايل ويحاور الموبايل ويكتب على الموبايل.
لاحظ العجوز مدى الضجر والتأفف على وجوه الناس رغم كثرة وتنوع المشتروات فوق العربات.
كانت العبارة المتداولة على جميع الألسنة..(السيستم وقع !).
طال الانتظار والكل يقاوم التوتر بالانشغال بالمحمول. طال الإنتظاروالكل يحرك أصابعه على شاشات الهواتف المحمولة بتوترسريع وحينها ضغط العجوز زرا فحضر فورا فى مكتبه مدير المتجر ونائبه.
وبعد حوار قصير خرج نائب المدير نحو موظفى الكاشير ومعه ورق وأقلام وسط إستغراب الجميع واندهاشهم ! وبينما نائب المدير يوضح للموظفين كيف يكتبون الأصناف ويحسبون الأسعار كان العجوز من خلف الزجاج يراقب الحيرة والخوف على وجوه الموظفين، كأنهم أطفال إبتدائى يتعلمون مبادئ الكتابة والحساب، كأن الورق والقلم كائنات غريبة هبطت للتو وسط الشاشات والحاسبات والطابعات وأجهزة الباركود والدفع المميكن.
خرج من مكتبه بهدوء وراح العجوز يشارك موظفى الكاشير درس الكتابة والحساب، بدأ يفقد هدوءه شيئا فشيئا كلما راقب البطء الشديد فى الكتابة والحساب عند محترفى الكمبيوتر، الأصناف الكثيرة التى كانت تحسب بحركة يد أمام جهاز البار كود أصبحت عملية شاقة جدا عندما تكتب على الورق.
تحول العجوز إلى شاب عشرينى يتحرك بخفة بين موظفى الكاشير، يكتب الأصناف ويحسب الأرقام وسط ذهول الجميع وبدأت أصابع العجوز تجرى بالقلم على الورق !
(شامبو..بلسم..معجون..منظف أتوماتيك..كريم..ماكينات حلاقة.. فى عمود)
( وعمود آخر.. شيكولاتة..توست..مياة معدنية..آيس كريم..برجر.)
وبسرعة فائقة يكتب الأسعار ويقوم بعملية الحساب رغم كثرة الأصفار والأصناف.
****
اندمج العجوز فى دوره العشرينى المؤقت وبدأت الذكريات تداهمه من زمن عمره العشرينى الحقيقى. طار فى الحال لأيام مضى عليها نصف قرن فى (بقالة الأمانة ) محل أبيه. فى الحارة الضيقة فى الحى الشعبى، الرفوف الخشبية البسيطة، قطع الصابون بدون غلاف، علب الرابسو الشهيرة وقتها مرسوم عليها مشابك غسيل، زجاجات زيت التموين، عبوات شاى الشيخ الشريب، قوالب السكر الهرمية و قوالب الحلوى الطحينية.
عبوات المعسل وعلب الكبريت، ورفوف أخرى لعلب الحلوى السمسمية والحمصية وأصابع العسلية، أسفل الرفوف الخشبية البسيطة أحواض خشبية مليئة بالفول والعدس والأرز ولب التسالى والفول السودانى، وعلى رف خشبى متحرك كان الدفتر والنوتة وورق كرتونى لعمل قراطيس لب.
كان الورق هوالوسيلة الوحيدة للتعبئة، وكان الورق هو الوسيلة الوحيدة للحساب، وكانت القروش وأنصاف القروش ومضاعفات القروش حتى (الشلن والبريزة) وصولا الى (الربع جنيه) هى العملات الغالبة لمن يدفع نقدا. وكانت (على النوتة) هى (بطاقة إئتمان ) تلك الأيام.كانت الوجوه ممتلئة بعلامات الرضا، كان البيع والشراء بسيطا، كانت أصناف المشتروات قليلة، كان الكلام الطيب كثيرا.
****
أفاق العجوز على إنطلاق الأصوات..السيستم رجع.!.السيستم رجع.!
انقلب الصمت ضجيجا وصخبا كأنما عادت الحياة لحشود الموتى.بينما كان سيستم ( بقالة الأمانة) قد وقع للتو !
راقب العجوز أول زبون أمام الكاشير وهو يحاول الدفع بالبطاقة المميكنة دون جدوى.
لم تفلح محاولات موظف الكاشير أكثر من مرة وبحث الرجل فى جيوبه، أحس بالضيق.
عندما فشلت عملية الدفع وترك الرجل مشترواته، خرجت عبارة عفوية من العجوز تعجب لها الجميع !
خذ مشترواتك يا أستاذ اكتبه على النوتة يا ابنى !!
أحس العجوز بغصة فى حلقه عندما رأى وقع العبارة على الزبون.
نعم ! نوته !
لم ينتظر العجوز ليفك طلاسم الجملة، انطلق مهرولا إلى مكتبه الفخم!