مملكة مارك زوكربيرج .. صانع المتاهات،حكاية الراوي الذي يعرف باب الخروج

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
هنا قضية فنية تتعلق بالكتاب لابد من الإشارة اليها. المتحدث_ نحن_ في أثناء كلامه يستخدم بعض الحركات اليدوية لتعزيز الطماننية في وصول المعنى، أو يعمد إلى تغيير في قسمات وجهه، أو يلجأ إلى التنويع في نبرات صوته، ليمنح كلامه دقة التعبير، كذلك يحتاج الكاتب إلى استخدام علامات الترقيم، لتكون هذه الحركات التي تقوم بها يده ، وتلك النبرات الصوتية، في تحقيق الغايات المرتبطة بها.
(ثمَّ حلَّ السكون محلَّ الحركة، وحلَّ السكوت محلَّ الكلام)
احمد عبد اللطيف، من مجموعة مملكة مارك زوكربيرج وطيوره الخرافية
هذا مقتطف فيه إشارة إلى فكرة النفي أو الطرد، وهو مناسب – كما أظن- كي يحصل القارئ من خلاله على نقطة دالة، موضع محدد من أجل الخروج فيما بعد من متاهة أحمد عبد اللطيف، والتي صنعها باعتبارها فضاءً تتحرك فيه الحكايات بين العوالم والأزمان، بين الواقع والافتراض والميتافيزيقيا، الماضي والحاضر والمستقبل، تتداخل جميعها في نسيجة سردية تنطوي على وقائع يختلط فيها المتخيل مع الحقيقي، الأرضي و(الفوقي)، وبين (ماكيت) المدينة الحلم، المدينة الواقعية، أوبين تحققها كمتخيل حكائي، بينما الراوي يتحرك كما لو أنه يقودنا في دروب المتاهة التي لانعرف نهايتها، فنذهب مضطرين في تتبع ندبته الخفية ( ندبتنا نحن) التي نشأت في الماضي والحاضر، تجرنا حركة خطاه، والتي تبدو واثقة إلى المستقبل، تاركًا لنا علامات للطمأنينة، هي عناوين أقسام الكتاب نفسه، والتي تجيء على التوالي:
في طريق الخروج من المتاهة، العودة إلى المتاهة، الأصل أو الخلود في زِنْزَانَة العصيان: المنحة الإلهية.
2
وبعد حلوله في غرفة شهرزاد خلال القسمين الأول والثاني، يخرج أحمد عبد اللطيف في الجزء الثالث، متحررًا مع أثر بسيط لايغادره، يخرج مثلاً عن إيقاع السرد وشكله، يخرج عن الجملة الواحدة الطويلة، والعودة الى النص الذي ترافقه علامات الترقيم، يخرج لكنه يعود للثيمة الرئيسة، الكائنات المطرودة بسبب عصيانها، لكن هذه المرة في عالم آخر، العالم الفوقي، شخصية أخرى تتم مقاربتها مع أولائك العصاة الذين مروا علينا في العالم الأرضي، بصورتيه المتداخلتين: الواقعي ( القاهرة) والافتراضي( الفيس بوك) خارجًا كذلك من الطيف الشهرزادي الذي شغل مساحة السرد في الجزءين الأول والثاني.
لكن أثر كتاب الليالي سيبقى رغم ذلك، كما لو أن الأشياء التي نظن بأننا غادرناها، لاتغادرنا تمامًا، بل يبقى منها أثرٌ ما، إذ يقول الراوي بخصوص العاصي الذي يحيط به الساجدون: كأنها رحلة لا تقلُّ في إثارتها عن رحلات ألف ليلة وليلة، حيث المراكب تُبحِر في نهر خارق وتصطدم بجبل يتفتَّح من ورائه عالم عجائبي مليء بالجنِّ والجان والملائكة والشياطين.
وفي بداية الجزء الثالث، ترد فقرة متصلة بأخرى كانت قد جاءت في القصة الاولى من الجزء الأول:
وفي لمح البصر، سجد الجميع، وفي لمح البصر، أدرك الفخَّ: سجد الجميع إلّاَ هو. كانت في هذا إشارة الى القصة الاولى، حيث يطلب مارك زوكيربرج من جميع المشتركين في الفيس بوك، وضع لايك على صفحة على اسم طائر هو( الفولاك) استجاب الجميع لهذا الطلب والذي يتضمن تهديدا بغلق صفحة من لايستجيب، يرفض الراوي فيستحق الطرد من عالم السيد مارك، والذي يقوم هنا بدور ملك الملوك، والذي بيده قرار البقاء او الطرد، البقاء لمن ينقاد لمشيئته، والطرد من جنته للعصاة، الرافضين لخطابه المتعالي الذي يأمر بالسجود..
وهناك قصية فنية تتعلق بالكتاب لابد من الإشارة إليها. المتحدث – نحن- في أثناء كلامه يستخدم بعض الحركات اليدوية لتعزيز الطماننية في وصول المعنى، أو يعمد إلى تغيير في قسمات وجهه، أو يلجأ إلى التنويع في نبرات صوته، ليمنح كلامه دقة التعبير، كذلك يحتاج الكاتب إلى استخدام علامات الترقيم، لتكون هذه الحركات التي تقوم بها يده ، وتلك النبرات الصوتية، في تحقيق الغايات المرتبطة بها.
وكان من العادي جدا للقارئ بالعربية، والذي عاش قبل أكثر من مئة عام، أن يقرأ كتابًا كاملاً دون الحاجة إلى من يقول له: عليك التوقف هنا، هنا علامة تعجب وليس سؤالا، عليك أن تفتح في هذا الموضع قوسًا، أو تضع نقطتين، فالأمر كان يسير بشكل عادي، لكننا نحن الذين عشنا زمن علامات الترقيم، كيف سنفعل ذلك، إنه اختبار ليس سهلا، لكنني حين بدأت قراءة القسم الاول، وهي جملة طويلة تمتد لخمس وثلاثين صفحة، ثم النص الثاني من القسم نفسه، والذي جاء مكملاً للأول، خرجت كما لو أن علامات الترقيم لا ضرورة لها أصلا. ربما لأني وأثناء القراءة، كنت غارقا في خيال شهرزاد، وهي تسرد حكايتها في كتاب الليالي.
الاختبار الآخر هو المقاربة الإلزامية التي ترافق القارئ فأطياف كتاب الليالي ترفرف حول الحكي ، لكن القارئ وطوال الوقت يتوقع شيئا ما استراحة شبيهة (وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح) لكن هذا لم يحدث، فالحكاية كاملة تبدأ وتنتهي بدون(بلغني ايها الملك السعيد)، وبدون (سكتت عن الكلام)… رغم ذلك لا نستطيع أن نقف أو نخترع استراحة اعتبارًا من نقطة ما نختارها نحن، أو نتوهمها لتكون بديلا عن استراحة شهزاد مضطرين للركض خلف الراوي مهتدين بظلاله التي تسير في شارع شبه فارغ، نبحث معه عن لسانه المقطوع، وندخل معه حتى في خزانة ذاكرته، لنعرف ماذا حدث لهند، وكيف ماتت، ولماذا يقف الجنود في الميدان، ولماذا المدينة مغلقة، ولماذا هذا التعالي على الكائنات، في الواقع وفي الافتراض؟!
في النهاية تنطوي قصة كائنات زوكربيرج، على الخفة في التنقل بين ثلاثة عوالم تتداخل أحيانا وتنفصل في مواضع اخرى، حتى كأن القارئ يتيه بينهما فلا يعرف أيهما هو مركز الحكي وأيهما الهامش، أيهما يحدث في عالم الميتافيزيقيا وأيهما يدخل في عالم الواقع، الواقع نفسه منقسمًا إلى حقيقي وهو افتراضي في جزء منه أو متخيل، وبين افتراضي يتحول في جزء منه إلى حقيقي، لكن الراوي يحاول في كل أقسام الكتاب تفكيك فكرة العصيان، والتي سوف تتماسك في الجزء الثالث المنطوي على مقاربة تصير فيها عوالم العصيان ثلاثة:
عالم فوقي ميتافيزيقي تمثلاته في مشهد السجود والعصيان، وعالم افتراضي يديره زوكربيرك، وعالم واقعي تديره السلطة المعززة بالدبابات والجنود
شخصيات احمد عبد اللطيف في هذه المجموعة، كائنات هشة، مطرودة من جنة الواقع، منها من وجد في الفيس بوك حكايته بعدما عجز عن المثول في الواقع المشحون بالإكراهات، مدرعات وجنود يقطعون الألسنة ويرمونها، فلم يبق له سوى هذه الشخصيات التي منعت من الكلام المكتوب.
مشكلة الراوي هنا أنه مهدد بغلق حسابه في الفيس بوك تزامنا مع غلق الواقع، هنا تتحول تجربة الوجود إلى متاهة ومعضلة، وأساس هذه المشكلة هي أن الراوي وباقي الشخصيات ترفض الخضوع للخطاب المتعالي، مثل وضع لايك على صفحة طائر الفولاك والتي كان المشتركين فيها يتكاثرون، الأصدقاء والجيران وحتى عائلة الراوي نفسها.
مارك زوكربيرج في هذه المجموعة، يتمتع بعقلية المستعمر كما يقول الراوي: صارت الهدايا والورود والقبلات والرسائل ودلائل الحُبِّ وعلاماته تدور في عالمه الأزرق الذي يسيطر عليه كإله ونحن صدَّقنا واستجبْنا وقوَّيناه لأننا صدَّقناه وأشعر الآن بغُصَّة لأنه ليس بوسعي أن أفعل شيئاً سوى وضع لايك على صفحة طائر يُسمَّى الفولاك لأحتفظ بعالمي وذكرياتي وإن اعترضتُ وتمرَّدتُ.….
هكذا يشرح لنا فكرة هذه المتاهة، أو قسمًا منها، فهو العاصي الذي سيكون مصيره مثل مصير الذي لم يسجد مع الساجدين، إذ تتوالد حكاياتهم وتنتقل بحرية بين العوالم والازمان، فهم موجودون دائما في كل زمان ومكان.
وفي القصة الثانية من القسم الاول تظهر شهرزاد ثانية، في شخصية الراوي الذي تقمصها ، الذي يسرد بضمير المتكلم عن حياته وطفولته وصباه، عن الندبة التي تستقر في الداخل، والتي لا تظهر على خد الولد الخجول، والذي هو روح شهرزاد نفسها، حيث يقول:
وأنا أكون قد جهَّزتُ لها مجموعة حكايات قرأتُها فأملأ الوقت بالحكي بلا توقُّف بقصَّة قرأتُها في كتاب وقصَّة قرأتُها في كتاب آخر وتسألني من أين عرفتُ هذه الأشياء فأخبرها بأني أقضي وقتي في القراءة وأن القراءة همزة الوصل بيني وبين الحياة
والخيال ثيمة هذا النص( قصة التندر) فهناك بنت يعرفها الراوي في زمن ما، كانت تحلم ان تكون مهندسة لتصنع ماكيتات للمدن:
وكنتُ لا أعرف هل أنا في القاهرة أم مدريد وهل أنا هنا حقيقة أم يُهيَّأ لي فأروح ذات صباح وأرى العديد من المُدُن من بينها مدينة مدريد فأسألها إن كانت زارت هذه المُدُن وتقول لا لكنها تُحبُّ أن تزورها ثمَّ تعرف لي أنها قبل أن تخطِّط لأيِّ مدينة تبحث عنها في الأطلس.
ومن هذه المدينة التي يظهر فيها شخص مصنوع من صلصال، يكتشف الراوي أن الذكرى البعيدة لرجل الصلصال، والتي تضمنها الماكيت لمدينة الحلم، مدريد تتحقق فيه، أنه هو رجل الصلصال يحدث ذلك بعد سنوات حين يكون في مدريد، إنها مدينة الخيال والحكي:
وكنتُ لا أعرف هل أنا في القاهرة أم مدريد وهل أنا هنا حقيقة أم يُهيَّأ لي فأروح ذات صباح وأرى العديد من المُدُن من بينها مدينة مدريد فأسألها إن كانت زارت هذه المُدُن وتقول لا لكنها تُحبُّ أن تزورها ثمَّ تعرف لي أنها قبل أن تخطِّط لأيِّ مدينة تبحث عنها في الأطلس

مقالات من نفس القسم