محمد متبولي
(عايزه بابور جاز زي بتاع كريمة، ولو جبت بنت تبقى في جمال كريمة)
كلمات رددتها بنات جيلها، قبل أن يضاف لاسمها لقب الحاجة لاحقاً، فلثلاثة أجيال متعاقبة جيلي أوسطهم، تداولت قريتنا وزمام القرى المحيطة بأسرها، الحدوتة التي امتزجت فيها الحقيقة بالأساطير.
ففي شبابها كان للحاجة كريمة جمال ساحر، لدرجة أن الماء كان يحتفظ بصورة وجهها على سطحه لعدة ساعات، بعد أن تنتهي من تضفير شعرها فجراً على شاطئ الترعة، وذات يوم بينما كان الحاج صابر متجهاً لزراعة أرضه، رأى وجهها وشفاهها المبتسمة على الماء، ففتن بها وتقدم للزواج منها، لكن أبيها شرط أن تكون ابنته هي أول من تحوز في القرية على ذلك الموقد الجديد الذي يعمل بالكيروسين، وشاع اسمه حينها على الألسن ببابور الجاز، ضمن تجهيزات بيتها، فخاف صابر أن ينتظر موسم الحصاد فتضيع العروس منه، فقرر أن يبيع جزءا من أرضه ليتمكن من الإيفاء بمتطلبات الزيجة.
فلما سمع أهل القرية ذلك أشبعوا الأب ملامة وتقريعاً، فتراجع الأب عن موقفه وكلف جدي الذي عمل في التجارة، أن يشتري له البابور من العاصمة، لكن الحاج صابر عندما سمع ذلك ثارت ثائرته، وظن أن والد كريمة يقلل من شأنه، فأصر على بيع الأرض، وشراء البابور من ماله الخاص، وبعد تدخلات جدي وعقلاء القرية، أُتفق أن يشتري الأب البابور هدية لابنته، وأن يكتب صابر الأرض التي أراد بيعها باسم كريمة كجزء من مهرها.
كان ذلك هو فصل البداية في أول وربما آخر قصة حب تشهدها قريتنا، والأهم بداية سيرة عائلتنا الحقيقية، فمنذ حينها تخصصنا في بيع وإصلاح مواقد الكيروسين، فورث أبي المهنة عن جدي وورثتها أنا عنهما، لكن يبدو أن الفصل الأخير من القصة سيكون رتيباً، فهي تنتهي الآن عند جدٍ على المعاش مثلي يمضي معظم النهار جالسا في مسامرة المارة، منتظراً أن ترسل له سيدة في أرذل العُمر، تدعى الحاجة كريمة مع أحد أبناء أحفادها، آخر بابور جاز مازال يستخدم في القرية لكي يصلحه، فهي لا يمكنها الشعور بالدفء شتاءً إلا بمعونته، ولا النوم على مدار فصول العام إلا على صوته.
*****
(ستي الكبيرة بعتالك ده عشان تصلحه)
وقعت كلمات الصبي الذي لم يتجاوز الخامسة عشر على أذني، كوقع إحدى الأغنيات القديمة التي طالما عشقتها، أخذت البابور من يده لفحصه متفاديا نظرات عينيه، التي كانت تحمل من الترقب بقدر ما تحمل من الغيظ، وبينما أنا منهمك فيما أفعل، كنت أسترق النظر نحوه، فأجده يحملق عن عمد في الصورة المعلقة خلفي، وأنا أتسلم شهادة تقدير ودرع لبلوغي سن المعاش، وكأنه يسترجع أحاديثنا السابقة عندما كانت العلاقة معه وباقي أبناء أحفاد السيدة أفضل، وسؤاله المتكرر عن سبب إصرار موظف سابق ذي شأن مثلي على البقاء في ورشة قديمة كتلك.
للحقيقة لم تروقني نظراته ولا تلك الكلمات التي لم يقولها، وعلى الرغم من سهولة الإصلاح، إلا أنني قررت أن أعاقبه على طريقتي:
(قول للحاجة مش هيلحق يخلص النهارده، سيبهولي وبكره تعالى في نفس الوقت)
أعرف جيدا حجم الكدر الذي سببته له، فمناوبة البقاء مع جدته الكبيرة من نصيبه اليوم، ولن تتمكن الحاجة كريمة من النوم طيلة الليل وسيكون لزاما عليه البقاء مستيقظاً بجوارها، وعند منتصف النهار سيأتي إلي ثانية، وهو من أثقل الأمور على قلبه، هكذا دوما ما ألقن أفراد تحالف أحفاد الحاجة كريمة وأحفادي الدروس تباعاً، عقاباً لهم على محاولاتهم المستمرة لإبعادي عن فعل ما أحب في أواخر أيامي.
وما إن مضى الفتى منتفخ الوجه، حتى أخذت أنا بدوري أنظر للصورة وأتذكر، فقد كان من المقرر أن اكتفي بقدر معقول من التعليم ثم أكمل مسيرة العائلة المهنية، لكن أبي بمجرد ما رأى انتشار مواقد البوتاجاز في العاصمة، عرف أن مهنتنا ستنقرض عاجلاً أم آجلاً، فقرر أن أكمل تعليمي حتى النهاية، ومن بعدها أحصل على وظيفة، فحول جزءاً كبيراً مما جمعنا من مال لشراء أراض زراعية، وصرت أنا أعاونه في أوقات فراغي بعد العمل.
قطع أفكاري مجئ أحد المارة وجلوسه على المقاعد المتراصة أمام الورشة، منتظراً ما يقله لداخل القرية، فذهبت لمسامرته، متذكراً شذرات من الحوار الذي دار بيني وبين أبي، عندما أصر على عمل ما يشبه استراحة الانتظار أمامنا في أواخر أيامه، فسألته حينها لماذا يفعل ذلك فقال لي:
(ثواب لأهل البلد يا أبني)
فالورشة كانت في مدخل القرية، وعادة ما يقف العائدون أمامها لينتظروا ما يقلهم لوجهتهم في الداخل، وينتظر المغادرون السيارات التي سيستقلونها لأقرب محطة لسيارات الأقاليم، فأراد أبي أن يتذكره الجميع بالخير، وقطعا لم يخلو الأمر من واجبات الضيافة المعتادة، كتقديم المشروبات الباردة أو الساخنة، وربما حتى الطعام لو طال الانتظار، وهو ما أثار دهشتي كثيراً، ولكنه دوماً ما كان يقول لي:
(بكره لما توصل لسني هتعرف أنا بعمل كده ليه)
أظنني الآن عرفت، فبين أيام الانتظار الطوال ومجئ بابور جاز الحاجة كريمة لإصلاحه، كانت مسامرة المغادرين والقادمين مصدراً كبيرا للتسلية، ومعها كنت أول من يعرف أخبار ما يحدث في القرية، وأمضي معظم يومي استرجع تلك الحكايات وأفند الروايات المختلفة لنفس الخبر أو القصة، وأحاول أن أصل للحقيقة لاحتفظ بها لنفسي، هواية عجيبة تشبه حل الكلمات المتقاطعة لكنها تناسب طبيعتي الفضولية، وأيضاً جعلتني العجوز المصادق لكل أهل القرية صغارهم قبل كبارهم وكاتم أسرارهم، ختام لطيف لحياة حافلة بالعمل والجهد، أمارس فيها هوايتي في إصلاح مواقد الكيروسين وتكوين الصداقات وتجاذب أطراف الحديث مع المارة، ولكن يهدد كل ذلك تحالف الأحفاد.
*******
(خايفين عليك من الكورونا يا جدو)
كانت تلك هي الكلمات التي اعتاد أحفادي أن يسوقونها مؤخراً، في محاولاتهم المستميتة في اقناعي بإغلاق الورشة والانتقال معهم للعاصمة، لكنني أعرف السبب الحقيقي خلفها، فأحفادي وأحفاد الحاجة كريمة شكلوا تحالفاً قوياً منذ فترة، فالأولين وقع على عاتقهم رعاية جدتهم الكبرى بالتناوب، وتمسكها ببابور الجاز يؤرقهم، لكنهم يظنون أنني لو أغلقت الورشة وعرفت هي ذلك، فستضطر للاستغناء عن البابور تدريجياً، وتريحهم من صوته ورائحته وعبء إصلاحه، أما أحفادي فيستثقلون المجئ للقرية، فلم يعد هناك ما يربطهم بها سواي، وفي الوقت نفسه يضغط عليهم آباؤهم لزيارتي، وهكذا تلاقت مصالح الطرفين، لكن قطعاً لم تفلح جهودهم حتى الآن على الأقل، ففكروا في فكرة أخرى.
لا أعرف على وجه اليقين من فيهم رسم تلك الخطة، ففي أيام الوباء الأولى مع الإغلاق، أهدوني هاتفاً ذكيا متطوراً، وزادت من بعدها بشكل ملحوظ زياراتهم للقرية، فعاونوني على تعلم استخدامه، وعمل حسابات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وإرسال طلبات الصداقة لكل من أعرفهم، في محاولة منهم لعزلي داخل فقاعة الواقع الافتراضي، للحقيقة تجاوبت معهم ولكن لغرض آخر، فقد كان لدي هاتف ذكي من قبل وحاولت دخول عالم مواقع التواصل الاجتماعي لكنني لم أنجح كثيراً، فوجدت فيما يفعلونه ميزة كبرى.
وما إن وصلت لهدفي، حتى فوجئوا بي أنشئ عدة مجموعات للتواصل تضم الكثير من المهتمين بمواقد الكيروسين، لتبادل الخبرات، سواء كانوا مستخدمين أو مصلحين أو حتى مصنعين لبوابير الجاز بشكل يدوي، وليس داخل البلاد فحسب، ولا حتى على مستوى المنطقة ولكن على مستوى القارة بأسرها، مجموعات تواصل بثلاث لغات مختلفة العربية والإنجليزية والفرنسية، خاصة بعدما علمت أن هناك مناطق بأسرها في بعض الدول مازالت تعتمد بشكل كبير على مواقد الكيروسين، سواء لظروف الحرب أو أزمات الطاقة، لدرجة أنني فكرت في السفر إلى إحداها والعمل بها، ثم تراجعت بعد أن تذكرت أن ما تبقى من عمر لن يكون بقدر ما فات.
لكنني أعرف ماذا سيحدث في النهاية، فعاجلاً أم آجلاً سترحل الحاجة كريمة ولن يكون هناك سبب تستمر الورشة لأجله، وقطعاً ستزيد لدي علامات التقدم في السن، وسيزيد معها ضغط الأحفاد على آبائهم وعلي لأغلق الورشة وانتقل معهم للعاصمة، ولا أظنني حينها سأقوى على الوقوف في وجه الأبناء والأحفاد معاً، وسأرضخ لينتهي بي الحال إما في شقة مجاورة لأحد منازلهم أو حتى غرفة صغيرة في شقة أحدهم، لذا فقد بدأت بالاستعداد لتلك اللحظة بتعلم كيفية إعداد دورات تدريبية عن بعد(أونلاين)، مستخدماً الحاسوب الجديد الذي اشتريته، وتعمدت أن لا يعرف أحفادي عنه شيئاً، لكي أقوم فيما بعد بإعداد دورات عن تصنيع وصيانة مواقد الكيروسين على المنصات الإليكترونية المختلفة، ليس ذلك فحسب، بل وبدأت مؤخراً التواصل مع مهندس متخصص، لكي يعمل معي على تطوير بابور جاز يعمل عن بعد، باستخدام إحدى تطبيقات الهواتف الذكية، فمن يعرف ربما أكون بذلك سبباً في عودة بابور الجاز للحياة قبل أن أفارقها.
ولعل أحفادي وأحفاد الحاجة كريمة يعرفون حينها، قيمة بابور الجاز.