مقطع من رواية “رقصة مازوربا”

رقصة مازوربا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد العزيز دياب

   كانت معى فى التخشيبة، هذا ما أتذكره، رغم أننى أكدت لضابط المباحث، أكثر من مرة أن مازوربا هى مجرد لوحة فنية لا أكثر، كانت سخريته لاذعة:

   “ها تقضى الليلة دى معاها فى التخشيبة علشان تتعرف عليها”

   لم ينتظر ردى: عسكري ي ي.

   أشار فقط بإصبعه تجاه التخشيبة، ولا أعرف لماذا كان هذا الكائن الغليظ الذى نادى عليه يسوقني أمامه بكل قسوة، لابد أنه وجه من وجوه مازوربا، لم أتوقع وجودها المُشَرّف بحجرة الحجز، هى… هى مازوربا، تجسدت جالسة، أحد المحتجزين جعل ظهره لها كرسى، الباقى كانوا أمامها صفين، امتثلوا أمامها صاغرين وهى تلقنهم آخر تعليماتها: ها تقولوا إيه للى يسألكم؟

   “نحب مازوربا”

   “نعشق مازوربا”

   كانوا يرددون وراءها ككورس، هذا كل ما أتذكره لأنها بعد ذلك اختفت، ولا زالت ثرثرة العسكرى بصوته المذبوح وهو يسوقني أمامه ترن فى أذني، بأنه تم القبض عليها قبل الفجر، بناء على البلاغ الذى تلقاه الباشا رئيس المباحث، أصر العسكري على الحديث رغم أن الكثير من كلامه كنت لا أفهمه لأنه كان متضخمًا ومنبعجًا، قال ذهبت فرقة من عشرة عساكر، ومخبر، وضابط للقبض عليها بعد التحريات وتقارير المخبرين بأنها تقيم بصفه غير دائمة فى عشش “البكباشي”، معلوماتي المتواضعة تقول إن عشش البكباشي منسوبة للبكباشي “محمود زهراني” بالجيش الملكي فى عهد الملك فاروق، بعد ذلك حدث نمو رهيب لخمس عشش كانت تخص خدم البكباشي حتى وصلت الأن أكثر من مائة عشة عند تخوم المدينة.

   قيل إنها تأوى إلى العشة فى أوقات غير محددة، ارتدت الحملة البوليسية دون أن تحقق هدفها، همس عسكري همام للضابط أن تمكث الحملة فى مكان غير بعيد، فيما تكون مراقبة المكان بواسطة المخبر إلى أن يتحقق وصولها الغير كريم، ابتسم الضابط وأثنى على نفسه المتواضعة المتسامحة بسماع نصائح من عساكر حملته، وأثنى على نفسه مرة أخرى عندما همس نفس العسكري الهمام أن يبيع المخبر العسلية أمام عشتها. بالفعل تحقق مجيؤها فى وقت كانت المنطقة كأنها قد ماتت، لا صوت، لا حركة، لا ظل، لا خيال، مجيؤها مرهون بنوم كل سكان عشش البكباشي، أطلق المخبر إشارته الفجة للضابط، جاء البوكس وتم القبض عليها.

   الشرطة هى أكثر الجهات معرفة بما يمكن أن تفعله مازوربا، كل التحريات أكدت أنها تَرَبَتْ فى فيلا شامبليون على القبح، يرافقها فى نفس هذا المكان الكلب سامبا، والنسناس جلجل، والنعامة فرحة التى وصفت فى أكثر من مناسبة بأنها خبيثة هبلة، لذلك لم يُفْتَحْ لمازوربا محضر، لم يحدثها أحد، لم توضع الكلابشات فى يدها مقترنة بيد أحد العساكر، لم يحدث أى شىء سوى أن قال الضابط الذى بدا كأنه يعانى من صداع يطحن جمجمته: ارموها فى التخشيبة.

   فراغ الحجز تلون بزرقة خفيفة، الأنفاس كانت كريهة، الجدران موشومة ببقع زيتية، ولطشات ألوان، شخبطات، خطوط مبهمة بخط ردىء لا تحمل أى معنى، الكلمات الوحيدة المفهومة هى المقطع الأول من أغنية: كادر كاتش فى الألولو… حب ليلى وحب لولو، اسفل هذا المقطع مجموعة من الكلمات القبيحة.

   ظل الرجل الكرسي على حاله، حزينًا، مقهورًا، خائفًا، يطل إطلالة خفيفة حذرة إلى اتجاهات شتى، الرجال أيضا ظلوا واقفين صفين إلى أن انتبهوا لوجودي واختفائها، كل ذلك كان فى لمح البصر، كلقطة سينمائية انفلتت على شاشة.

   قال أحد الرجال وهو يرتجف أنها تحولت إلى كائن مسطح، أصبحت مثل ورقة، زحفت بقوة دفع خفية، خرجت من تحت عقب الباب، قال آخر إنه رآها تحولت إلى علامة استقهام كبرى لا يعرفها إلا المثقفون من أهل التخشيبة، كانت ملصقة على الجدار وانفرطت، كل هذه الشواهد يارب، لو قلت لضابط المباحث مازوربا لم تكن موجودة بحجرة الحجز أكون كذبت ويركبه عفريت من الجن برتبة عميد، لو قلت له إنها كانت موجودة واختفت يركبه عفريت من الجن الأزرق ويصرخ فى وجهى.

   نصحني أحد الشبيحة المقيمين بالحجز ألا أقف مكتوف اليدين، شكرت شهامته وطلبت مقابلة الباشا الضابط، العسكري الغشيم أغدقت عليه بعلبة سجائر أجنبية ثمينة طازجة، صارت بيننا صداقة، حمل طلبي إلى سيادة الباشا الضابط بأنه لا داعى لوجودي بحجرة الحجز طالما أن مازوربا تسطحت واختفت.

   كانت عودة العسكرى بشرًا ونصرًا، فتح انفراجة صغيرة بباب التخشيبة لأخرج، بعد أن هتف باسمى: المتهم أدهم صالح خلايلى، كاد الضابط أن يخنقني، افرج عنى ليتلقفني كساب بين أحضانه.

   المحامي الذى أتى مع كساب كان أنيقًا متحزلقًا، من عينة أولئك الذين حملوا نصف مواد القانون إلى الدور الثانى بالامتحانات، أو أنهم حصلوا على تقدير جيد جدا لكنهم خرجوا من بيئة غير كريمة:

   “تقدر ترفع قضية على الظابط ده”

   سرد أمامى مواد القانون التى تدين دخولي الحجز بشكل غير قانوني، اكتفيت بالافراج عنى، اعتذرت لأفكاره البغيضة الاتنهازية، سماهر كانت برفقة كساب، وضعت قبلة على كتفى، امتعت الجميع- ونحن لم نتجاوز بعد باب القسم- بزغرودة عفية إعلانًا صريحًا بالإفراج عنى.

   احتفالية صغيرة استقبلتني بها حيوانات الحديقة: الكلب سامبا، والنعامة فرحة والنسناس جلجل، هذه الكائنات لها حس مرهف، كانوا وراء البوابة عندما دخلنا، كساب همس فى اذن الكلب سامبا بما يحقق روعة المشهد فى فيلا شامبليون، جلس النسناس جلجل على مقربة منا فى الحديقة يتاملني فى صمت، تذكرت قصة انضمامه إلى حديقة فيلا شامبليون منذ ما يقرب من عشر سنوات: التاجر الأنجولي الذى اشتريت منه النعامة فرحة أدرك أن هذه الحديقة بحاجة إلى حيوان كهذا، جاء مرة أخرى من الميناء مباشرة، كان بانتظاري بالشرفة ومعه قفص النسناس، وكائنات أخرى فى اقفاصها، اكتفيت بالنسناس، اعجبتني حركته الرشيقة داخل القفص، فتحت له باب القفص ليتلقفه الكلب سامبا، لم يكن النسناس من بنى جنسه بيد أن رفقة حميدة كانت تنتظرهما فى هذا المكان مع نعامة مشاكسة، هبلة خبيثة اسمها فرحة لا تكف عن الطواف حول بناية الفيلا.

   ظل هذا الكائن أسبوعًا كاملا، لم يكن ذلك شيئًا طيبًا، كائن رشيق كهذا بحاجة إلى اسم، عندما أنادى عليه يسقط أمامى كأنه خر من سماوات فيلا شامبليون، ظل بدون اسم، وظلت حيرتي إلى أن رأيت العم صبح يلاطفه، يتربع أمامه فى مشهد كاريكاتوري وهو ينادى على حفيده الصغير:

   “جلجللل…”

   الصغير جلجل كان مشغولًا بالبالونات التى قدمتها له: جلجللل.

   الولد الصغير كان بصحبته هنا فى فيلا شاميليونن كان اسمه جلال، خفف بعد ذلك الاسم إلى جلجل، العم صبح اعجبه أن أستعير اسم حفيده للنسناس، من يومها وهو النسناس جلجل.

   تغاضيت عما أخبرني العم صبح بأن مولاي كساب يلقن جلجل النسناس ألفاظًا بذيئة، يستبدلها بإشارات تحمل إيحاءات جنسية فجة.

   لدى قناعة بأن النصف الحيواني لكساب هو الذى يجبره على ذلك، نصفه الحيوانى الذى تربي هناك فى زقاق بحى امبابه فى ورشة أو مصنع طرشى أسمراني، كنت أحاول أن أمنع أى صدام يقع بينه وبين العم صبح، كلها مخلوقات طيبة تؤسس لنفسها مكانًا فى فيلا شامبليون، حتى لو كان النسناس جلجل يتمتع فعلا بخصلة النميمة، سواء علمه إياها مولاي كساب، أو كان هو فى الأصل نمامًا يستطيع أن يدلى عن طريق الإشارة فقط تحركات أى شخص لمدة ساعة، هذا لأن ذاكرته ربما لا تختزن أبعد من ذلك.

   اكتشفت أهمية تواجد سماهر بالفيلا، عمل جليل ينتظرها هنا، وهل هناك أهم من إدارة أمور العمل فى فيلا شامبليون، كائنات الحديقة سيكون مظهرهم الحضاري وهم فى رعاية سماهر أفضل كثيرًا، هى تستطيع الآن النداء عليهم فيأتون صفًا واحدًا، بترتيب لا يختل: الكلب سامبا فى المقدمة، تليه النعامة فرحة، يليها النسناس جلجل.

   حتى لو ارتفعت نسبة المصارف المتعلقة بأنواع الطعام الجيد، واساليب النظافة الحديثة، والاهتمام بأماكن المبيت، علاوة على ساعات التدريب، سيكون ممتعًا لى أن يتحول سلوكهم الهمجي إلى سلوك حضارى، هذا لأننى أعتقد أن فى ذلك راحة كبيرة لجدى فى قبره، فربما كان مظهر فيلا شامبليون يعرض عليه كل يوم، هذا علاوة على أننى- ولا أخفيكم سرًا- كنت امنح سماهر فرصة للحياة بعد فشل مشروعها الكبير بمشاركة مولاى كساب المتمثل فى “مكتب السماهر للخدمات النوعية”.

   احتفال صغير أعدته سماهربمناسبة الإفراج عنى، لن تمر هذه المناسبة مرور الكرام، أجرت اتصالًا فجاءت وجبة جمبري بكل مشتملاتها، ومشروبات فاخرة روحية وغير روحية، بدأ كساب يفرش الطاولة بجانب الطعام بما ألهمته قريحته من النكات والنوادر، خفة ظله فى تلك الليلة فاقت كل التصورات.

   كانت الموسيقى الكلاسيك خلفية لمائدة العشاء تلك الليلة، كانت خافتة كأنها وشوشات الملائكة، ولا أعرف لماذا كانت سماهر تتململ، أمامها وجبة شهية لكنها كانت قلقة، وضع أمامها كساب مزيدًا من السلطات والجمبرى، فرش الطاولة بمزيد من ثرثراته، ختمها بصوته الخشن:

   يا مهوّن.. هوّن هوّن

   هوّنها.. هوّنها وقول

   يا مهوّن هوّن على طول

   لم تتبدل حالة التململ والقلق عند سماهر إلا بعد أن بَدَلْتْ الموسيقى الكلاسيك بالموسيقى الشرقية الراقصة، كنت أعرف أنها تريد أن ترقص، كساب هو الآخر دفعها إلى المنتصف فتماوج جسدها، رقصت وهى تعرض مفاتن جسدها أمامى بكل حكمة.

…………

*  مقطع من رواية “رقصة مازوربا” الصادرة أخيراً عن “مركز نهر النيل للنشر”، وهى الرواية الرابعة للكاتب، وتقع فى 262، وفازت بجائزة النشر بمركز نهر النيل.

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب