«عزيزتى سافو».. أسئلة الكاتب والكتابة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
يترجم هانى عبدالمريد فكرة أن يكون الكاتب على الحافة، يحتاج إلى المادة، ولكنه لا يجد أفكارًا، ولا يريد أن يكتب بالطلب، وخالد يصعد حرفيًّا فى كل مرة على حافة السور، يتأرجح ويتوازن، ثم يعود إلى الروف أمام حجرته الصغيرة، وعالمه الخارجى به
أصعب ما يؤرِّق الكاتب أو الفنان، أن يجد الفكرة والمعالجة، وأن يضع يده على أول طريق ترويض السرد، أو بداية العثور على جملة موسيقية يبدأ بها السيمفونية.
معاناة الخروج من حيز الفكرة إلى حيز الفن، حكاية مشوقة لو كُتبت بذكاء وتفصيل، ومطبخ الكتابة بالذات يصلح لاكتشاف وتأمل أشياء مهمة وجوهرية، سواء فى علاقة الكاتب بمادته، أو بمحاولة ترويض الكتابة، أو حتى بدراسة شخصية الكاتب ومخاوفه وهواجسه.
وهذه الرواية، وعنوانها «عزيزتى سافو»، لمؤلفها هانى عبدالمريد، والصادرة عن هيئة الكتاب، يمكن قراءتها بالأساس على أنها حكاية معاناة كاتب فى تجاوز مخاوفه، والتغلب على «حبسة الكتابة»، وعدم العثور على فكرة، وعثوره أخيرًا على أول الخط، مستعينا بإلهام كاتبة أخرى، من زمنٍ آخر، هى الشاعرة الإغريقية الشهيرة سافو، والتى اعتبرت من الملهمات على مرِّ العصور.
النصّ فى بنائه وتفصيلاته عن الكتابة نفسها باعتبارها طوق نجاة، وعلاقة حب واكتشاف للذات وللآخر، والرواية التى يريد بطلنا خالد، الروائى الشاب، أن يكتبها، ليست مجرد حدوتة يمكن أن يخترعها، ولكن يجب أن تعكس عالمه، إنها قطعة من روحه، هكذا ستعلم «سافو» الكاتب الشاب معنى أن يستمتع بتجربته، لا أن يتعذب بها، أن تكون مكافأته بأن يعثر على النغمة الصحيحة، لا بأن يصفق له الآخرون.
خالد، الريفى الذى جاء إلى العاصمة متعلقًا بالكتابة، والذى يعانى من مخاوف شتى، يبدو الآن أمام صفقة تجعله مطالبًا بكتابة رواية كل عام، نظير راتبٍ شهرى متواصل، الناشرة مليسا منير تعيّنه لديها موظفًا بدرجة روائى، وبعد فرحة وقتية، لأنه سيتفرغ للكتابة، ولن يحمل همًّا فى تغطية مصروفاته، يكتشف أنه وقع فى فخ، وكأن هذه الوظيفة قد سلبته القدرة على الكتابة، فلا يستطيع أن يختلق فكرة، ولا يمكنه أن يرسم شخصية، ويكتشف ما هو أسوأ: الناشرة تريده أن يكتب عن جدِّها، الذى تلعنه كتب التاريخ، تريد أن تبرِّئَ رواية مكتوبة ساحة الجد، صفقة عجيبة لا علاقة لها بمعنى الإبداع الحقيقى.
يترجم هانى عبدالمريد فكرة أن يكون الكاتب على الحافة، يحتاج إلى المادة، ولكنه لا يجد أفكارًا، ولا يريد أن يكتب بالطلب، وخالد يصعد حرفيًّا فى كل مرة على حافة السور، يتأرجح ويتوازن، ثم يعود إلى الروف أمام حجرته الصغيرة، وعالمه الخارجى به شخصيات تحاول أيضًا أن تجد أول الخط، مثل العاهرة أشجان، والفنان التشكيلى بولا، الصعيدى المنياوى، ومثل أمينة المكتبة العامة سميرة، التى تحاول أن تتجاوز انتماءَها إلى عالم المطلقات.
ولكن النص يغوص أيضًا فى عالم خالد الداخلى، فى أحلامه وكوابيسه، وفى الأفكار التى تطارده، وفى الشخصيات التى تتنازع كهفه الخاص، وهنا تظهر سافو، كطوق نجاة، هى أيضًا تسعد بالتواصل مع كاتبٍ معذَّب، وهى أيضًا تعذبت وتريد أن تحكى له، ولكنها ستعرفه معنى الحياة، ومعنى الحب، ومعنى أن تكتب لتصبح خالدًا بالفعل، لا خالدًا بالاسم فقط.
أبيات من شعر سافو، كتبها خالد فى دفتره الأزرق، ستستدعى عالم شاعرة من زمن بعيد، ولكن تواصل أهل الكتابة يتجاوز العصور، ومعاناة الروائى تتقاطع مع معاناة الشاعرة، وبقاء أشعار سافو، ووصولها إلينا، يضيف الكثير إلى أهمية فعل الكتابة، وتأثيرها العابر للقرون.
وبين الناشرة مليسا التى تمثل حدود الكتابة وسقفها المنخفض، وسافو التى تمثل حرية النص، والقدرة على التعبير عن الذات والمشاعر، بل وتجسد أيضًا معنى التمرد، سيعيش خالد تجربة صعبة متلونة، لا ينقذه منها إلا العودة إلى الأسلاف، فيصبح امتدادًا للجد الحكاء الساحر، فتصبح الكتابة عنوانًا على هزيمة الخوف، مثلما ستكون محاولة تحدى مليسا علامة على تجاوز العجز، وعدم القدرة على الفعل.
ولأن النص بالأساس عن الكتابة، فإن السرد يأخذ أصواتًا متنوعة، ما بين الرواى والرواى العليم، ويتغير ضمير السرد أحيانًا تعبيرا عن تعدد المشاعر، وربما تناقضها أيضًا، وحضور سافو لا يكون عبر أشعارها فقط، وإنما تظهر كذلك كشخصية أساسية ومحورية، وخالد الذى سيواصل طريق الرواية، ستمثل له روايته، التى ألهمته بها سافو، الخيط الرفيع والمتين الجديد، لأن هذه الرواية بالذات صارت قطعة من روحه، وعنوانًا على معركته، من أجل موهبته وفنه وحدهما.
أما أسئلة الرحلة فهى كثيرة ومثيرة للتأمل: هل يقنع الكاتب بأول فكرة أم يحفر ويتعب فى البحث؟ هل كاتب الرواية مجرد حكاء عن الآخرين أم أنه يحكى عن نفسه عبر الآخرين؟ كيف يشعر أصلًا بالرضا عن عمله ويستمر فيه؟
تحقق رواية «عزيزتى سافو» توازنًا ممتازًا بين مادة الحياة، وبين أفكار الكتابة، وشخصيات مثل خالد وأشجان وبولا وسميرة ومليسا وسافو رسمت بعناية فائقة، وقدِّمت كنماذج إنسانية من لحم ودم، حتى سافو تعذبت فى حبها لشخص لم يحبها، وشخصية بولا الفنان التشكيلى ممتلئة بالحياة، وهو يعرف طريقه ويختاره حتى النهاية، بعكس خالد المتخبط، والباحث عن نور فى نهاية النفق.
بولا هو الذى حلَّ ألغاز جده، وهو العارف بالفن، وغيابه يجعله أسطورة باقية، وكأنه قديس جديد، ولكن فى مجال آخر، يروض اللون والخطوط والتكوينات، وبقاء لوحات بولا، مع غيابه هو، دليل جديد على أن الفن يستحق المعاناة، وأنه ينوب عن الفنان، ويعيده إلى الحياة، مثلما أعادت أشعار سافو شخصيتها إلى الحياة، ومثلما أعادت نفس الأشعار الحياة لروائى شاب معلّق على سور منزله، فى حى القلعة، فى القرن الواحد والعشرين.
هذه الرواية المدهشة تنقل أسئلتها المؤرقة إلى كل كاتب ليختار بين أن يتحرر بالكتابة، أو أن يبقى أسير مخاوفه، بين أن يرسم لوحته، أو يرسمها له الآخرون، بين أن يبقى ما يكتبه، أو أن يذهب أدراج الرياح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر بجريدة الشروق 

مقالات من نفس القسم