سلام رِجلِين

محمد مصطفى الخياط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد مصطفى الخياط

ما إن وضعت قدمي داخل الصالة المتواضعة، حتى صاح بصوت قوي خشن –لم تنكره أذناي رغم مرور كل هذه السنوات- (معقولة!! مِكُو.. توحة.. حبايبي)، ثم أطلق من أنفه صوتًا غليظًا لطالما ميزناه به منذ صبانا.

كنت قد أنهيت الحصة الثالثة للتو عندما اتصل بي فتحي فرحًا (أخيرًا وصلت له. عرفت عنوانه، ..)، قاطعته (بجد؟)، فأجاب بثقة (عيب!!)، فعقبت برضًا (تسلم يا توحة).

في الطريق للإسكندرية استرجعت تاريخً طويلاً، المنازل المتواضعة خلف المستشفى التعليمي بدمنهور، مزلقان السكة الحديد، شقاوة المراهقة ولعب السبع بلاطات، والبلي، والنحلة، والعقلة والمضرب. كان محمود أمهرنا في كرة القدم. طويل وصعب الإمساك به، فأطلقنا عليه (البوري)، وأطلق علىّْ مِكو كناية لمكاوي.

لم نكن نفترق، حتى عندما أجبره والده أن يترك التعليم ليساعده في كشك الجرائد الكالح على المحطة، نمرّ عليه فيبادرنا صائحًا (سلام رِجلين)، فنضرب بلطف قدمًا بقدم، اليسرى تسلم على اليمنى، والعكس، ثم نضحك ونجلس معه لبعض الوقت. يلقي علينا ما جمعه من قفشات ونكات جريئة. يُرينا صور الممثلات في مجلات الشبكة والموعد على إيقاع تعليقات لا تعرف الأدب، ثم يطلق شخرة يتناسب طولها عكسيًا مع طول ملابسهن.

ننتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر لنلعب الكرة في ساحة مسجد سيدى مجاهد، اكتسب بفضل مهاراته العالية شهرة كبيرة. وذات يوم مال عليه أحد المتفرجين بين الشوطين وهمس في أذنه ببعض كلمات أفقدته تركيزه.

علقت حانقًا ونحن عائدين أننا أضعنا فوزًا سهلاً، بخلاف تذاكر السينما التي خسرناها في الرهان. رفع وجهه نحونا وقال بصوت خشن غليظ -تؤكد حاجة زوره إلى تسليك- (الراجل عاوزني ألعب في الاتحاد يا مكاوي!!).

نظرنا نحوه ساهمين عاجزين عن الكلام. البوري أمامه فرصة العمر، اللعب إلى جوار شحتة وبوبو والبابلى والجارم. انبري توحة، (ودي عاوزة كلام، أمضي الاستمارة وطير.. الفرصة يا صاحبي بتيجي مرة واحدة.. إذا فوتها بيسموها بعد كده خيبة).

بعد أيام قليلة، أفطرنا معًا (فول وطعمية مع باذنجان بدَقَة بسوق ملوخية) ثم ودعناه عند محطة القطار. بكينا كما لم نبك من قبل، نهرنا بحدة تُخفي حب كبير، ثم أطلق صوتًا غليظًا من أنفه اختلط بصفير القطار الحاد، فانصرفنا بدموعنا وابتساماتنا.

ومرت الأيام تطوي أفراحنا بسرعة وتلوك أحزاننا في بطء قاتل. انقطعت عنا أخباره، توفي والده وباع إخوته الكشك وتفرقوا في البلاد. تخرجت وفتحي من الجامعة. عُينت مُدرسًا، وعمل هو في مصلحة الضرائب.

ذات يوم، طلبني فتحي وقال بصوت مقتضب (أشوفك الليلة ع القهوة، سلام). انتظرته –كعادتنا- على مقهى المسيري، (شاي على ميه بيضا وشيشة يا فكري)، صاح وهو يجلس، ثم أردف بجدية، (النهارده بس عرفت قيمة الشغل في الضرايب، قابلت تاجر حلويات له فروع في إسكندرية، والكلام جاب بعضه).

سحب نفسًا طويلاً من الشيشة وأطلق سحابة دخان كثيفة وهو يقلب السكر، ثم أكمل (يعرف جابر.. أخو البوري.. كان شغال عنده، ولما أتوفي بيود أهله في المناسبات).

ملت بنصفي الأعلى على فتحي، (وبعدين..)، (الراجل وعدني إنه ها يطقس وأول ما يعرف حاجة عن البوري ها يبلغني). قاطعته (وإحنا ها نستني لما يتصل، نروح له إسكندرية، ..)، فرد بيقين (أصبر..).

في أقل من أسبوع عاود فتحي اتصاله وصاح فرحًا (العنوان وصل..). سافرنا يوم الجمعة التالي. ومن محطة الرمل قصدنا حي الأنفوشي. كنا بين مشاعر متضاربة، يُخرج فتحي قصاصة الورق المسطر المقطوعة على عجل من دفتر الشغل المدون فيها العنوان، من جيبه وينظر فيها ثم يتطلع خارج النافذة.

بعد نحو نصف ساعة من السير في حواري ضيقة، أشار لنا كهل يقف خلف فاترينة ساندوتشات كبدة وسجق نحو مدخل أحد البيوت، رائحة الرطوبة تزكم المكان، وأطفال يلعبون الكرة دون اكتراث بالمارة، ومحل بقالة علق على أبوابه الخشبية أكياس مساحيق الغسيل.

راجع فتحي رقم البيت المدون بخط كبير ركيك مع الورقة وقال (هو!!). المدخل منخفض عن الشارع قدر سلمة، الدرابزين من طوب أحمر كُتبت عليه شعارات وشتائم وقلوب. وقفنا أمام باب تستر شراعته المواربة قطعة قماش رخيصة، طرقت بتوجس، فتحت لنا فتاة في العشرين من عمرها، ينسدل علي صدرها خمار رمادي، نفس العينين والوجه الأحمر، ما إن عرفتها بنا حتى فتحت الباب على مصراعية وصاحت بترحاب جم، (أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً، إزيك يا عمى، دا إحنا نفسنا نشوفكوا، اتفضلوا، ..).

(مين يا اعتدال)، جاء صوته الخشن الغليظ. (مِكو وتوحة يا بوري)، صحت بكل ما في صداقة العمر من حب، وما في الصدر من شوق، فانطلق بصوت تخنقه الدموع (معقولة.. حبايبي)، وفتح ذراعيه من مكانه جالسًا اتساع خمس وثلاثين عامًا مضت على آخر لقاء.

جلست قبالته ورحت أتحسسه بعينيي؛ رأسه المدور الضخم، شعره المفلفل الأشيب، ذقنه الملبدة، جسمه الذي نفخه الكورتيزون، أصابعه المكتنزة تصطاد قطع السمك من الصينية وتضعها أمامنا في كرم.

حكى وحكينا. حكى عن غدر الأيام؛ إصابة الرباط الصليبي وابتعاده عن الملاعب. الشقا في بلاد الناس. استراحة قصيرة استجمعت فيها الأحزان كل عنفوانها ثم ضربت ضربتها. وفاة زوجته. سفر أولاده. مقتل ابنه في العراق. طلاق اعتدال. مرض السكري والغرغرينة التي نهشت ساقه. وضع السلاح جانبًا واكتفي بالنظر على الدنيا من شباك الصالة.

جاوزت الساعة السادسة مساءً فوقفنا نودعه. اختلطت دموعنا وأقسم علينا بمقام الشيخ مجاهد أن نزوره، ثم اتكأ ووقف قبالتنا متأبطًا عكازه الخشبي وصاح بصوت غليظ، (سلام رِجلِين)؛ نظرت في عينيه ثم ضربت قدمي اليسرى بيمناه، وقدمي اليمنى بعكازه، ثم جذبني إلى صدره وبكي فبكينا.

مقالات من نفس القسم