من السطور الولى للرواية ندرك اختفاء شخصيتنا الرئيسية ، ناجح تيسير عبد الواحد ، فى ظروف غامضة ، وندرك من خلال متابعة منولوجه الداخلى ، سواء بضميرالمخاطب أو المتكلم اللذين لم يتميزا فى الأداء على مدار السرد ، أ،ه حبيس زنزانة محكمة الغلق ، لا يرى من خلالها النور ويدخل إليه الطعام والشراب فى كيس من طاقة صغيرة ، وهى الطاقة نفسها التى يخرج منها فضلاته والأمر هنا لا يتعلق باعتقال مثقف مشاغب ، ولا بأعداء أشرار قرروا تعذيبه بالعزل عن العالم لما لا نهاية ، الأمر يتعلق بسؤال أو لغز ، يبقى مطروحاا على ناجح حتى نهاية الرواية ، وهو : ما سبب وجوده هنا ؟ وما الذى فعلهه أو لم يفعله حتى ينتهى به الحال سجينا وحده تماما ، لا يجد أى مخلوق ليتحدث إليه ، إلا عنكبوت صغير طال انتظاره له قبل ظهوره ؟ تتنوع الإجابات المقترحه على هذا السؤال الكبير ، ويروح ناجح يستدعى كل الاحتمالات الممكنه لجرائمهه او ذنوبه ، هنا نعود للميراث الميتافيزيقى الذى يثثقل كاهل الشخصية ، التى تدرك انها مذنبة من البداية ، وأنها مسئولة بدرجة او بأخرى عما يحدث لها بل وربما ما يحدث بالخارج لجميع الآخرين ، وأ،ها لذلك لابد أن تعاقب وتكفر عما اقترفته ، وإذ يمتد هذا التفكير لحده الأقصى فإن ناجح تيسير عبد الواحد لا يتردد مع السطور الخيرة للرواية ، فى الصعود إلى صليبه ، مضحيا بنفسه من أجل خلاص البشرية ، فى توكيد على فكرة الخطيئة والخلاص بالعذاب .
ولكن من هو ناجح هذا ليحمل مصير البشرية على كاهله ويدفع ثمن خطاياها ؟
هذا سؤال آخر يطرحه عليه السجن ، وبينما كان السجن فى حالته شديدة الغموض هنا ، إطار مثالى لطرح كل الأسئلة التى يفضل البعض بتسميتها بالوجودية من هذا القبيل ، ولكن الرواية لم تستغرق فى مستنقع هذه الأسئلة وانطلقت فى البحث عن العالم الذى كانن شرطا أساسياا لخلقها ومنحها شرعيتها .
لعبت الذاكرة ، بفوضاها المتماسكة على حد تعبير خوان جويتيسولو ، دور المحطم لقيود ناجح ، بوعيه الخرافى والغيبى ، وحملته بجناحين صغيرين خفيفين لتنتقل به من مشهد إلى آخر من مشاهد حياتيه ، ومن شخصية أثرت عليه إلى أخرى فى شريط حياته مرت مرور الكرام .
نلحظ ، من ناحية السرد ولغته ، أن الحيوية والتدفق يظهران ما أن يقترب السرد من المناطق التى تخص الآخرين بقدر ما تخص ناجح ، سجين وعيه ، أى تلك التجارب المشتركة التى لا مكان فيها إلا لتيار التجربة الحياتية لادافق ، مكتسحا فى غمارة كل سؤال وجودى صغير لذات صغيرة منعزلة رغما عنها او بإرادتها.
وعلى عكس ما يفترضه ويوحى به جو الحبس والعزلة التامة من إمكانية التريث والتأنى عند بعض التجاربر والخبرات التى تزودنا بها الذاكرة ، فإن الراوى كان يتقافز من منطقة فى الذاكرة إلى أخرى ، مضيعا عليه وعلينا فرص تكوين صور اكثر صفاء وعمقا لبعض هذه العوالم .
بالطبع لا نكلب من الرواية دليلا إرشاديا لهذه العوالم ، ولا استغراقا تاما فى واحد منها ، بما أنه كان طرفا واحدا فقط فى تجربة الراوى وسط اطراف عده ، لكن المشكلة ان كثيرا من هذه التجارب والخبرات ، خصوصا منطقة سنوات النشأة والتكوين والمراهقة ، التى لم تخرج عن نطاق المعتاد ، ولم ينقذها فى حقيقة الأمر إلا لغة السرد الرشيقة التى استفادت من العامية دون تردد او تحرج ، واعتمدت أساسا على الوصف المشهدى والحوار ، لذلك فلن تجد من بقايا البلاغة التقليدية ووصفاتها الشعرية المعروفة إلا النذر اليسسير ، وهو غالبا ما أرتبط بفقرات السرد التى تنداح عن وعى ناجح سجين لغته وبلاغته .
من الواضح أننا نلف وندور حول ثنائية الخارج والداخل ، تلك الثنائية القديمة والتى لعلها خالدة بمعنى من المعانى ، حيث يتكور الداخل مستغلقا على نفسه راصدا ما يفعله شقيقهه الخارج بعين سحرية مستريبة .
فى كيرياليسون فرض الخارج نفسه على شقيقه الضعيف والمريض ، بل ونجح فى حبسه بين أربعة جدران ، هذا الحبس الوجدانى الذى تجسد دراميا فى احداث الرواية ، والذى لم يتحرر منهه بطلنا – مع التسامح الشديد فى مفهوم البطولة –
إلا باستعادة تلك التجارب والذكريات الحيةة ، واستدعاء الشخوص والأجواء ، رغم رفض ناجح لمظاهر وطقوس الدين المفرغة من المحتوى والمعنى ، وهو ما يفعله ابوه الشيخ تيسير ، فهو ليس لديه ما يضيفه إلى الخارج إلا هذا الوعى الغيبى المريض نفسه ، الإدانة لنفسه وللأخرين وهى إدانة أخلاقية بالأساس ، ومحاولة إلقاء اللوم على طرف بعينه ، والبحث المعذب عن ذنب يمكن أن يطمئن له حتى يرضىى بمصيره ويتقبل عقوبته .
تعد الرواية بإمكانيات سردية متميزة ، تحقق بعضها بالفعل بين صفحاتها ، وإن كان ما بقى وعدا كامنا لا يستهان به . ولعل حكمتها الخاصة هى كشفها عن ضعف ما لدى ناجح ليقوله ، فى مقابل قوة ما لدى الآخرين ، أى تاكيد شحوب ذلك النمط الروائى الذى مازلنا ننتجه ونعيد إنتاجه ، ربما منذ كمال عبد الجواد فى الثلاثية ، وربما لما لا نهاية ، أى نمطالمثقف المنعزل والمهزوم ، الذى يذوب الروائيون فيه غراما ، ربما لأنه مرآة صافية لصورهم ، وربما لأنه فى المتناول ، فى متناول أحاسيسهم وأفكارهم وهواجهم .
تبدا المغامرة ، فى رواية كيرياليسون ، باقتحام للعالم الخارجى ، الذى تفجر عن ينابيع وجداول عمل السرد الرشيق على الإحاطة بها بكل الوسائل ، وهى مغامرة تحسب لكاتبها . وأعتقد انه هكذا تبدأ كل مغامرة على الورق أو بعيدا عنه .