خالد حسان
للتذكر في ديوان ” يمشي كأنه يتذكر” للشاعر البهاء حسين خصوصية ما، لهذه الخصوصية ميكانزم أو تقنية يعمل من خلالها هذا التذكر، كما أن لها – أعني الخصوصية- معنى أو مجموعة من المعاني الثقافية، أما بخصوص التقنية التي يعمل من خلالها التذكر فتحيلنا إلى تيار الوعي في السرد، حيث يظهر الشعر هنا كما لو كان حوارا داخليا بين الشاعر وذاته، الشعر هنا هو ملتقى هواجس الشاعر وأوهامه وذكرياته، انفعالاته التي لم يعبر عنها، ومكبوتاته التي أخفاها حتى عن نفسه، تنبجس الذكريات هنا دفعة واحدة كأنما تقع للتو، ثقيلة ومؤلمة، يسكبها الشاعر على الورق بغير تنظيم أو ترتيب أو تشذيب ربما ليتخلص منها، ليستخرجها من اللاوعي إلى حدود الوعي والإدراك، أما المعاني الثقافية التي تحملها خصوصية فعل التذكر عند البهاء حسين فهي كثيرة سنحاول استجلاءها في الفقرات القادمة، لكن بشكل عام يمكننا القول إن التذكر عنده مرتبط بالحزن والذكريات السيئة فيأتي التذكر أو الاستعادة كأنما هي محاولة للتطهير والخلاص.
كمدخل أسلوبي لقراءة الديوان سأحاول الولوج من خلال مفردة ” اليد” التي تكررت بشكل ملفت داخل جميع قصائد الديوان تقريبًا، وفي جميع المرات كانت مبعثاً لمشاعر الندم والحسرة، اليد التي سنعرف بعد قليل أنها يد الجدة التي تشحذ بها، ويد الأخت التي قطعت في حادث اعتداء، ويد الشاعر التي لم تستطع أن تدافع عن أمه حين ضربها ابن عمه ومرمط بها الأرض، اليد من ضمن معانيها القوة والقدرة والبطش جاءت هنا لتعكس ضعف الذات الشاعرة وتعبر عن خزيها وعارها الذي لن يمحى لأنه مرتبط بالماضي الذي لا ولن يعود.
في قصيدة “جدة” يحكي لنا الشاعر عبر بناء سردي واضح قصة الجدة التي تبرأ منها أو لعله تخلص منها منذ أن وضعها في العنوان كإسم نكرة ولم يعرفها فيقول جدتي، الجدة في الميراث الشعري تحمل معاني الحكمة والعطاء والأمان، لكن الجدة التي يسوقها لنا الشاعر موسومة بمعاني الخزي والندم، الخزي هنا يأتي من سلطة اجتماعية غاشمة تقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد، طبقة عليا وطبقة دنيا، وفي هذا التقسيم الغاشم تعلي هذه السلطة من مهن بعينها وتحقر مهناً أخرى، السلطة الاجتماعية التي ينطلق منها الشاعر تدين فعل الشحاذة وتستنكره وتحقر أصحابه وتهوي بهم في قاع الطبقات الاجتماعية، وهكذا كانت حياة الجدة الشحاذة بتفاصيلها المخزية مصدر عناء للذات الشاعرة ومبعثاً للحزن والندم وكافة معاني الأسى.
انظر معي – عزيزي القاري- إلى هذه الجمل التي تحمل في طياتها ميراثا من المعاناة والحزن : ” لم يكن لخبز الصدقات طعم” ” وأنا عليّ أن أخرجها كل يوم من حفرة” إنه يلاحقها كأنما يطارد وجعه بغية القضاء عليه، وفي مطارته لها يقول:
من بعيد مغمضا عيني
أخمن قامتها النحيلة
الصرة فوق رأسها
وأنكمش في نفسي
وسط أصحابي
وكلما اقتربت
توسلت للطريق أن ينشق
أو تهب الريح
لا يخفى عليك – عزيزي القاريء- المثل الشعبي الذي يقال فيه ” يا أرض انشقي وابلعيني” عندما يتعرض الإنسان لحالة من الخجل الشديد لموقف ما، يستدعي المقطع الشعري هنا هذه الحالة، كما يستدعي في ذهن المتلقي مشاهد من فيلم ” أنا لا أكذب ولكني أتجمل” وكيف كانت الأم التي تخدم في البيوت مثار خزي ولوعة لدى ابنها ” أحمد زكي” وسط أصحابه، يستدعي المتلقي ذلك ويبدأ في عقد مقارنة بين ما تختزنه ذاكرته من هذه المشاهد وبين ما يحكيه الشاعر من تفاصيل لها علاقة بجدته الشحاذة، لكن الملفت هنا أن الشاعر – رغم ذلك – لم يستطع أن يربي مشاعر كره أو عداء تجاه جدته التي كانت مصدر خزي وعار بالنسبة له، بل على العكس فإنه متضامن مع مأساتها ويظهر ذلك من قوله : “مازلت أسمع جدتي تبكي” وكأنه ينتصر لها وللطبقة التي تمثلها .
إن المأساة التي سببتها له الجدة تعاود الظهور في مقاطع أخرى من الديوان من خلال مشاعر متضاربة في علاقته بالشحاذين كأن يقول في قصيدة ” محنة كل يد” : ” لم أكن أعرف
أني سأكره الشحاذين،بينما
أحتاج إليهم كي أتصدق على روحها”
تخيل معي – عزيزي القاريء- العنوان ” محنة كل يد” وعلاقته باليد الممدودة للشحاذة – يد جدته – والتي تستدعي يد الأخت التي قطعت إلى جوارها في الشارع، والتي يبدو أنا ماتت في حادث سير أو في حادث اعتداء، وتظهر الأيدي في قصائد أخرى فيقول مثلا : ” ما الذي يحدث لنا ولا تقوله الأيدي” وكذلك : ” أنا لست بريئا من يدي ” حقيقة إن تنوع الجمل الشعرية وتمحورها حول مفردة اليد أو الأصابع هو أمر ملفت داخل الديوان لدرجة يبدو معها الأمر كما لو كان تداعيات العقدة أو الأزمة النفسية التي سببتها له الجدة، أو لعل يد الجدة صارت اللعنة التي تطارده طوال العمر.
نعود مرة أخرى إلى فعل التذكر داخل الخطاب الشعري، فنراه مرتبطًا بتفاصيل عاشتها الذات الشاعرة في الصغر، وهي تفاصيل تشي بحياة أسرة فقيرة وتعسة، يظهر فيها الأب الذي رحل مبكرًا وترك المسئولية للأم التي كافحت في ظل ظروف معيشية صعبة، لا يحكي الشاعر هذه الظروف وإنما يستدعيها من ذاكرته فتظهر كومضات خاطفة ملتهبة تثير لدى الذات الشاعرة مشاعر الحسرة والحزن والندم، فالشاعر طوال الوقت يلوم نفسه على مواقف خاطئة اتخذها في الصغر، انظر إليه وهو يقول :
” أنا لست بريئا من يدي
رغم أنها لم تدافع عن أمي حين ضربها ابن عمي
ومرمط بها الأرض”
إن هذه اليد التي لم تستطع أن تدافع عن أمه تظل بمثابة الجرح الذي لا يلتئم، ورغم أن هذه اليد قامت بعد ذلك بأفعال تسعده مثل إسعاد صدور البنات وإطعام دجاجات أمه وإعطاء الفقراء خبزًا، رغم كل ذلك إلا أن الشاعر يبدو أنه لم يغفر لها تخاذلها عن نصرة أمه، فيقول : “مازلت أصوب يدي كلما تذكرت ابن عمي / ولكن للهواء” كأن يده تتحرك بلا إرادة لتكفر عن ذنب تخاذلها في الماضي.
التذكر داخل الديوان ليس مجرد لعبة جمالية يستخدمها الشاعر ويحاول من خلالها أن يمرر الماضي أو يستدعيه، بل يظهر التذكر هنا كمعادل موضوعي لحياة الشاعر التي تقلصت تماما لحساب الماضي، فلم يعد هناك واقع أو لحظة آنية تستحق الشعر أو التأمل، وكأن تفاصيل الماضي المؤلمة قد قضت على حياة الشاعر فلم يعد أمامه إلا اجترار تلك الذكريات بغرض محاكمتها أو التخلص منها، فالشاعر طوال الديوان يخاطب أشخاصًا من الماضي ويتفاعل معهم ويقدم مبرراته لمواقف وأحداث مضت، هو شخص يعيش في الماضي تمامًا، انظر إليه وهو يقول:
لا أحتاج لشيء
معي مؤنتي من الذكريات
أو عندما يقول أيضًا :
سنرقص بطريقة مختلفة
أن تترك كل واحدة منكن أشغال البيت، كلما تذكرتها
أن تتذكرني، على الأقل في النوم
أن تحلم بى
أن تصل معي إلى الرقصة الكاملة
وهكذا يصبح التذكر هو القدرة الوحيدة لدى الشاعر، الإمكانية المتاحة للحياة، رد الفعل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه حيال ما مضى، لكن التذكر هو لعبة الزمن وقدرته على الاختباء والتخفي ، إن التذكر هو الوجه اللآخر لسطوة الزمن في الحاضر، الذي لا يلبث أن ينفك ويتحول إلى ماض يجوز عليه التذكر أو النسيان، أو كما يقول الشاعر نفسه عند استدعائه لإحدى حبيباته القديمات: ” هو الحاضر يا أم مريم / ينسل بسرعة ويصبح خرقة” هكذا فإن الزمن يأكل نفسه، فسرعان ما يتقلص الحاضر ويضمحل.
لكن ماذا عندما يحل “النسيان” في هذا الخطاب الذي يحفل بالتذكر؟ ترى ما هي الدلالات التي من الممكن أن يحملها ذلك النسيان؟ وأي “نسيان” ذلك الذي يبدو أنه أصاب الشاعر بعد الأربعين؟ إن النسيان في قصيدة “ثقبتني التجربة” ليس هو نقيض التذكر بل يشير في بعض دلالاته إلى حالة العدم التي أصابت الذكريات لدرجة أن فعل التذكر لم يعد له نفس الدور في أن يوقظ بها الحياة، إن الشاعر يطوف بعقله على الذكريات يجدها لكنه يجدها ميته، وكأن النسيان هنا هو حالة الوعي التي أصابت الشاعر، الوعي بضياع الماضي وانمحائه لدرجة يصبح معها التذكر وسيلة غير ناجعة لاستعادته، إن الشاعر يمر على الذكريات لاستعادتها فيجدها ركاما كمن يتفقد أطلالا لأشخاص رحلوا، وما يجعل هذا التأويل مستساغًا دلالة المرور هنا عندما يقول : “مررت على طفولتي التي صارت مراهقة” أو ” أمر على العش ” أمر على الأشياء التي تجعل منها اللذة والذكر ساحة حرب” فالقصيدة هنا تستدعي في عقل المتلقي بيت قيس بن الملوح :
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا..
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وهكذا تقرأ قصيدة البهاء في ضوؤ بكاء قيس على أطلال ليلى، فالذكريات الضائعة غير القابلة للاسترجاع هي الديار المهدمة والأطلال المنكوبة.
يستدعي فعل التذكر داخل الديوان مشاعر الحزن والندم والحسرة، الحزن نجده في تذكر حالة الجدة، أما الندم فنجده في يده التي لم تدافع عن أمه حين ضربت، أما الحسرة فتأتي من افتقاد الأشياء الجميلة، كافتقاد أنثى مثل “صافيناز” أو “إيناس” ويلاحظ أن إشاعة أجواء الحزن والإشفاق داخل القصائد تشي بمقاربة رومانسية من الشاعر للحياة، فهو ابن القرية الذي لم تلوثه المدينة بصخبها وعنفوانها وعلاقاتها السريعة والمبتذلة، ها هو يقول عن القاهرة ” مدينتي الفظة” ويقول أيضًا: ” المؤكد أنني أشعر بالحرج كلما رأيت أحدا يعاني أكثر مني” وكأنه يؤكد تلك الرومانسية والطيبة التي تصبح بمثابة مكون ثقافي من مكونات أبناء الريف الذين يعانون أشد المعاناة عند نزوحهم إلى القاهرة.
ربما لا تنفصل هذه الرومانسية التي يواجه بها الشاعر العالم – والتي أرجعناها إلى ثقافة ريفية- عن رؤية إنسانية في مقاربة الواقع بتفاصيله، تتجلى هذه الرؤية في أنسنة الأشياء، للحد الذي يجعله لا يفرق بين مشاعر حبيبة ومشاعر نافذة، انظر إليه وهو يقول عن الشوارع :
يبطل عمل الشوارع، شيء يندثر منها
كلما كفت ساق عن الحركة
تبدو شهيدة
كنافذة يغطيها التراب
أو: أن نمشي بلا هدف
هذا ما يجعل الشوارع تفرح بنفسها
أو: الحبال تحب الملابس الملونة
تعتقد أنها أطفال، دباديب تلثغ مثلهم
تحب الحبال أن نمسح عنها التراب
تنتشي بالماء.
إن أنسنة الأشياء تسمو على كونها تقنية من التقنيات الجمالية للقصيدة إلى حد اعتبارها جزءاً أصيلاً من رؤية شعرية تنظر إلى العالم في عمقه الميتافيزيقي، في محاولة لدحض سلطة اللغة وما تطرحه من محددات وقواعد قد لا تسوغ كثيرًا مما يجعله الشعر مدهشا وقابلا للإدراك عبر مستويات أخرى من الوعي.
لقد حاولت من خلال مجموعة من الفقرات السابقة أن أنفذ من خلال مفردة التذكر وتداعياتها الجمالية داخل الديوان إلى مجموعة من المعاني الثقافية التي لم يكتبها الشاعر وإنما كتبتها الثقافة بما تحمله من أنساق مضمرة، كما حاولت من خلال العلاقات التي ينسجها النص بين التذكر ووعي/ لا وعي الشاعر وكذلك حضور الزمن أن أنشيء شبكة من المعاني التي راوحت بين الجمالي والثقافي ، ولا شك أن الخطاب الشعري عند البهاء حسين يحتمل قراءة أكثر عمقًا في معانيه ومحدداته وهو ما أتطلع إليه في دراسات قادمة.