محمد فرحات
“١”
ظلت المواءمة بين قلبه وعواطفه الجياشة، وعقله وأطروحاته الصارمة، شغله الشاغل طوال رحلته الفكرية، ووثباته المقدامة ما بين أقصى اليمين لأقصى اليسار، مع النزعة الوجودية الصادقة لمصارحة الكون بتوجهه، وما يفرضه ذلك من التزامات وردود فعل تبدو متسقة مع ما اعتنقه بكل صدق.
مع هدفه الأسمى لإيجاد حل، موافقا لقناعاته ومعارفه وخبراته المتراكمة، لإشكالية الحرية في إطار شمولي إنساني للحرية، وممارستها كنمط حياة كلي، لا كما اختزلتها العقلية الشرقية والعربية منها خاصة في إطار الممارسة السياسية، لا كإيمان حقيقي بقضية الحرية السياسية الضيقة وإنما كسلوك لا يبعد كثيرا عن مناخ المكايدة، واحتكارها فيما بعد لفصيل سياسي أو اجتماعي أو طائفي يمارس الحكم. فالحرية عند “محمد فكري الجزار” خلاص شمولي لكل أزمات الحياة الإنسانية بكافة جوانبها وتنويعاتها.
يبدأ “محمد فكري الجزار” كتابه “ألعاب اللغة” المصنف على النقد الأدبي الحديث، بمقدمة سيرذاتية، بلغة اختزالية مكثفة للغاية، عن بدايات تكوينه كطفل، لأحد الأسر الارستقراطية (أعيان/ إقطاع) ولد مبتسرا، ضعيف البنية، ينتظر والداه بإشفاق وحسرة فراقه من ساعة لأخرى، إلا أن المعجزة تتحقق، وتكتب للجزار الحياة، فيما يشبه كرامات الأولياء.
وتجربة اعتقال والده العضو البرلماني الأشهر “فكري الجزار”، بعد وصفه لنكسة 67 أنها عار، ثم تجربة العزل السياسي.
لم تكن العلاقة بين المثقف الثوري العضوي “فكري الجزار” بابنه غير علاقة أستاذية وتلمذة، لينشأ الفتى بين جوانب مكتبة أبيه، يقضي ساعاته كلها، فمناقشات عاصفة بين الأستاذ وتلميذه.
وفيما يشبه الديالكتيك الجدلي يتنقل الثوري الشاب ما بين تيارات الإسلام السياسي كموضوع، لنقيضه اليسار الماركسي، ثم التصوف كمركب النقيضين. لم يكن انتماء “محمد فكري الجزار” انتماء حزبيا، بقدر ما كان انتماء لفكرة رفع المظلومية سياسيا/طبقيا، وأحقية خلاص المستضعفين بنيل فرصة للحياة الحرة.
لم يكن انتماء حزبيا سياسيا ضيقا، تأنف طبيعة “الجزار” المتمردة الحرة الخضوع لقيوده المكبلة، وإطاره التنظيمي الصارم العقيم، بل كان انتماء للإنسان في المقام الأول. وأيضا لم يكن مجرد إيمان دوجماتيكي، مستظهرا جوانبه النظرية، منتظرا فرصة قد تأتي للتطبيق، أو على الأقل العيش بين جوانبه كسجن ذاتي لا يفارقه.
“دخل الفتى مرحلة شيخوخته، وهو إذ ينظر خلفه لاينظر بغضب، وإنما برضا مفعم بالنعمة التي كان ربه يقلبه فيها حتى أن فترة إلحاده كانت بعض أنعمه. ولذا لم يشطب على معرفة اكتسبها يوما، فمهما كان تصنيفها ووصفها تبقى معرفة وليست دوجما، وبما هي كذلك فهي نافعة بمرونتها المفرطة للتحويل، وبقابليتها الفائقة للتوظيف. ”
كان من المناسب،إذن، تلك اللغة الشعرية الاختزالية المكثفة الأسيانة لمقدمة كتاب نقد علمي، ف”الجزار” قد رأي أن حياته الأكاديمية، كأستاذ نقد حديث، والتزامه بلغة ومنهج الأكاديميا، كانت قيدا آن أوان الانعتاق منه هو الآخر، ليبق فقط الإنسان المنحاز بكل قوة لإنسانيته، بعيدا عن أي تصنيف أو محاولة لإدارجه في خانة ضيقة، ليجسد كسر هذا القيد الأخير توقه، وشغفه اللامتناهي لتحقيق حريته وانعتاقه كإنسان.
“٢”
يتساءل د.”الجزار” “لم لا نقول(الشعر) بدلا من (الشعري)؟” ثم يفرق بين كون الشعر مصطلحا تجريديا، اكتسب مفهومه من نظرية الأجناس الأدبية. وأن الشعري “يستمد مفهومه من النص الشعري المتحقق بالفعل.”
وأيضا فإن “الشعر” بحكم تجريديته فهو لازمني بامتياز، بيد أن “الشعري” على عكس”الشعر” “فزمني متغير بتغير ما يحيل إليه.”
و”الشعر” ابن بيئته الاجتماعية، ينفعل بها فيعبر عنها، فضلا عن ذلك، ف”الشعر”” ينتمي إلى نوع من الفلسفة الاجتماعية ماثلة في نظرية الأدب وأجناسه” في حين أن “الشعري” انتمائه لواقع النص ذاته.
ثم يتحدث عن تبادلية تهمة التأزم بين أطراف “الخارطة الشعرية” فالقارئ يتحدث عن أزمة “الشعر”، والشاعر يتحدث عن أزمة “النقد”، وينفي د.”الجزار” وجود الأزمة من الأصل، وإنما مجرد سوء فهم ناتج عن “الغياب” “غياب خطاب لا هو بالنظرية ولا هو بالمنهج، حر من النظرية والمنهج وتجريداتهما”.
فالقارئ غير مهتم في الأصل بالمنهج النقدي الأكاديمي ونظرياته ونتائجه، والناقد يحاول التوفيق تطبيقيا ما بين النظري والشعري، ويقاس مدى نجاحه بقدرته على هذا التوفيق. وهذا أيضا لا يعني القارئ الغير متخصص أكاديميا. ثم يقر بأن الأزمة تتجسد في عدم العناية باهتمامات القارئ العادي.
فأهم ما يبحث القارئ عنه هو التجربة الشعرية، والتي تدثرت باللغة كقشرة فقط، “وليس أداة توصيل على الإطلاق”. فإذا أسفرت التجربة الشعرية بوجهها للقارئ، أخذته هزة المتعة، وأعاد قراءة النص عدة مرات، بخلاف إذا تصفح نقدا لذات النص الذي انفعل به، فإنه لا يجد أثرا مما وجد سابقا،”هذه هي عين الأزمة الحقيقية.”
ولكن، وفي ذات الوقت، لا يمكن تبني قراءة القارئ العفوية كنظرية شعرية، وإلا كان اختراعا جديدا لتجريدات النظرية.
“الممكن الوحيد هو بناء أفق تلقي الشعر من المنظور الذي يهم القارئ وهو المتعة التي يستشعرها في نصه ولا يعرف لها كنها…”
تلك المهمة تحتاج إلى خطاب حر، وليس نظرية، مع عدم إهمال المنجز النظري والمنهجي”من أرسطو إلى دريدا، مرورا بالجاحظ وقدامة والجرجاني والسكاكي…”، لكن ليس كحتم جاثم بل كثقافة ننفعل بها أخذا وتركا وتغييرا، للبحث عن العلة النصية التي تسبب متعة القارئ العادي.
فالقارئ غير معني في الحقيقة بغير “المتعة” ليتحد مع غاية “الشاعر” ذاتها والتي لا تخرج أيضا عن ذات “المتعة” أو ما بدأه “رولان بارت” بكتابه “لذة المتعة” ولم يكمله، أو يسير غيره على نهجه، منطلقا من القطيعة التامة لكل النظريات والمناهج، مستغرقا بأسلوبيته الكتابية التي عوقت رؤيته وأرهقتها، وبدت محاولة “بارت” “كأنها كتابة أدبية مرادة لذاتها، أكثر من كونها أفقا جديدا لتلقي نص الشعري.”
والمتعة، مع ذلك، “ليست شعورا خالصا، إنما هي معرفة وموضوعها ليس المتعة ذاتها، وإنما ما أنتجها، أي “الشعري”، ليس بوصفه أي شئ آخر غير كونه مصدرا لإنتاج المتعة…”
ما الذي يجعل “الشعر” ممتعا، ما آليات إنتاج المتعة، وبشمولية يتساءل”كيف تنتج اللغة المتعة؟ وعنوان الإجابة(الحرية) حرية دلائلها في اللعب…” فالشعري “يخفض قانونية اللغة إلى درجة تعطيل إنتاجيتها”.
فلا يبقى أمام الدوال الشعرية غير التداعي الحر، والذي لا يفلت عنه المعنى، ما أسماه “اللعب الحر”، ومن ثم يتورط القارئ ذاته في اللعبة، لعبة إنتاج مدلولات جديدة يخلقها تفاعله مع النص الشعري، ويتلامس هذا الإنتاج مع وعي القارئ وربما أيضا لا وعيه، منتجا رؤية جديدة للنص بشموليته ومفرداته، وتحيل القارئ لاعبا مركزيا في لعبة إعادة إنتاج الدلائل.
ف”خطاب المتعة/اللعبة ليس منهجا ولايريد أن يكون، ولا نظرية ولا تنبغي له، وبالرغم من هذا، ففيه من المنهج ما فيه، ومن النظرية ما يغنيه، لتقديم مقاربة حرة للشعري وألعابه التي لا موضع فيها لنحو ولا لبلاغة…”
ستقابلنا لفظة”الحرية” كثيرا لتجسيد توق وشغف د”الجزار” للحرية، ليس فقط ممارستها كفعل أصيل بشتى النواحي الحياتية، ولكنها، وفي هذا السياق، محاولة للانعتاق من مناهج ونظريات النقد الأكاديمي، ومحاولة الانفعال الحر مع النص، ومنح تلك الحرية للمتلقي.
وكما أن للحرية ضوابط عامة، كذلك فالانفعال الحر(اللعب الحر)مع النص له ضوابطه أيضا، من ضرورة الارتكاز على المنجز الثقافي التاريخي الواسع الممارسة من أول أرسطو ب”فن الشعر” إلى دريدا وتفكيكه ب” الكتابة والاختلاف”، مرورا بالتراث النقدي العربي.
حمد فرحات
“6”
وفي هجائية لا تخلو من نبرة مأساوية يتناول د”الجزار” ما أسماه”لاهوت النظرية” وما تحمله كلمة “لاهوت” من ثقل في الدلالات والإسقاطات التاريخية، وما تشير إليه من تعالٍ وفوقية سلطوية تفرض إملائاتها بشتى القوى الناعمة منها والغاشمة.
وكل ما تحمله لفظة”لاهوت” من دلالات تكاد أن تتطابق مع ما تحمله لفظة “النظرية” من عين الدلالات، والفارق يكمن فيما تحمله لفظة”لاهوت” من أبعاد غيبية تمارس سلطاتها في خفاء ومَضَاءِ سيف صارم، لا يقبل مساومة أو ترضية لتغيير سيرورة مُضِيِّه. وما تشير إليه لفظة “النظرية” من سلطات زمنية منحسرة في دوجما مغلقة بمنطقها وتناسقها الخاص الممارس أيضا لسلطاته بذات التعالي والفوقية.
فتبادلية الأدوار متاحة فيما تمارسه كلتا اللفظتين من سلطات وإن تباينت مواقع ممارسيها وماهياتهم.
ف”النظرية” بما تمليه من ضوابط تكبح جماح ممارسات الذات الإنسانية، لا تملي في الحقيقة إلا ما تُلَمِح إليه “السلطة” من رغبات وإملاءات تحافظ على كيانها وبقائها السرمدي غير منقطع التأثير والهيمنة.
وظاهر مبرر وجود “النظرية” هو تفسير ظاهرة ما، وتنظيم وسائل الوعي بها، إلا أن باطن ذلك المبرر لوجود”النظرية” هو القضاء على النزعات الإنسانية للذات المتفردة الامنتمية لأي “سلطة” والمهددة في ذات الوقت لوجودها.
يقول د”الجزار” ” إن النظرية تكونُ لكي تكونَ دون اعتبار لشئ آخر، وتحرس حدودها بمنظومة من أدوات/مقولات النفي، لا لتمنع اشتباهًا بسواها، وإنما لتضمن تسليم الداخل إليها وولاءه لها، من قبل أن يتعرف عليها وعلى مقدار الخسائر الذي تحدثه بالظاهرة موضوعها في سبيلها إلى بناء خطابها.”
وبسخرية مريرة يقرر د.”الجزار”” تبدء النظرية من الظاهرة نعم، لكنها تنتهي بنفسها!!”
ولكي تبرر “النظرية” وجودها تزعم أنها قد جاءت استجابة لسياقات اجتماعية وتاريخية شكلتها وطوعتها، وكأنها مجرد رد فعل برئ من أي نوايا قبلية احتوائية مستبدة.
تمارس “النظرية” في تأسيسها لوجودها خداعا أيديولوجيا متهافتًا يسقط بمجرد ملاحظة التسارع الرهيب في ظهور النظريات واحدة تلو الأخرى لتنقض إحداهما الأخرى ظاهريا، وباطنيا هي امتداد لها لمجرد احتواء”الباقي” الذي استعصى أن يُطوع لاستلاب النظرية الأولى، في مقابل بطء شديد لتطور السياقات الاجتماعية والتاريخية التي زعمت “النظرية” أنها جاءت استجابة حتمية لها، وبالرغم من تغير السياق الاجتماعي والتاريخي على بطء سيرورته، تبقى “النظرية” ممارسة نفس دورها الذي مارسته حال وجود هذا السياق والذي انقضى وانقصت تأثيراته. وإن جاءت “النظرية”، كما تزعم، مجرد استجابة لسياق اجتماعي ما، فهل كان من الملائم منطقيا أن تُرفض وتُحارب في بداياتها أم أن وجود السياق كان سيفرض حتمية ما لقبولها بمجرد ظهورها كاستجابة له كما تزعم النظرية.
يقول د”الجزار” كاشفا تهافت هذا الخداع الأيديولوجي” المسكوت عنه أن تلك السياقات الاجتماعية والتاريخية ليست بريئة كما يبدو ظاهرها إنها منظمة ومنتظمة على هيئة(السلطة)التي تسكنها وتتحكم بها وتقود مساراتها(…) إننا إزاء عملية خداع أيديولوجي بقناع أبستيمولوجي لاتقوم به النظرية، وإنما السلطة نفسها تفعل هذا، ليس من قبيل الانحياز للمعرفي، ولكن لأن النظرية تقع ضمن أهدافها فالسلطة تنحاز لكل نظرية ما دامت أية نظرية تقوم على الإيهام بضرورتها للظاهرة موضوع تنظيرها، بينما لا تقوم إلا على أشلائها، وكما لم تهتم النظرية بظاهرتها لاتهتم السلطة بالنظرية. فقط، يتآمر الاثنان على واقع الظاهرة، ولكل منهما أسبابه…”.
فالنظرية تؤدلج الواقع لحسابها، كوسيلة للسلطة لقمع التفاعل الحر للذات ووعيها بالواقع وظواهره وسياقاته الحقيقية.
وخطوات ذلك الاستلاب خلق منطق النظرية الخاص في مقاربة الظاهرة موضوعها ثم تتوسل بالظاهرة خلال بعض الفرضيات، ثم تقدم خطابها باعتبارها المعرفة الصحيحة المطلقة.
يؤرق “الباقي” المتمرد دائما ضد سيطرة وسطوة “النظرية” فتخفي “النظرية” أرقها وتخوفها من تهديد”الباقي” لوجودها بنفي” وجود جدواه، أو جدوى وجوده.”
لاينفي د”الجزار” فوائد تحققها “النظرية” “ولكن خسارتها أكثر فداحة، وأهم هذه الخسارات أنها تَحُوُل بين الذات ووعيها الحر بالظاهرة، فقد حلت النظرية محل الظاهرة، وأي قصد للذات الفردية حيالها لن يتم الاعتراف به مطلقا، إن لم يوقع الذات في مآزق مع علاقة القوة التي تمثلها هذه المؤسسة أو تلك من مؤسساتها، لقهرها على العودة إلى حظيرة “النظرية.”
بعد أن تخلص”الغرب” من الميتافيزيقا وتبنى الواقع التجريبي، تسكنه الشكوك الدائمة تجاه تعميماته التي قد تنهشها فوضى الهروب من حظيرة “السلطة”، فتوسل”الغرب” بالمقولات الشعرية لوضع فرضيات لا ظواهر لها، فوضعوا للفوضى نظرية تفسر عشوائيتها، وأن هناك نظاما خفيا غير ظاهر وراء تلك الفوضى المفترضة الحدوث، لم يكن هذا التوجس إلا توجسا من”المتبقى من الظاهرة الذي لم تتمكن نظرياتهم من تطويعه لحسابها، فظل حرا من إكراهاتها يهدد ما صدقاتها ولو كان نتائج تجريبية…”.
فند د”الجزار” بمنطق محكم البناء العلاقة بين النظرية والسياق التاريخي والاجتماعي، وأوضح بجلاء لا لبس فيه ما تمارسه “النظرية” من خداع وتعمية أيدولوجية مقنعة بالابستمولوجيا، إلا أنه لم ينكر العلاقة بين طبيعة”النظريات” وطبيعة مجتمعاتها.
تقع النظرية على قمة البناء الفوقي كانعكاس لواقع المجتمع التحتي(الاجتماعي والاقتصادي)، فالنظرية مجرد انعكاس لما تفرضه البنية التحتية، فالنظرية، بتبسيط شديد، ابنة مجتمعها، فكيف هاجرت كل النظريات الغربية إلى مجتمعاتنا العربية لتمارس سطوتها حتى على ما تبقى للذات العربية من حرية في ممارساتها الشعرية.
هاجرت تلك النظريات من مجتمعات غربية صالح واقعها ماضيها، وخرجت من كل المآزق الفكرية من صراع بين الحداثة والتراث، هاجرت لمجتمعات عربية لم تزل تعيش بمنطق القبيلة وشيخها التي لاترد له كلمة، لاتكاد تطفو من ثقل أزمات الصراع بين كل وجود ونقيضه، لم نغادر بعد منطقة فهم التراث فضلا على مصالحته بالواقع، لايزال الحل لأي صراع هو القوة الغاشمة، ليصبح أقصى طموح ممكن أن تمارس “السلطة” قوتها بقدر ولو ضئيل من النعومة القائمة على الإقناع، استوردنا نظريات “الشعري” وبعد لم نتفق على ماهية “الشعري”، حتى لم نتفق على موقع الوارد الغربي وتحديد دوره لنحيا ممزقين وسط كل التناقضات دفعة واحدة وبلحظة واحدة.
يختم د.”الحزار” بمرارة واضحة:
“إن استهلاكنا للمنجز الغربي-علما ونظريات-، كان إذعانيا إلى درجة عدم الاكتفاء بهذا، بل تعداه إلى حد تبنينا للاهوتهما الخفي، والأكثر فداحة عدم فهم الاثنين أصلا:النظرية ولاهوتها. كان تلقينا لها إذعانيا، وهو ما لم يفدنا كما لم يفد النظريات نفسها بالذي افتقرت إليه نظرا لطبيعة سياقاتها، متعمدين ألا يكون لنا دور في الحضارة الإنسانية بما نضيفه إلى منجزاتها. وأكثر فداحة أن يعمم هذا من العلوم الطبيعية إلى الإنسانية، ووصولا إلى “الشعري” حيث مساحة الحرية الوحيدة المتاحة للذات العربية.”
“7”
ينتقل د”الجزار” إلى نقد صورة أخرى من تجليات “السلطة” ومؤسساتها العامة والخاصة ألا وهي”المصطلح”، فبعدما وجه نقده وهجائه ل”النظرية” كمخلب قط ل”السلطة” يقف حائلا دون ممارسة الذات تفاعلها الحر مع الظاهرة، حتى حلت “النظرية” محل الظاهرة ذاتها، فإذا استلبت”النظرية” حق الذات بالتفاعل الحر مع الظواهر، فلقد تحولت “الذات” المبدعة أو المتلقية أو حتى الظاهرة إلى مجرد”مصطلح” بارد فقد كل مظاهر الحياة.
“المصطلح” الممتنع عن التناول من قبل اللغة ذاتها، والذي تحول بعد اكتساب صفته الاصطلاحية إلى سلطة هو الأخر، سلطة تمارس فعلها على اللغة، وتتعالى حتى على “المفهوم” والمعجم، وبمجرد أن يضع الاختصاصيون المفوضون سلفا من قبل”المؤسسة” مصطلحا، فإنه يكتسب “سلطته” من “سلطة” النظرية، من “سلطة” المؤسسة الخاصة استنادا إلى تفويض المؤسسة العامة (الاجتماعية) لها.
يقول د.”الجزار”” أما المجتمع المالك الأصيل للغة العامة التي تم تخصيص إحدى كلماتها، فليس له إلا أن يذعن لما أقروه، وكذلك ألا يتدخل فيما اختلفوا فيه إلا بشروطهم(…) هكذا وبكل عنف 《لا يحق لأحد المساس بها》، عنف السلطة في فرض قوانينها سلبا للحق وتعميما لهذا السلب. “
يتساءل د”الجزار” عن حقيقية تواضع “مصطلح” ما وما يقوم عليه من مفهوم، ويقر بأنه يخرج عن تطابقه كحقيقة مع العقل، وعن تطابقه مع العالم، ليصبح تطابق لغة مع لغة بين لغة المصطلح ولغة المفهوم”وقبل الشروع في بحث الحقيقة المصطلحية، علينا مناقشة هذا التطابق الذي لا تسنده اللغة نفسها، وربما احتجبت عليه.” يضرب مثالا بتعريف”القمر” معجميا، وأنه كلما توسع المعجم في التعريف أضاف تفاصيل جديدة متطابقة مع العالم الفيزيقي من مجرد “نجم”، وإذا توسع المعجم أضاف بكون “القمر” يظهر ليلا في مواقيت بعينها من الشهر، وإذا توسع المعجم أكثر تكلم عن المجرة التي تضمه وغيره في فلكها، “إننا هنا في دائرة واقعية يمكن الزعم بحقيقة مطابقتها للواقع حسب الحس المشترك.” وإذا انتقلنا إلى علم الفلك كانت هناك إضافات واقعية أكثر تفصيلا وهكذا، “هنا تطابق الكلمة الواقع وبتوسط العلم التقني.”
” وبالرغم من كل هذا فالكلمة(القمر) ليست مصطلحا، ومحمولها حقيقة لغوية وواقعية وعلمية. لكن كل ما سبق تم بين كلمة وشئ، وليس بين كلمة(مصطلح) وعبارة من كلمات(مفهوم)، فهل ثمة موضع للحقيقة هنا؟ أعتقد أن الإجابة بالنفي، وهذا النفي حامل للدلالة التي يتغاضى عن ذكرها الاختصاصيون، أعنى الحقيقة، في حالة المصطلح، ليست أكثر من تواطؤ لا علاقة له مع أي شئ، فقط إرادة المتواطئين عليه، إنها نوع من الا حقيقة المفيدة لخطابهم، وذلك لمنع مساءلته لاغير…”
ولترسيخ سلطة الاختصاصيين المطلقة على موضوعهم جعلوا التساؤل عن كيفية وضع التعريف من المحرمات الممنوعة، وإنما من الشائع طرح سؤال الماهو بدلا من السؤال عن الكيفية.
السؤال عن الكيفية يكشف آليات المعرفة في بناء خطاباتها، فيصر د”الجزار” على سؤاله عن كيفية وضع تعريف “المصطلح” بل ويتوغل في الأسئلة المحرمة من قبل “المؤسسة” وذويها، ويسأل عن كنه الواضعين ل”المصطلح”، كيف يتم التعريف؟، ومن يقوم بالتعريف؟
هم مجموعة الاختصاصيين، بمعيار اعتراف “المؤسسة الخاصة” المستندة إلى تفويض “المؤسسة العامة”، لا بمعيار مجرد حذق التخصص.
وتظل عمليات انتاج العلم أو المعرفة قاصرة على جنبات “المؤسسة” تتم داخلها فقط، بإطار التزام خفي بأيدولوجيتها.
يبرز”المصطلح” كأحد لوازم “النظرية” لا”النظرية” ذاتها، كعتبة مقدسة ينبغى على من يتخطها ممارسة كافة الطقوس الإذعانية.
ويُراعى حين وضع المصطلح وجهين أحدهما علمي بنيوي متعلق بالنظرية، وخلق التناسق والترابط بين وحداتها، وملأ الثغرات.
والوجه الآخر ترويجي وبالرغم من لغته العلمية إلا أن وظيفته خطابية، وبقدر التداخل بين البنيوي والخطابي “تتسع المسافة بين المصطلح والحقل العلمي أو المعرفي للنظرية، وتضيق بينه وبين المؤسسة التي تعضد النظرية فرضه.”
لتتعدد الموانعُ الحاجبةُ الذَّاتَ انفعالها الحر مع الظاهرة، لتحل “النظرية” محل الظاهرة موضوعها، وتقف مصطلحات “النظرية” على عتباتها لتصبح حجابا ثانيا.
ليُؤزِمَ العلم أو المعرفة اغتراب الإنسان بدلا من تخفيضه، بل يستلب بسلطويته وجودنا بتناولنا كظاهرة فيحل محلنا.
لا تكاد تختلف النظرية الأدبية عن النظريات العلمية بولعها بذاتها، وامتلاكها مصطلحاتها البنيو-خطابية، مكبلة للذات وسالبة لحريتها.
بل إن وطأة النظرية الأدبية أشد بتناولها الوجود بشموليته، وفرضها أسمائه بمصطلحاتها، وادعاء امتلاك رؤية تتطابق جوهره.
والأشد فداحة تسلطها على أخص الممارسات الإنسانية المتعلقة بالوجود وكينونته فيه، تتسلط على “الشعري” فتحدد موضوعه وتعريفه، وإذا ما تحدد موضوع الشعري وتم تعريفه من قبل النظرية الأدبية فكل ما يليه سيكون مجرد تحصيل حاصل. لتجني “النظرية” وعتباتها “الاصطلاحية” ذراعا “سلطة المؤسسة” الأقوى على الملجأ الأخير للذات الإنسانية”الشعرية”.
“٨”
واحدة من أعقد ألعاب اللغة أن تجمع متناقضين في مركب وصفي واحد، ثم هي قادرة على إنتاج دلالة رغما عما يحمله المركب من تناقض ظاهر.
يعنون د.”الجزار” للفصل الثامن ب”الشعري وألعاب المؤسسة الأدبية” ليجسد ما تحدثنا عليه من تناقض قادر على إنتاج دلالة، ف”الشعري” بممارساته المتمردة على قيود “المؤسسة” لايجتمع معها في عنوان مركب بأي دلالة توافقية. والمؤسسة بكل ما تجسده من”قوانين مراقبة، ونظم ضبط وآليات تحريم وتجريم بصفة الأدبية، وهي صفة محكومة بالحرية.”
وحين تبنت”المؤسسة” تعريف”قدامة بن جعفر” منذ ألف عام، حين عرف الشعر قولا موزونا مقفى دالا على معنى، لم تمانع المؤسسة بخروج الشعرعن تعريفها المعتمد “وخروجه على أغلب عناصرهذا التعريف”، الأهم لدى “المؤسسة” بقاء التعريف وسريان قانونيته، لتلعب”المؤسسة” فهي بالرغم من صرامتها الواضحة لا تمنع نفسها من “اللعب” لكنه لعب كالجد، مثل ضحك”المتنبي” الأشبه بالبكا، لعب فُرِضَ على المؤسسة، في ظني، لتضمن لذاتها قدرا من المرونة الازمة لبقائها، فمرونة”المؤسسات السلطوية” ضمانة استمراريتها، بل الضمانة الوحيدة لاستقرار ممارساتها، في ظل كل محاولات التمرد من قبل العناصر الامنتمية المعادية.
ولعب “المؤسسة” حيال الممارسات الشعرية الامنتمية لتعريفها سحيق القدم يمارس على الطرف الثالث: المتلقي، وقاعدة”لعب المؤسسة” بهذا الصدد؛ إن لم تتمكن من وأد الممارسة”فلا تضح بمتلقيها، وهنا يكون من ضرورات المؤسسة استدامة كل القوانين دون اعتبار لعدم ملاءمتها لواقع الممارسة.”.
بعد قمع بعض حريتها بسلطة”النحو”، أحد أقوى آليات الضبط والمراقبة لدى “المؤسسة”، يستلب، ظاهرا، إنتاجيتها، فتلعب اللغة “لعبة التخفي”، ليقدمها النحو للمؤسسة فارغا من أي معنى، وتنفلت”اللغة” للقاء المتلقي، ليقع بين محاولة تحكم من جهة المؤسسة، وغواية من جهة اللغة.
ماهية اللغة أو لعبتها شعرا هي أكثر دفاعاتها مصيرية عن تلك الماهية ذاتها، تمارس اللغة استراتيجية التحجب والتكشف، تمحو الحد بينهما تارة، تزيده وضوحا تارة، فإذا داخلته المؤسسة لم تكد تعرف ماذا تراقب وتضبط داخل تلك المتاهة اللغوية الملغزة”دائبة الحركة أفقيا ورأسيا فلا تكاد تسكن…حركة تجيد صناعة المحتمل في الوقت نفسه الذي توهم بوجود يقين ما في مكان ما من ألعابها…”
تفلح اللغة بخداع”المؤسسة”، فالمؤسسة، كاختراع إداري منظم لممارسات ضمن اختصاصها وفقا لقوانين مأخوذة من الممارسة نفسها، “كفائتها قانونية، وليست لغوية، وقدرتها قمعية وليست دلالية.” ولذا تم خداعها بألعاب اللغة بالتنازل عن جزء من حريتها”للنحو” مقابل المرور خلال بوابات “المؤسسة” الاعترافية، لتلتقي اللغة بحملها الدلالي المتمرد والمتخفي على قاعدة النص، والنص فقط، مع المتلقي عشيقها السري بعيدا عن أعين “المؤسسة” المترصدة، والملقية شَرَكَّها هي الأخرى لاصطياد ذات العشيق السري/المتلقي.
القمعية المتسربلة بقانونية جائرة، والخداعية الحاذقة المتخفية لنيل حريتها، والتنافسية على الاستحواذ بولاء المتلقي، عناصر نص من كوميديا الفارس Farce يؤديها ممثلو”المؤسسة” ومهرجوها، والمبدع الامنتمى بلغته ذات الدلالات المتخفية ليهمس بها سرا بأذن المتلقي المَعنِى في المقام الأول باللذة والمتعة.
وبالرغم من ما مورس من خداع ولعب، وقصديات وتأويلات، ودلالات متخفية، وسلطات ممارسة، وتحايلات بارعة، تبقى”المؤسسة” لتمنح أو تمنع، لتهب أو تحجب صكوك الاعتراف فهذا أدب تتبناه وتدير له الدراسات والأطروحات وتروج له الفضائيات والمجلات، وذاك أدب محاصر منفي محكوم عليه بالاحتضار حتى يصير في حكم الماضي، هذا أدب “خال من التهديدات إما بكونه ماضيا، أو لأنه فعليا كذلك، مجرد أصوات لا هدف لها ولا غاية من وراء وجودها، أدب خرج من لعبة اللغة فهو مفرغ من ثوريته/أدبيته. أما الآخر فغير قابل للتدجين في حظيرة قوانين المؤسسة…”.
ثم تسليط آلة الاقتصاد الجبارة لتنحاز لأدب”المؤسسة” وتطويع آليات السوق من طبع ونشر وتوزيع وإشهار وحفلات توقيع، ليصير ذلك كله من مفردات الخطاب الأدبي ذاته.
ليتساوى الأدب الجيد والردئ بمجرد دخولهما حظيرة”المؤسسة الرسمية” وتسخير آلياتها الجبارة لصالحه.
يجمل د.”الجزار”: وحده “الشعري” نقيض بديهي للمؤسسة وقوانينها وأفعال مراقبتها وضبطها. ويبقى ممارسة فردية بامتياز، فهو لايوجد حيث المعنى القابل للضبط والمراقبة، بل حيث اللعب ولذته. وماكان أبيا على التعريف إلا لكونه كذلك، فكل نص من نصوصه يحمل تعريفه الخاص جدا له. والمؤسسة الأدبية، كأي مؤسسة قانونية، لا تعترف إلا بما هو عام أو قابل للتعميم.
لما كان”المعنى” مراقبا مقموعا، أمسى”اللعب خارج المعنى” هو قاعدة “الشعري” الوحيدة والممكنة، و”خارج المعنى” “ليس سقوطا في الامعنى، إنه خارج المعنى بكل ما تعنيه الكلمة(…) حيث كل أصناف الغوايات: المهمل والمهمش والمدان والامتحقق والامعترف به والاقاعدي، وحيث كل المكبوت والذي لايقال ولاينبغي قوله…”.
وفي النهاية يؤكد د.”الجزار” أن نظريات النقد ومناهجه من أخطر تهديدات المؤسسة الأدبية للممارسات الفردية الإبداعية ونصوصها، توطئة لمنحها أو منعها صك الاعتراف المؤسسي ومن ثم الاجتماعي.
ليظل”المتبقي” هو الجزء الوحيد من اللغة المحتفظ بطبيعته، والممتنع تماما عن الإذعان.
وتطل بسمة التفاؤل على ثناياه فيهمس د.”الجزار” “وهذا ما يمنحنا الأمل، فما يزال الشعر يواصل تمرده وقادر على التحقق برغم عنف المؤسسة.”.
ويبقى فعل التسمية تسمية الشعر شعرا، الشئ المؤسسي الوحيد الذي تعمدنا عدم مواجهته، “فلاشك أن فعل التسمية ينطوي على أيديولوجيا، وكل أيديولوجيا نقيض بديهي للحرية. وبالتالي، فهي صناعة المؤسسة…”.
“٩”
يناقش د”الجزار” في فصل”الشعري وأيديولوجيا التسمية”، فلسفة “الاسم” وتاريخ تناوله، من البدايات القرآنية {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} ولكون الاسم ما دل على معنًى في ذاته مجردًا من الزمن، فقد ناسب هذا التجريد أن يكون أول العلوم المُتَلَقَّاة من لدن الله، عز وجل، لآدم، عليه السلام.
“وقد تعددت وجوه التأويل في كلمة(أسماء)…” من أنها مجاز جزء/الأسماء من كل/اللغة، أو أن النصية القرآنية ل”الاسم” دون أخويه الفعل والحرف، كان لشرف “الأسماء” وقيام اللغة على خدمته.
وفلسفيا ف”الاسم” مركز لصلة الإنسان بالعالم فتشيؤ المعنى في عقل الإنسان يبدأ بتسميته، حتى وإن تشئ بوجوده قبل وجود الإنسان، وعليه ف”الاسم” محل مواضعة متجددة لا تتوقف كلما طرأ على عقل الإنسان طارئ ذهني، فضلا عما يُستجدّ وجوده بمحيطه الفيزيقي، وحياته الاجتماعية.
يقول د.”الجزار””ففعل (التسمية) ضرورة من ضرورات الوجود، وبه تكتمل اللغة، ويواصل هذا الفعل إثرائها بأشياء جديدة تدخل إليها من خلال أسماء جديدة يُتواضَع عليها، فيصبح الوجود أكثر اتِّساعًا، لغةً وأشياءً، مما كان عليه حاله من قبل، وذلك لأن اللغة《بمجرد تسميتها للأشياء تتيح لها الخروج إلى الوجود》”.
ثم يناقش العلاقة الصوتية ل”الاسم” ومرجعه الواقعي، فينفي وجود علاقة بين الاسم وصورته الصوتية، وما ترسخ في الذهن الإنساني من مرجعية للأسماء.
فالعلاقة بين “الاسم” وصورته الصوتية علاقة تعسفية(اعتباطية). وكل تعسف تقف وراءه سلطة ما، لذا كان الانفعال الإنساني الحر للذات المبدعة بتلك العلاقة التعسفية بين الاسم وصورته الصوتية، كما في الشعر، مصدرا من مصادر تهديد وجود السلطة.
ومنح”أفلاطون” سلطة جبرية للطبيعة على اللغة، وفرق بين “وجود الشئ لغةً ووجوده واقعًا وبالتالي، غاب عنه حقيقة ما يقوم على إدارة الوجودين: اللغة والأشياء، ويحرس حدودهما من مغامرات الذات لإقامة علاقات معللة بينهما…”.
وبعد هذا التطواف حول فلسفة “الاسم” ينتقل د.”الجزار” إلى اسم”الشعر” ويتسائل لماذا رُفِع لمستوى الاصطلاح، “وما الذي يدعم أحادية الإحالة ويمنع تعددها أو اشتراكها الدلالي؟…” يستقرأ د.”الجزار” الواقع المعجمي فيكشف تناول “لسان العرب” دلالات وتصاريف اسم”الشعر” على مدار خمس صفحات كاملة بخمسة عشر عمودا من “علم”، “منظوم القول”، “ما ينبت على جلد الإنسان”، “النبات والشجر الملتف” “نوع من اللباس يلي الجسد”، والعلامة: علامة القوم في حربهم وسفرهم، ما ينبت بين حافري الدواب، البُدن المقدم هدايا، المناسك، قبيلة عربية، نوع من الذباب، الشعير، الخوخ…وتصاريف المدخل المعجمي يستنبط منها مفهومًا أو فكرة شعَر ، أَشْعَرَ ، شَعَار ، شِعَار ، شَعران ، مَشْعَر ، شَعْرَاء ، الشَّعْر ، شَعِير ، شَعِيرَة ، شُعرورة ، شَعَارير…
ليدلل بذلك أن كل هذا الإطناب المعجمي يدل على مركزية كلمة “شِّعْر” بالبيئة العربية، ومدى تمكنه من واقعه ووعيه.
ويربط د.”الحزار” بين الدلالت المعجمية والقرآنية فيقول:”وبتفحص الدلالات السابقة، لانجد ثمة رابطًا بين دلالة “الشِّعْر”(منظوم القول) وبين الدلالات الأخرى اللهم إلا دلالة(العلم). ولذا يشيع في كل أصناف أقوالهم حتى في الحديث النبوي الشريف《ليت شعري》بمعنى《ليت علمي》وقد نفهم، على ضوء دلالة العلم، قوله تعالى {والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَأَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، لنفي صفة العلمية عن الشعر وعن نسبة الشعراء إليه، وبالتالي لايتبعهم في أمور دنياهم إلا من ضل عن حقيقة الفرق بين الفن والعلم. إنها مواجهة قرآنية مع الخلط الدلالي بين الشعر والعلم. ويروي الطبري، في تفسيره{فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} عن مجاهد: في كل فن(واد) يقولون(يهيمون) ولعل ظلال حرية الشاعر تتبدى من هذا التفسير الأقرب جدا لظاهر اللفظ دون سواه، كذلك يلائم ما ذهبنا إليه في الآية، من إفراد القرآن الكريم العلم من الشعر…”
وثمة آية أخرى في القرآن تناولت “الشِّعْر” بلام العهد{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} أي ذكر من حيث المضمون(وليس هياما في كل وادٍ/فنًا)، وقرآن من حيث الشكل(وليس قولًا منظومًا، وما يهمنا أن حضورَ كلمة(الشِّعْر) هنا حضورٌ له قوة الاصطلاح، فقد وُضِع بإزاء مصطلحين لا كلمتين لغويتين (الذكر) و(القرآن).
ويستنبط د.”الجزار” عناصر مصطلحية لكلمة(شِّعْر) في الآية الكريمة، في النقاط التالية:
*ممارسة لغوية محددة.(أساس لم تنص عليه الآيات لبداته)
*لاغاية لها-(يهيمون)
*يغلب عليها الخيال-(يقولون ما لا يفعلون، أي إنه قول خالص)
*متعدد الأغراض/الفنون-(في كل وَادٍ)
لم تدان هذه الرؤية الأكثر رحابة وفينة غير رؤية فلاسفة المسلمين الذين اعتمدوا الخيال في الشعر، فلم يسلبوا”النثر” شعريته إن احتوى على عنصر الخيال، فكان ما خلا من عنصري الوزن والقافية وصار مُخَيَّلًا، فسموه (الأقاويل الشعرية).
إلا أن ترسيخ القرآن لهذا الفهم للشعر قد حول رؤية العرب الجاهليين للشعر والشعراء والتي قال عنها سيدنا عمر بن الخطاب،رضي الله عنه،(كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه). وصدقه ابن سلام، أول نقاد العرب بطبقات(فحول) الشعراء،(وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون.). ولم ينفي حد قدامة للشعر أن يُحَمَّل بدلالتي العلم والفن.
ويوضح ترسخ العلمية بالشعر فعل العرب المتأخرين نظم كافة العلوم الدينية والعلمانية بمنظومات شعرية فكان الشعر بفنيته وأيضا بعلميته. وإن كان من المناسب، في ظني، إطلاق اسم(النظم) لا (الشعر) على هذا النوع من الكلام الموزون المقفى والخالي من الخيال والعاطفة.
وبعد هذا التطواف التاريخي يعود د”الجزار” إلى أيديولوجيا التسمية…فالاسم يطلق على ممارسة إنسانية لا على أشياء كشجرة أو قمر أو بحر وغيره من أسماء الأجناس المتواضع عليها.
وكونه ممارسة إنسانية فهو خطاب ايديولوجي تقره وتحميه سلطة ما من خلال آليتي الاستيعاب والإقصاء.
فإن انتمى الشعر إلى الممارسة الإنسانية ضاد السلطة فكان مصيره الإقصاء.
وإن عبر الشعر عن الحقيقة مقابل الخيال، وتبنى المعنى في مواجهة الفن، وكان مجرد اجترار وتكرار يعيد نفسه استوعبته السلطة وتبنته.
لتصبح مأساة الشعر في تراثنا أنه اُتخِذ وسيلة لإثبات إعجاز القرآن ترسيخًا لوظيفته العلمية واستبعاد الوظيفة الفنية، في ظل صراع المقولات بين الأشاعرة والمعتزلة بشأن إعجاز القرآن.
فكان “الشعر” عند أسلافنا وسيلة لا غاية، وعليه فقد تم استلاب الشعر أحد جناحيه وهو الفنية.
يقول د.”الجزار” : وحين تصبح العقيدة غاية درس الشعر، فلابد أن يكون العلم بالشعر مقاييس حكم، وقواعد ضبط، وأدوات مراقبة. ومن ثم تتشكل سلطة ذهنية تقوم مقام السلطة الفعلية في أفعالها، فتحتوي وتقصي وتقمع. ولكي تبلغ مأساة الشعري ذروتها التراجيدية، فلابد من الاصطلاح، فيصطلحون على تلك السلطة الذهنية باسم (الذائقة الجمعية) وهي ذروة تراجيدية بلاشك. لأن الشعر-ككل الفنون- إبداعه فردي وتلقيه فردي كذلك، ومحاكمته إلى صيغة جمعية- وإن كانت الذائقة الجمالية- هو إفراغ له من شعريته/فنيته، وصب فرديته في معنى اجتماعي(جمعي مطروح في الطرقات) موزون مقفى وحسبه وصفه ليكون مجرد وسيلة لها غايات متجاوزة لها. وكما كان الشعر وسيلة دينية لفهم القرآن الكريم قديمًا فليس غريبًا أن ظهر حديثًا ما سُمِّي《الرابطة العالمية للأدب الإسلامي》وتم إصدار مجلة محكمة لها، والرابطة ومجلتها ثمرة خطاب قديم لم ننتبه إلى أنه يتحول ببطء عبر الزمن إلى مخزن أفكار قابلة للانفجار في وجه كل مختلف.”.
“١٠”
“من جنيات نظريات الحداثة وعلاقتها بالمدارس اللسانية(مصطلح النص)، ومن جنياتنا نحن العرب نسيان أننا ننتمي إلى تراث ضخم لن يعجزنا أن نجد فيه مُعادِلًا أكثر انضِباطًا مفهوميًا وفي الوقت نفسه حُرًّا من إكراهات أية مدرسة لسانية…”
وفي فصل”مصطلح النص، ونص الشعري” يُطَوف بنا د”الجزار” حول مصطلحات “النص” و”العلامة” والعلاقة بينهما في تراكماتهما الحداثية الغربية، ثم يُلْقِي الضوء على مساهمات التراث العربي الفذ السابق عصره بشأن ذات المصطلحين المركزيين في علوم السيمياء واللسانيات، وتاريخ النقد الغربي مناهجه ونظرياته.
يبدأ د”الجزار” بمصطلح “النص” عند الغربيين المحدثين، ويقرر أنه ملتبس متداخل، وفي ذات الوقت مريب يدعو للتوجس والريبة.
وعلى حد تعبيره” فالنص فضاء تتقاطع فيه عديد من ملفوظات نصوص أخرى وتتداخل، وهو آلة كسولة تتطلب من القارئ جَهدًا تعاضُديًا كبيرًا لملء فجوات ما لم يُقْل وهو سلسلة مؤلفة من جمل حسنة التكوين، وهو نظام ذاتي التنظيم، فهو لا يني يقوم بتنظيم وظائف وقائعه المكونة له، وهو حقل للمنهجية، وهو يمكنه أن يتطابق مع جملة، كما يمكنه أن يتطابق مع كتاب كامل…”.
ف”النص” هو كل ذلك فضلًا عن تعدد تعريفاته، تَعَدُّدًا لم يتوفر لأي مصطلح آخر، وكأنهم قد تواضعوا على مصطلح ثم أسقطوا عليه كل رؤاهم واختلافاتهم وقَبِلَها المصطلح.
فقابلية المصطلح”نص” لكل ذلك، بل ولكل شئ هو ما يجعله مصطلحًا مُرِيبًا بل يجعله لا شئ على الإطلاق.
اتفاق الفرقاء على مصطلح”النص” يشير إلى تواطؤ ما، ثم إجماعهم “على أن كل ما هو لغوي نص، ويكون(الشعري) من بينها، شيئًا من هذا الكل شئ، دونما تمييز له من بقية الأشياء وقد تناول العرب الأقدمون “النص” على مستويين أحدهما معجمي، والآخر أصولي نسبة لعلم”أصول الفقه”.
معجميًا كان “النص” هو الظهور، ومنه《منصة العروس》. والرفع، ومنه:《نصت الظبية رأسها》، ومنه 《نص الإبل》أي استخرج أقصى قدرتها على السرعة، وأصله منتهى الشئ ومبلغ أقصاه.
أُصُولِيًّا كان “النص” ما ازداد وُضُوحًا على الظاهر لمعنًى في نفس المتكلم لا في نفس الصيغة. وما دل على معنًى قَطْعًا وإن احتمل غيره، وما دل على معنى كيف كان.
يقول د.”الجزار”: ولأننا خارج مقاصد الأصوليين، وبصدد تأسيس عربي لمصطلح “النص” فلا يجب إهمال الدلالة اللغوية لحساب الدلالة الاصطلاحية التي لا تعدو-ونحن خارج مقاصدها- دلالة استعمالية تضئ على الدلالة اللغوية، كما لا شئ يمنع من الاختيار منها. وإذن، ف”النص” يقوم على عدد من الدلالات اللغوية: الظهور-الرفع-بلوغ الحد- الدلالة على معنى كيف كان.
وبخلاف (النص) المتواضع عليه بضرورة الاصطلاح، كانت (العلامة) الكائنة بضرورة الوجود، الموغلة بتاريخانيتها قِدَمًا.
فهل كان هذا الوجود الطبيعي الطاغي لل”علامة” والمشير إلى ذاته حتى قبل التواضع على مصطلحه، هو ما أجبر الفرقاء، كالسيميولوجين الفرنسيين بفلسفتهم النظرية، والسيميوطيقيين الأمريكانيين وميولهم التحليلية التطبيقية، بالتوافق على مشترك مفهومي، على عكس الوضع في مصطلح “النص”.
فهل يمكن مقارنة العلامة بالنص؟ ثمة فارق يتجسد بكون العلامة ذات أصل طبيعي فرض نفسه على الخطاب الثقافي عن العلامات، وتحديدًا في التمييز بين أنواعها.
هذا التموضع الطبيعي لل”علامة’ كان السبب الحقيقي في تناول ثقافات غير غربية لل”علامة” حتى وإن لم تعرف السيمياء ولوازمها، كالثقافة العربية. باقتدار لخص الجاحظ، بالقرن الرابع الهجري، ما قبله من مقولات أرباب علم عربي مركزي هو “أصول الفقه”، وأضاف اصطلاحاته السابقة لعصره فحصر الدلالات في خمس لا تنقص ولا تزيد هن اللفظ، الإشارة، العقد، الخط والنصبة. ويضيف: ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها، وحيلة مخالفة لحيلة أختها، وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة، ثم عن حقائقها في التفسير.
وحين أشار الجاحظ لل”دلالة” على المعنى فقد قصد “العلامة” دون تزيد منا أو افتئات.
وحينما سرد الجاحظ أمثلته الشعرية لتبيين مقصوده من الدلالات (العلامات) الخمسة، سردها بما برهن على نموذجية اللغة، في مطابقة لرؤية الجاحظ للسيميولوجيين الفرنسيين، في تمثيل أنواع العلامات الدالة على مَعَانٍ مُؤَسَسة على الظهور والرفع، ودلالة على معنى كيف كان، كما عند الأصوليين.
ثمة تداخل وظيفي بين العلامة والنص، فيكون كل نص علامة، وليس كل علامة نصًّا وعليه فالنص غير مشروط بنوع العلامة، فيكون لُغَوِيًّا ويكون أي شئ آخر منتج الدلالة.
يخرج د”الجزار” بعد تلك المقارنة بين ما هو غربي وعربي في تناوله للنص والعلامة بنتيجة “أن التراث العربي كان أكثر وُضُوحًا وتحديدًا في مصطلح النص من الخطاب الغربي الحديث، وكذلك كان على مرمى تأمل من المنجز الفرنسي في السيميولوجيا. ومن المحزن أن نتجاوزه فيما جاوز فيه زمنه، ثم نؤبد معرفته التي كان فيها مُخْلِصًا للحظته التاريخية مُقَيَّدًا بظروفها وملابساتها!”
كان التمثيل الشعري عند الجاحظ مُوَافِقًا لرؤية د”الجزار” في هذا الكتاب. فكأن الجاحظ “كان يرى أن الشعري هو الأصدق تَمْثِيلًا للعلامات، أيَّا كان نوعها.
فكان النموذج السيميائي عند الجاحظ ليس اللغة ولسانياتها، وإنما الشعري وجمالياته، بما هو عبر لغوي وإن تموضع داخل اللغة ليعيد توزيع نظامها. “.
وحده “الشعري” “يحفظ على العلامة ماهيتها كسيرورة تدليلية لامتناهية”.
وحده”الشعري” “تكون فيه العلامةُ علامةً بحق، والنسق الممكن الذي يمكنه تمثيل جميع أنواع العلامات وأنظمتها.”.
ف”العلامة” لا تأمن غير الشعري، لأنه مساحة اللعب المفتوح للعلامة من أي نوع، وهذه المساحة هي ما نسميه”النص”.
يُجْمِل د”الجزار” فيقول: إن النص هو الشعري، والعلامة لا تكون علامة في غير “الشعري”.
لم تظهر عروبية د”الجزار” الأصيلة أيديولوجيةً وإلا تخلى عن صفته كمنظر لا يُشقّ له غبار، وإنما تجلت نزعته العروبية كنتيجة بحث حيادي وموضوعي لم يَحِدّ عن أصول البحث الموضوعية الثابتة. وليست “عروبية” عمياء أشبه بالانتماء القبلي، وإنما عروبية كنتيجة لموازنة منطقية بين ما تقول به النظريات الغربية، وما بلوره التراث العربي من نظرة سابقة لعصرها حيال اصطلاحات ونظريات غربية حديثة، سابحة في استقراء المستقبل لا ملتصقة بالظرف التاريخي ظروفه/ وملابساته.
يقول د.”الجزار”: الحقيقة أن التراث العربي يتميز بسمة ربما لم يتمتع غيره من التراثات الإنسانية بها، هذه السمة هي الإبداعية الذهنية التي أفلتت أفكارًا على قد كبير من الأهمية في سياقات بِنَاء العلوم، ولعل هذه الأفكار أكثر حرية من السياقات التي وردت فيها.
“١١”
إضفاء حياة على ما لا حياة ظاهرة له، كان ديدن د.”الجزار” بفصل “مأساة الكلمة…ملهاة المعنى”، تلك الروح الصوفية المحلقة في عالم الرمز، وما يحيل إليه من معانٍ متداعية تداعي الكشف الإلهامي. هل كان هذا تأَثُّرًا “بابن عربي” ونظرته الإحيائية للحروف ومن ثم الكلمات، فالحروف عند “ابن عربي” “أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون” ولكل حرف دلالته منفرِدًا أو في سياق كلمة، وكذلك الكلمة لها دلالتها الذاتية الفردية، والسياقية. وهل كان نزوع “ابن عربي” نُزوعًا فلسفيًا خَالِصًا بصبغ الإلهي بصبغة بشرية معقولة، أم السمو بالبشري وصبغة بصبغة إلهية علوية، أم كان محض تصور قائم بسياق شعري تخييلي في إطار إشراقي قائم على الكشف الوهبي لعوالم جديدة اختص بها الإمام.
وتظل مسألة تأثر د.”الجزار” ب”ابن عربي” مسألة بحث تكشفها مصنفاته، خاصة المتأخرة منها.
وعنوان الفصل فضلًا على ما به من نزعة “إحيائية”، ففيه إشارة على وجود علاقة مأزومة بين الكلمة وما تحمله من معانٍ لانهائية التولد، بتعدد السياقات من جهة، وتعدد تأويلات المتلقي من جهة أخرى، فمأساة الكلمة في لامحدودية دلالاتها الهشة القلقة، وكذا جذورها التاريخانية الممتدة، وملهاة “المعنى” في جنوحه الماجن نحو التعدد والتمدد الانهائي.
هذا الأرق والقلق الملازم علاقة الكلمة بالمعنى هو ما أسس لوجود “الشعري” فهو وحده القادر على استبراء الكلمة من كل محمولاتها التواصلية، ودلالاتها التاريخية، ليستعيد “الشعري” هشاشة الكلمة وقلقها حينما كانت بِكرًا بعدُ لم يمسسها إنسٌ.
ولعل الإقرار، بأن ” أصدق ما في اللغة وحداتها الوظيفية أو الفارغة من المعنى، وكذلك اسم العلم فالوظيفة محددة سَلَفًا وحتى إذا ما تُبودِلت الوظائف فيما بينها، فيما يُزعم أنه مجاز الحرف، تظل الوظيفة الجديدة محض وظيفة ليست مَحَلًّا للخلاف أو الاختلاف.”، تجسيد لمأساة بحث الكلمة الدؤوب عن هوية مستقلة لها.
مأساة الكلمة،(في استخدامها المعجمي)، “التي لا يكف الإضافة لها، ولا تكف هي عن الاتساع عنه هربًا منه، بلا حد لاستيعاب هذه الإضافات ولا نهاية لهربها.”
ثم تتكشف المأساة ببعد جديد. فهي، أي المأساة. لا تكمن فقط في المعجم وعلاقته بالكلمة، وإنما في انطباع المتلقي” فغاية أمر المعجم أن يضع كلمة في مقابل أخرى، ونحن الذين نرشح من توازي الكلمتين طباعيًا ما نسميه دلالة معجمية. وإذا ذهبنا إلى المدخل المعجمي للكلمة الأخرى وجدنا كلمة ثالثة يهز توازيها الطباعي ما حصلنا عليه سلفًا من دلالة. وهكذا يسلمك مدخل معجمي إلى آخر فآخر فثالث…”
المأساة في الاستخدام نفسه من يسلب الكلمة طمأنينتها الدلالية، فطبيعة الاستخدام التعدد بتعدد المستخدمين الانهائيين أنفسهم، كل له مقصده وتأويله، وكذا فإضفاء المعاني”العَنْيُ” يستند إلى خلفيات انثروبولوجية، غير متعلقة بالكلمة، وكذلك بالذات الإنسانية التي تقصد وتعني.
يقول د.”الجزار”: الحقيقة أننا نتواطأ على الدلالة المعجمية في كل مرة نريدها، ولا يمتنع علينا الخروج عليها إذا ندت عنها مقاصدنا، وتحايلنا على دلالة أخرى غير ما تواطأنا عليها في تجربة كلامية سابقة.”.
قوس التأويلات، مع ذلك، غير مفتوح. فحتى بأرحب مجالات الحرية لألعاب الكلمة وهي “الشعرية” فقد تم الاشتراط، غربًا قابليتها للتصحيح بالنظام، وعند العرب، قابليتها التأويل بالحقيقة اللغوية.
حتى أنسنة تأويل دلالات الكلمة له تخوم لابد من التوقف إزائها، وإذا كانت الدلالة “هي كون الشئ بحالة يلزم من العلم به العلم بشئ آخر”، “فيُنَحى الإنسان بجعل الدلالة ناتجة عن علاقات قبلية بين الأشياء أيًا كانت هذه الأشياء.”. “ذلك لأن الكلمة لا تقوم على شئ فيها يدلنا العلم به على العلم بكلمة أخرى، اللهم إلا فيما قلنا أنه الدائرة المعجمية. فلا يقال عن الكلمة بالدلالة وإنما بالمعنى.”.
يغص هذا الفصل المُختَزل لفظًا والمكثف معنًى بإشارات لقضايا تحتاج لتفصيل لا يقدر عليه غير د.”الجزار” نفسه، لعل الزمانَ، بتراكم معارفه، ودأب تكرار المتلقي مُحَاوِلًا وُصُولًا مُشْرِفًا لسواحل تجربة د”الجزار” الكتابية، كَفِيلٌ في يوم ما، ربما يأت بساعة كشف ذهني فك رموز اختزاليتها وتركيبيتها الناتجة عن تراكم معرفي تفاعلي بذروة توقد عقلي لسنين طوال قضاها الدكتور محمد فكري الجزار بحثًا بين جنبات المعرفة والحياة.
“١٢”
“اللغة في جوهرها الحي، لاتعترف بكل ما يقوله عنها أولئك العابسون المتجهمون الذين يطلقون على أنفسهم، ونطلق عليهم علماء اللسانيات. كما لا تنصت إلى جمهور الطائعين لهم المنضبطين على هيئة نظرياتهم مخافة ألا يتم الاعتراف بأفعالهم الكلامية. اللغة تصطفى لنفسها من كل جماعتها واحدا فقط، هذا الذي يأتي اللغة من أجلها وحدها، يأتيها لا يعرف بالضبط ما موضوعه؟ ولا كيف ستكون بداية كتابته؟ ولا متى سيضع نقطة النهاية لها؟ يعرف فقط أن يسلم نفسه للغة كي تمارس، من خلاله وبواسطته، لعبها الحر. وإذ ترفع المؤسسة الأدبية الكلمة(شعر) إلى درجة الاصطلاح لترصد بعض خصائص هذا اللعب، تعجز كل خطاباتها عن تعريف ما اصطلحت عليه.” .
ربما لأول مرة لا يحيل مصطلح مؤسسي إلى أيديولوجيا المؤسسة، وإنما يحيل مصطلح”الشعر” لذاته، لمفهومه، تماما كما تحيل الكلمة لمعناها، في علاقة اعتباطية غير مقصودة لذاتها.
وليبدأ د”الجزار” تلاوة “آياته” “ويسألونك عن الاعتباطية في المصطلح المعرفي؟ فقل: نعم، واعتباط فيه كبير، وتجريد الشعري أكبر لو أنهم يعلمون…”
يقف مصطلح “الشعر” عاصيا كل محاولة لتعريفه على مر تاريخ”الشعري”. على الأقل فهو تعريف مرحلي ينتهي بنهاية الحقبة الزمنية التي يؤرخ لها، لا يبقى في النهاية ثابتا راسخا غير ممارسة الشعر ألعابه الغير منتهية، مهما كانت جدية المشاركين في اللعبة”شعراء، وقراء وحتى مناهج ونظريات ونقادا…وحدها اللغة تتخلى عن جديتها وقوانينها وقواعدها وحتى سلطاتها على المتواصلين بها، وتمارس اللعب الحر، دون أن تأبه بجدية أولئك المعنيين به وصرامتهم النظرية والتطبيقية، بل كلما ازدادوا جدية وصرامة ازدادت حماسا في لعبها، وبشكل لا يكاد يخلو من كيد. والقاعدة الوحيدة التي تتم على أساسها لعبة اللغة-الشعر- هي الخروج على كل القواعد المسبقة.”.
“الشاعر” ذاته حينما يكتب شعرا يتورط بكليته في ذات اللعبة، مندرجا، شريكا، ومراقبا لها. كأن اللغة هي التي تخلق “الشعر” على أوراقه وبقلمه، وقد سلم ذاته للعبة تملي عليه قواعدها المبهمة وغير المعلن عنها سلفا، حتى تنهي رحلتها بنهاية آخر حرف بنصه.
تراه، أي الشاعر، مندهشا بنصه الشعري وكأن غيره قد كتبه وتركه تحت وسادته.
“أما دلالات نص لعبها فليست نهائية، إنها تستقطب إليها كل ما يفتح دائرة احتمالاتها، فييتسع بها النص وتنفسح بالتالي دوائر هذه الاحتمالات. ولايملك القارئ الفعلي معها أكثر من أن يقبض على لحظة الدهشة/اللذة في فردوس الكلمات بحسب (بارت) بدلا من الطموح إلى أبعد من هذا، فلا شئ هناك أبعد أو أقرب.”.
الأسطورة مازالت تسطر حروفها بقلم د.”الجزار” يكتب شعرا بجدارة، يمارس اللعبة بعدما أقبلت طيعة على أوراقه، لتسيطر ذات اللعبة على كل من يقبل مغامرة الإبحار بنصوصه، فتأخذك هزة اللذة اللحظية الخالدة “كالساحرة في الأساطير، لا تمس لعبة اللغة شعرا شيئا، ولا يمسها شئ، إلا تخلى عن خصائصه، والتبس بخصائص اللعبة، ودخل طوعيا فيها حتى(المعنى)…إن سؤال المعنى، في لعبة اللغة شعرا، لا موضع له فهو سؤال يهدم كل الألعاب، سواء كانت ألعاب اللغة أو غير اللغة، الاختلاف يكاد يكون جذريا، بين (أن تلعب) و(أن تعني). لا مراء في أن المعنى لا يفتأ عن الوجود في كل شئ ومع كل شئ جدا كان أو لعبا…”.
ف”المعنى” الذي يصاحب “لعب اللغة شعرا” هو “معنى عرضي طفيلي تستدعيه اللعبة إلى متاهاتها لتسخر من وضوحه، وتربك طمأنينة، وتريه نقيضه فيه هو نفسه، فيتعلم كيف يراوح بين المراودة والمراوغة، وينوس بين التكشف والتحجب، فيتحول إلى واحد من عناصر اللعبة نفسها، على الرغم من وجوده العرضي وما هيته الطفيلية. وليس ثمة ذاتية للاعب، فلا وجود إلا للعبة نفسها، وكل ما تحتاجه اللعبة لكي تكون هو جزء لا يتجزء من اللعبة نفسها.”.
“الشعر” هو ما نتجاوز به ضرورات عالمنا، لنلتقي “حرية وجودنا أو وجود حريتنا”. “وماهية الشعر لا تتحقق إلا كتابة، لا باعتبارها ترجمة لصوت الكلام ومركزية المدلول، بل بما هي تأسيس لحرف الوجود ومركزية صورته، فعلى الحد(التخم)-بتعبير(ديريدا)-تمارس اللغة لعبتها شعرا…لعبة ماهيتها لتنكشف على حقيقة وجودنا.”.
إن “الماهية الكتابية للشعر لا تنفي عنه الشفاهي نفيا مطلقا بل تستقطبه لتجعله وظيفة من وظائفها، ضمن بنية توترية وتنافسية بين حرفها وصوته، لتصبح هذه البنية أهم عناصر اللعبة على الإطلاق.”.
وحينما تزداد حماسة اللعبة، يزداد نصها اتساعا، تنكشف عن ثغراتها، يتورط القارئ الظان استطاعته ملئها، وحين يتورط لرأسه في اللعبة، “تنفجر ذحيرته اللغوية وتحير: أيا منها يختار؟ وهل تلائم اختياراته سياق الثغرة؟ وبوكزة واحدة من حرف كلمة واحد، يجد نفسه في نص اللعبة منشبكا ببنيتها التي تعمل على تفكيك البنية الذهنية للقارئ التي صنعتها المؤسسة، والقائمة على أولوية المعنى في ضبط وتوجيه ومراقبة كل الممارسات الفردية، بهذه المؤسسية دخل القارئ إلى نص اللعبة، فتعيده اللعبة إلى براءته الأولى، إلى درجة الصفر من مسلماته، يتخلى عن ذاتيته لحساب ذاتية اللعبة، ويلعب حرا، تماما كما هي لعبة اللغة حرة…”.
الفشل البليغ كان نهاية كل محاولات المؤسسة الأدبية، بكل منظومتها العلمية والمعرفية، من فلسفة إلى لسانيات إلى بلاغة وأسلوبية من نظريات ومناهج نقد، لتطويع لعبة لغة الشعر.
لم تقبل لعبة لغة الشعر غير أن ينخرط فيها الجميع بمن فيهم المؤسسة بتعاليها وصرامتها واستكبارها، لينكسر أنفها المتكبر باهظ الإهدار لكل إنساني، تخوض بحار الاحتمالي والنسبي والا يقيني المستحيل حصاره بأشد مناهجها صرامة.
فهي وستكون للأبد “لعبة بلا قواعد مسبقة أو متوقعة.”.
“فجسد النص(الشعري) ليس مطروحا إلا لتناسل اللذات بطول ثنياته وطياته وتعرجاته بلغة(بارت) في احتفائه بجسد النص أو لذته لا فرق…ماذا إذا يجديها هنا هذا المنهج أو تقول تلك النظرية!! ما لا يريد أحد الاعتراف به، أن المقاربة النقدية لا تتجاوز الإمساك بالعرضي من الشعري والبرهنة على جوهريته على العكس من طبيعيته بما هو عرضي، وذلك بمقولات من خارج الشعري، ولا تنتسب إليه إلا تعسفيا…مقولات لم تكن أساسا معنية بشئ إلا إقامة نظريتها لا أكثر ولم يكن الشعري إلا تكأتها لتكون. وأما الجوهري، فيظل متبقيا دائما وفائضا عن قدرة المنهج أبدا.”.
” وعلى الرغم من أنها لعبة مفتوحة لدخول أي لاعب فيها، سواء كان فكرة أو ذاتا، إلا لو اعتبرنا المنهج(فكرة) لم تستطع الاندراج ضمن اللعبة، فهو أكثر جدية من القبول باللعب. وحتى إن خفف من جديته لم يتمكن من إجادة أي دور فيها. هذا فضلا عن كونه نقيضا للعبة ذاتها، إذ ينتمي إلى قيود المؤسسة لا إلى حرية اللعب، انتماء يجعل هدفه الوحيد إضفاء المعنى على اللعبة وتحويلها من غاية إلى وسيلة، وذلك بإفراغها من شهوتها…كتابيتها…جسدانيتها، لتسهل عملية ترجمتها إلى أصوات تندرج آليا في لوجوس المؤسسة، والانتهاء من تهديدات حريتها ومخاطر هذه الحرية.”.
“الشعر الحقيقي نقيض بديهي للمؤسسة تقاليد وخطابات وممثلين مدجنين ومستألفين، أكانوا نقادا أم قراء. الشعر الحقيقي بحاجة إلى قارئ يرحل في شكل الحرف، ويتأمل موسوعة الكلمة ويطارد العلاقات المحتملة أفقيا ورأسيا ويكتشف توترات النص وتناقضاته، غرائزه وشهواته، وصولا إلى حركة الصيرورة الكامنة فيما وراء ألعاب اللغة، ليس في نص القراءة بل في كل نص ممكن القراءة.”.
“المنهج،في القراءة/الرحلة../التأمل../المطاردة../المراودة مجرد رفيق مؤنس، وليس لاعبا. وهو لا يحمل، في حقيبته الخاصة، شيئا يخص نص اللعبة أو لعبة النص. كل ما لديه فيها حزمة مقولات ينصح القارئ، طوال الوقت، بتجريبها وما يخضع للتجريب لم يملك، بعد ماصدقاته من جهة، ولا يظل هو نفسه أثناء التجربة من جهة أخرى، وأكثر من هذا، إذا نجح تجريبه دخل في طور مقولي جديد يتدخل النص نفسه في صياغته، ليذكرها القارئ، بعد ذلك، في مدونته السردية عن ذكريات مشاركته اللغة ألعابها في نص شعري ما ذات شهوة”.
“قراءة ناجحة لشعر حقيقي قمينة أن تضاعف من كينونة القارئ، وترسخ موقعه من وجوده وفيه، وهكذا يصنعنا الشعر بأكثر مما نبدعه، ويقرأنا بأكثر مما نقرأه.”.
هكذا تتالت آيات د.”الجزار” متغزلة تارة، محللة أخرى، متأملة مستقصية منتصرة للشعري كممارسة متفردة متمردة محطمة لكل قيد ممكن، وكأن الشعر والشعري هو انتقام لكل إنساني مستضعف مستلب محطما أنف كل صورة من اشتقاق نتج من مادة (أ س س).
“١٣”
“أن تندهش يعني أن تتفتح كل حواسك ومسامات وعيك لموضوع دهشتك، وأن تبدأ في عملية تأويل حادة وعنيفة وموسعة للاثنين معا: الموضوع ودهشتك.”
ليست العبرة أن تجعل الموضوع أليفا، ولكن معرفة خصائص غرابة الموضوع هي الأكثر اعتبارا.
هكذا يفرض النص الشعري قدرا من الغرابة أول تلقيه، لأن عدم الألفة هي شرط تميز الشعري بل هي ماهيته الحقيقية.
“في الخارج تماما، خارج كل من ألفة الكلام ومؤسسية النظام توجد ماهية الشعري.”.
إلا أن معظم الخطابات التي نشأت حول هامش الشعري قد أخذت طريقا معاكسا لطبيعته، فأسقطت على الشعري الألفة عكس ماهيته الحقيقية. ليتلقاه المتلقي العادي كنص غير مخلق لدهشته. كنوع من “التأليف”؛ جعل الا مألوف مألوفا، “وهذا نوع من تأليف اللغز أو الغرابة، دون أناة أمام ما يمكن أن يحمله له هو شخصيا من هدايا تخرجه من عدمية الألفة إلى أنطولوجية الدهشة، حيث انكشاف حقيقة الوجود…”
هدايا أنطولوجية لا تكون إلا لمن أنصت جيدا لما يهمسه الشعري مغلفا بغلاف من الدهشة.
قد تعاملت تلك الخطابات(المكونة على هامش الشعري) تعامل البلاغيين مع المجاز يردونه إلى الحقيقة اللغوية متأولين المسافة بينهما، بما يثبت وضعية هذه الحقيقة واعتبار المجاز توسعا فيها.
أكثر مما صنعه البلاغيون الكلاسيكيون لم تصنعه أكثر النظريات حداثة على هامش الشعري محاولة تطويع النص ومتلقيه لسلطتها.
على خلاف ماذهبت إليه كل النظريات النقدية، أن الشعري نوع من الكلام، تمهيدا للقول إن الكلام والشعري جزء منه، مجرد تمثيلات أمينة للنظام، لكن حقيقة الأمر، عكس ما تود المؤسسة إثباته، أن الشعري “لا هو نظام، ولا هو كلام، بقدر ما هو هامش متمرد على هذه العلاقة التمثيلية التي يذعن لها السلوك الفردي المزعوم حرا”.
“الهامش الرافض للممارسات القمعية التي تمارسها اللغة على أفراد المتكلمين بها ليعترف بهم متكلمين وحسب، بينما لا يبحث الشعري عن صك اعتراف من أحد ولا من مؤسسة، بل يؤسس عدم أهليته لهذا الاعتراف ماهية له.”.
ليبق جوهر الشعري محروما من أي آداة تعرفه، “بل إن نصه يحتفي بهذا الحرمان.”.
عتبة قراءة الشعري الأولى بلا منازع هي الدهشة، تولد من شئ أليف ينكشف عن غرابته، وكأن ألفتنا به خارج النص كانت تحجبه عنا.
“تولد من أوليات “عالم” كأنه مايزال يتعرق ببقية ماء الخلق وهو قيد اتخاذ شكل حضوره…من الدال يشير نرجسيا إلى ذاته كدال…”.
انمحاء للغة تاركة أثرا منها يحيل إليها في صفته الأولى(الطبيعية) قبل أن تكون مؤسسة(اجتماعية). “بهذا الانقلاب الذي تحدثه اللغة على نفسها لتحرر جوهرها الشعري من سلطتها فيكون…هذا وغيره مما لا يوجد إلا في الشعري ولا يكون إلا به…”.
عتبة الدهشة تلك التي تبغت المتلقي وعدته المعرفية، تكسر لديه أفق التوقع، ليدخل المتلقي خالي الوفاض مما يمكن أن يستدل به على ما يقرأه. يُحَيِّد معرفته المسبقة بالجنس الأدبي للنص. وأيضا تاريخ قراءاته السابقة، فضلا عن أي معلومات عن صاحب النص.
السؤال/الدهشة ليس أداة استفهام تقع على الموضوع، بل حالة وعي لذات تريد أن تؤمن موقعها من وجودها.
السؤال/الدهشة تجسيد للقبل لغوي بامتياز، إنه حيرة أمام معنى وجودي مراوغ حاولت اللغة القبض عليه فوضعت له أدوات لاقتناص قبليته في إحدى صيغها.
السؤال/الدهشة نمط معرفي من اللوجوس، او الفكرة غير القابلة للتحقق وفي الوقت ذاته محققة لكل الأفكار…
السؤال توأم الدهشة وقرينها والعلامة عليها وفاتحة سيميائيتها.
الدهشة=الموضوعة السيميائية.
السؤال= ممثل الدهشة الرمزي.
القانون الضابط العلاقة بين السؤال والدهشة= المؤول.
الموضوعة سؤال الماهو؟
الممثل سؤال الكيف هو؟
المؤول سؤال اللماذا هو؟
هكذا يتحول سؤال الدهشة إلى علامة تمارس فعلها في النص، لا للكشف عن معناه، إنما للكشف عن نواتج دينامية العلاقة التي يقيمها فعل الإدراك/القراءة بين النص والذات.
“القاعدة أن الذي يحقق وجود العمل أي صفة شعريته هو الالتقاء الحر(الفينومينولوجي) بينه وبين القارئ.
ليس الشعري علاقة بين الدوال وبعضها كما يذهب البنيويون، ومن بعدهم النصيون.
ولا بين داخله وخارجه كما يظن التداوليون ومن قبلهم الاجتماعيون.
الشعري شعري لأنه يتسع لدخول الذات فيه بصفتها دالا نصيا بانيا نوعية من العلاقات جديدة وقادرة على تحويل شعرية العمل في ذاته إلى جمالية لتلقيه عبر قراءته وبوساطة قارئه.
“14”
بفصل (أصوات الدهشة نداءات الحقيقة) أقف عاجزا تمام عن استخدام لغتي الخاصة، ولا أجد غير لغة د.”الجزار” وحدها معبرة عن الفكرة، ولاغرابة، ففضلا عن كونه هو من هو، فهو الأجدر للتعبير عن فكرته، ولم إذن أنقل ما كتبه، والمنطق يهمس: لديك الكتاب فلتعد إليه متى شئت، ولا داعي لنقل لن يفيد غير زيادة نسخة من كلام مكتوب مطبوع أصلا.
وعلى الرغم من وجاهة قوله، إلا أن دافعا ما لا أدري كنهه يدفعني لإعادة كتابة ما كتبه بحرفه ولفظه.
واقفا على أبواب النص ضارعا خاشعا، قانعا بما يجود على من فتاته، منتظرا لحظة كشف طال ترقبها، تجمل كل المعاني العصية بومضة هي طرفة عين بحَدَق الوعي.
يقول د.”الجزار” بفصل”أصوات الدهشة نداءات الحقيقة”: لقد فقدنا حس الدهشة بسبب كثافة حجاب الألفة. ننظر إلى الشئ مرة فتحتفظ به ذاكرتنا، حتى لا تنتظر العين أمامه طويلا فقد رأيناه مرة، وكأنه هو هو، أو أننا عرفناه من النظرة الأولى، أو أننا نحن نحن الذين مررنا به سابقا. والحقيقة أنه لا شئ من هذا ممكن، فاللحظة تمر بكل ما فيها وبكل من فيها، ولا تعيده أية لحظة أخرى مرة ثانية. وحده مبدأ المرة الواحدة ما يمنع الحياة من الموت ضجرا، ويحتفظ الوجود فيها بنضارته، وكأنه وجود جديد في كل لحظة. ولأن الفنون إحدى أهم وسائل الوجود في الانكشاف عن حقيقته، حقيقة لا تكرارية هنا، فإنها تقوم على تمثيل ذلك المبدأ تمثيلا مفرطا ومبالغا فيه، حتى يكون الفن عين هذه الحقيقة بحق.
وكل فن تعلق باللغة-واللغة قديمة قدم الكلام- لا يكون أمامه إلا اللعب، اللعب الحر، ليخترق تاريخية مادته ويوظفها لحساب الوجود وحقيقة الوجود. الأمر الذي يورط القارئ ولابد، فإما أن يدخل اللعبة ويحدد موقعه فيها بوصفه جزءا منها، أو لن يقرأ شيئا على الإطلاق مهما حاول. هذا شرط بديهي، فلن تمتلك موقعا من وجود ما إلا وأنت جزء منه. والقارئ لا يلعب لعبة وجوده، حقيقة وجوده، من خلال لعبة اللغة. وأيا كانت علة القراءة وأدواتها، أو كما نقول-نحن أهل الاختصاص- مناهجها، فإن ما وراءها اكتشاف القارئ حقيقة وجوده على مرايا النص، أو انكشافها له. وفي هذه اللحظة تحديدا يكون القارئ قد اندرج لاعبا في لعبة اللغة…لعبة وجوده في اللغة وباللغة، ليكتشف ويكشف لنا أن لحقيقة وجودنا مواقع من اللغة أفقدتنا الألفة إياها، ووحده الشعرُ- الشعرَ يعيدنا إلى هذه المواقع…”.
لعبة اللغة شعرا تعمل ضد منطق الألفة في اللغة العادية، ولعبة القارئ أن ينسى وجود اللغة العادية وألفتها، ليست الدوال بالشعر كالدوال خارجه في الشعر الحقيقي”شعر الوجود” هذا الشعر الذي يمنح الوجود فرصة الانكشاف الحر عن حقيقته. حيث تتحول نسيان الألفة ولغاتها. تتحول الدوال بسياقه إلى نوع من الوجود الذاتي، أشياء في ذاتها وليس لأجل أن تدل على سواها.
يشبه د”الجزار” ذلك الانزياح الوظيفي للدلالات بالشعر فيصف: تبدو العلاقات فيما بينها أشبه ما تكون بعلاقة عشق من طرف واحد من جهتين، يكون الدال عاشقا لآخر لا يبالي به، وفي الوقت نفسه معشوقا لا يبالي بعاشقه، فالدوال جميعها تطلب بعضها، وهي في حالة هرب متواصل من التورط بهذا الطلب/العشق، ليصبح النص نظاما من علاقات جميعها محتملة، ولا سبيل إلى تحققها بذاتها.
يتحول القارئ، هنا حيال هذا النزف العاطفي للدوال، عن ذاتيه إلى دال وظيفته تحويل المحتمل إلى متحقق بالفعل. ليدخل إلى الفاعليات الحرة للدال، بعد تحريره طاقة”الليبدو” المكبوته بفعل القالب النحوي والتي كانت مفروضة على قالب النص، بعد أن
تورط باللعبة وأصبح لاعبا أصليا. لتصبح تلك التجربة ذكرى مارس القارئ فيها حميميته مع النص.
ليست اللغة في ذلك السياق الذي رسمه د.”الجزار” (مسكن للكينونة) على حد هيدجر، وإنما أصبحت الكينونة مسكن اللغة، تلك الكينونة التي اكتشفها القارئ لذاته، بعد فقده تلك الذات مؤقتا، ليتحول إلى مجرد دال في لعبة حرة مع الدوال.
“ولذا يكابد القارئ قراءته الشعري كلمة كلمة وجملة جملة وعبارة عبارة، بانتظار خروجهما معا إلى حيث يغمرهما نور الحقيقة. ولأنهما مكابدة حقيقية، فإن القارئ يلجأ إلى كل المناهج والنظريات والمعارف التي تصلح بعض معطياتها لتكون وسيطا حيويا-على سبيل التشبيه- للتفاعل بين القارئ وبين النص.”.
لا فرق بمكابدة القارئ “شعر الوجود” بين المعرفي، ما اتخذه من وسائط/معارف(نظريات أدب)، والشعري، “فكلاهما يصنع لغة أخرى بانتظار الدخول في لعبة جديدة. وهكذا يمنحنا الشعر الوجود، لا لنعرف حقيقته وحسب بل لنعيش هذه الحقيقة.”.
وهل للشعر وجود سابق عن الشعري، نعم، الشعر ثم الأثر الشعري(الفن ثم الأثر الفني، بتعبير “هيدجر”). فلاوجود ل”خارج الشعري”. لاينتمي الشعري إلا لذاته، لا جهة متعالية أخرى مهما كانت سلطتها.
وعلى حد “بارت” (العمل الشعري هو بحكم كونه كذلك، وليس بانتسابه إلى تصور متعال عنه).
“١٥”
“السؤال والشعري”
يفتتح د.”الجزار” بسؤال “لماذا تكثر الأسئلة في الشعري، وبلا إجابات في الغالب؟…
“يتعلق السؤال بتجربة الشعري، ولا تمكن مقاربته خارج هذه التجربة بكل خصوصيتها، بل إن طبيعة الشعري نفسها مرتهنة إلى وجود السؤال سواء حضر لغة أو تقديرا…وحين يخترق السؤال نسيج تجربة ما، شعرية أو غير شعرية، فإن النتيجة البديهية لهذا أنها تجربة بلا يقين، وحين يلازم السؤال تكرار هذه التجربة في التاريخ، فإن الايقين يصبح واحدا من ضرورات تعبيرها، بل واحد من عناصر ماهيتها، كما هو حال التجربة الشعرية التي يؤسس إبداعيتها ويؤثث نصها (الايقين) بأداته المثالية، بقدرة اللغة على أن تجمع بين تناقضين أساسيين هما: الحفاظ على سرانيتها والإشارة إلى احتمالات كشفها، ولاشئ يجمعهما مثل(السؤال). وهكذا، نجد السؤال يخترق نسيج النص، فيضع ما سبقه بين قوسي محنة الاستفهام، ويحفز ما بعده على استثمار《الفجوة-مسافة التوتر، كما يرى هذا(كمال أبوديب) غير أن مفهوم كمال أبو ديب قلق وربما مضطرب، وذلك بجعله الشعرية هذه السمة المائزة للشعري محض وظيفة من وظائف 《الفجوة-مسافة التوتر》، نظرا لكونه يعمم الأخير على التجربة الإنسانية كلها، والتجربة الفنية جزء منها. هذا التصور مغلوط في أساسه فليس كالشعري(الشعرية) أكثر تمثلا وتمثيلا للتجربة الإنسانية في كليتها.”.
“كما إن الشعري(الشعرية) لايمكن أن يكون محض وظيفة كما اختزلها(جاكبسون)، وإنما هي نتاج. والحقيقة إن مفهوم كمال أبو ديب أكبر من تصوره، الأمر الذي يضطرنا إلى إعادة تأسيسه..إن 《الفجوة-مسافة التوتر》إحدى ظاهرات الشعرية وحسب، وإن كانت هي الظاهرة الملموسة لها تركيبيا/《الفجوة》ودلاليا/《مسافة التوتر》، وكأن الشعري يؤسس ماهيته نقيضة لمقولتي علم لغة النص المركزيتين:《السبك》وهو نقيض《الفجوة》. و《الحبك》وهو نقيض 《مسافة التوتر》. وليس الأمر كما زعم أبوديب من أنها الفضاء الذي يحدث فيه إقحام مكونات للوجود أو اللغة. وكأن نص الشعري مغلق دون الاثنين، وكأن لا عتبة فيها يتم التفاعل بين داخل الشعري وخارجه فصلا ووصلا!! ولا يصنع《الفجوة-مسافة التوتر》مثل السؤال(الشعري ).
يبدو السؤال عن فلسفة السؤال من باب مناقشة البديهيات، كونه محجوبا بحجاب الألفة لا أكثر، إلا أنه في الحقيقة من مركزيات الشعرية، طالما اختارت الايقين جوهرا لخطابها، فالسؤال يعبر عن فقد جزء أو كل من قناعة السائل ذاتا/خطابا، يجسد القلق الوجودي، قبل تجسيده وظيفته اللغوية الظاهرة، يطلب إجابة ما.
وعليه، وأيا كانت وظيفة السؤال سواء كانت استدراجا للمتلقي ليندرج ضمن التجربة الشعرية، أو اعتباره خطابا داخل الخطاب، فالسؤال ب “الشعري” لا يحمل أي وظيفة معرفية كانت، ذلك أن الشعري ليس معرفيا ولا تمثل المعرفة أيا من أغراضه.
“فهل نعتبر السؤال في الشعري مجازا عن طلب المعرفي، وإذا اعتبرناه كذلك، فبأي دلالة وحتى وظيفة يمكن أن يؤول بها؟ وما علاقة مضمونه(المسؤول عنه) بالوظيفة الجديدة له؟ سنفترض أن السؤال الشعري مجاز عن طلب المعرفة. وبالتالي، فسيصبح مطلوبا لذاته، أي شعريا، إنه يبدو بمثابة قطع في نسيج سياقه، وهكذا نصبح أمام ما أسماه “أبوديب” 《الفجوة-مسافة التوتر》. سواء على مستوى الشكل أو المضمون. وكل فجوة نصية هي بمثابة تَعَرٍ لجسد النص، مثير وشبقي ومن ثم لعبي…”.
“١٦”
العالَم مفردة جامعة لا تكاد تترك شيئا إلا أظلته بأصواتها؛ ثم لا يكون لها دلالة في اللغة إلا بكونها مجموع كل هذه الأشياء. بيد أن جذر تلك الكلمة اللغوي وصيغه الصرفية تعود إليها بالكثير من الدلالات الأكثر تَخْصِيصًا من دلالاتها. والأساس الاشتقاقي للكلمة في اللغة العربية، يوسع من دائرة اشتغال الكلمات من دلالاتها في في ذاتها معجميعا إلى علاقاتها التي بينها صرفيا. إن الجذر اللغوي (ع.ل.م) خرجت منه صيغ ثلاثة(عِلْم) ومنها ناسب العالِم العالَم فلا يتمايزان إلا باختلاف حركة واحدة على حرف واحد. وللمناسبة هذه دلالة ضمنية على أن موضوعه العالَم وحامله العالِم. ويتحرك ألف العالَم لما بعد اللام؛ وتلحق تاء التأنيث بالكلمة فتكون (العلامةُ) الرمز الصوتي لكل أشياء العالَم والوسيط الأسمائي بين (الذات والعالِم) و(العالَم) هذا الوسيط الذي تصبّ فيه اللغة أشياء العالَم. وتبدو وساطة العلامة بين العالِم والعالَم أكثر تعقِيدًا من كلمة وظيفتها:وساطة؛ فقابليتها للتحمّل رمزِيًا بأشياء العالَم توازيها قابلية آخرى هي التحمل بمقاصد الذات(العالِم) منها؛ وهكذا فهي وسيط جامع بين الطرفين يحمل ملامحهما حَمْلًا بدْئِيًا على قاعدة انتظار التصرف بهما وفق مقاصد الذات منهما.
بالعلامة؛ رحلة قصد(وعي) الذات لعالَمها وانكشاف الأشياء لها. ومن جدلية القصد الانكشاف امتلكت الذات تجربتها. وبفضل هذه التجربة، يتحول العالم إلى وجود، والفرق بين الاثنين أن الأول محايد تجاه أشيائه، وتجاه الذات كذلك، ومن ثم فهو لا يحمل معنًى بذاته عن ذاته. أما الآخر؛ فيتمركز حول التجربة الإنسانية ولا تجربة لها فيه بلا معنى.”.
فَضْلًا عن الإحالات لعلم النفس العصبي للكشف عما يجعل الأشياء ذات معنى لدى الناس، فإن تجربة الذات مع ظاهرات العالم كموضوع يكشف عن ماهياتها:معانيها. وتبلغ ذروة الوعي بالوجود مع الشعري، فهو يقدم لأشياء العالم فرصة الوجود خارج شيئيتها، بفرادة كل نص شعري عن الآخر، “والأكثر إدهاشًا أن أفعال هذه الأشياء وصفاتها تختلف من نص شعري لآخر، فلا يتكرر منها شئ، فهي في كل مرة توجد وُجُودًا جَدِيدًا، وفي كل مرة تدخل تجربة وجود مختلفة وتنكشف عن حقائق لها جديدة.”.
وعلاقة الشعري بأشياء العالم مزدوجة”ملتبسة وغامضة”، فمن ناحية لا غنى للشعري عن أشياء العالم(فهي تمثل مادته الأولية للتعبير)، ومن جهة أخرى فلا سبيل للشعري نحو خلق ماهيته إلا بالقطيعة معها. “ففي حين لا يكف الشِّعرِيُّ علامةَ الشّئ عن إحالتها إلى الخارج، يحمِّل مسار هذه الإحالة بأنساق العلاقات التي تدخلها العلامة مع غيرها بما يُحِيِّد خصائص الشئ في ذاته، ليندفع إلى الدخول في نسق خصائصي ينتمي للتجربة أكثر من انتمائه إلى الخصائص المحيَّدة بل منفصل عنها تمامًا، وهكذا يصبح الشئ شعرِيًّا بامتياز، فلا وجود لقمر أخضر أو لشمس زرقاء في الخارج، إنما ثمة-فقط- قمر أو شمس بانتظار صفاتهما/خصائصهما التي ترشحها له التجربة الوجودية(الشعرية) للذات”.
فكلما حقق الشعري وَخَلَّقَ عالمه الفريد، تحققت ماهيته “عالم من الماهيات المتعالقة ببعضها تشكل وحدتها ما لا يمكن أن نسميه إلا(الحقيقة الشعرية). هذه الحقيقة التي رأى (أرسطو) أنها قرينة الحقيقة الفلسفية، أو بتعبير أدق أقرب للحقيقة الفلسفية من التاريخ والتاريخي، أو حسب تعبيره《…ولهذا كان الشعر أوفر حظا من الفلسفي وأسمى مَقَامًا من التاريخ، لأن الشعري يروي الكلي بينما التاريخي يروي الجزئي.》.
تخطئ البلاغة بوصف هذا بالمجاز، فالوجود الشعري يتسع لكل هذا، فلا يُلجئ، للبحث عن مخرج ما لخلق الاتساق النصي، للمجاز. فالتجربة الشعرية تتسع بذاتها لتخلق عَالَمًا جَدِيدًا بعلاقاته الداخلية و(ما ورأيتها) نحو الخارج، خارج يتسق والنسق الشعري فقط، حتى ولو خالف العالم الحقيقي، فنرى القمر الأخضر، والشمس الزرقاء بكل أريحية.
” ولا يختلف أمر البلاغة في هذا عن أمر المناهج النقدية التي تقيم الدلالة بديلة من العالم الشعري وحياة أشيائه داخل النص. إن التأويل اللغوي للشعري إلى أوليات اللغة-حيث حرية الكلمة تصنع أسطورتها وسحرها وشعرها-يصبح نَقِيضًا بَدِيهِيًّا لمؤسسية اللغة ونظامها، وإقامة أدنى علاقة بينهما تُفَرِّغُ الشعري من كل مكتسبات حريته وَتُدْخِلُه، مرة أخرى، تحت سلطة المؤسسة/اللغة التي تحرر منها نصيِّاً.”.
وحينما يخرج اليومي والعادي(بقصيدة النثر مَثَلًا) عن كونه مَعِيشًا ليصبح موضُوعًا للشعري فإنه لا يخرج عما سبق، فإن اليومي والعادي قد يكون أكثر حميمية من المتخيل.”فكيف إذا انتقل اليومي والعادي من كونه مَعِيشًا ليكون لغة شعرية!!”.
ولكن كيف يتلقى القارئ العادي الشعري، فهو يدخل تجربة النص وكأنها تجربته يقول لنفسه هكذا كان ينبغي علي أن أفعل/أحب أغضب أرى أسمع/. من دون التفات أو حتى وعي أو أدنى اهتمام بالمنهج النقدي والنظرية الأدبية.
لا اعتبار للمجازات عنده، بل هي وجه من أوجه الحقيقة المتعددة، حقيقة هي شمس زرقاء من وجة نظر النص الشعري، حقيقة أخذها كما هي لأنها بسياقها النص/شعري حققت له مأربه من اللذة. “يماهي القارئ العادي بين ذاته والذات النصية-يجعل (الذات) مركزا لفعل قراءته، ويبني حولها كل العلاقات الممكنة بين علامات أشياء النص وأحداثه. إنه ودون قصد مسبق منه-يحول تجربة الذات النصية إلى تجربة خاصة به مستمتعًا بقراءة مشاعره أثناء قراءته نصها. ولو أنه قام بكتابة متعته، لأدهش القراء المحترفين(النقاد)وأخجل مناهجهم ونظرياتهم.”.
“١٧”
“أصعب مهمات الفكر على الإطلاق أن يجعل موضوع اشتغاله العادي المألوف. لا لكونه عاديا مألوفا، ولكن لأن ها هنا مسكن (الحقيقة)، حيث لا يصدق أحد سكناها فيه، ولا تحجبها به. ومن العادي المألوف(فعل القراءة)، وبخاصة قراءة الأدب، يقوم به قارئ عادي يختصر كل علاقته بالأدب في كلمة واحدة:(الحب)، ليدل به على أشياء أكبر وأكثر وأعمق من العلاقة المعرفية التي تقوم بين الناقد والأدب. القارئ العادي مهتم بالمتعة التي يضيع شعوريا ولا شعوريا في متاهاتها ليس يعرف من أين بدأت في النص ولا أين انتهت فيه؟ ولماذا تحدث في كيمياء جسده كل هذه السعادة/المتعة؟…
أما الناقد، فمحجوب بالنظرية عن متعة القارئ العادي، يجتهد في البحث عن العلة التي تجعل الأدبي مصدرا للمتعة، ولا يفكر في ماهية هذه المتعة أبدا، وربما لم يشعر بها أصلا.
الأمر الذي يجعل الناقد بحاجة إلى حساسية القارئ العادي، بينما هذا الأخير مكتف بها لا يفكر بالصخب النقدي الذي يحيط بنصوص الأدب، وإن تورط بالإنصات إلى بعضه يوما، لم يجد فيه مما عاش من متعة شيئا مذكورا.”.
لا يعير الوعي الفطري أى اهتمام لتعقيدات الطرق النقدية لبلوغ الحقيقة، ولا يعرف ولا يهتم أن يعرف ماهية المعايير التي يسند إليها أحكامه، فالجميل جميل عنده لأنه كذلك، والعكس.
شيئت النظريات القارئ(التجريبي) بمقولات لاعلاقة لها بالقارئ التجريبي أو الفعلي، “لقد أعلنوا وفاة المؤلف/المرسل، وشيأوا القارئ/المرسل إليه، وبقى النص وحيدا في العراء، بينما ظلوا يدعون مخططا تواصليا بين طرفين أحدهما ميت والآخر مشيئا…”
وبالرغم من أن أولئك المتفيهقين بالنظرية الأدبية لم يتفقوا بعد على تعريف لماهية الأدبي، ومن جهة لم يصلوا لما توصل إليه القارئ لمعرفة الأدبي بالسلب”يمتلك القارئ التجريبي وعيا أوليا باختلاف الأدبي وامتحان صدقه على الواقع. وبناء على هذه الخبرة يحدد ما هو أدبي باختلافه، أي أن تحديده تحديد سلبي…”.
فالوعي البصري وعي انتقائي قصدي بامتياز، بهذا الوعي يخترق القارئ النص بسميائية خاصة تختزله مصطلح الأيقون أو الصورة. وربما شعر بما ورائيات النص/ما بين السطور، لتزداد شغفا على شغفه بالنص.
“فوجود مسافة مناسبة بين العين وموضوع رؤيتها شرط للعين كي تحقق وظيفة الرؤية، فأقصى البعد كأقصى القرب لا يحقق أية رؤية. وهذه المسافة لا تظل مسافة واقعية بين نقطتين، وإنما تتحول إلى مكان فلسفي بامتياز، يتبادل الفعل والموقع طرفا الرؤية: الرائي والمرئي. إن الرائي باندماجه في المرئي يتحول إلى مرئي له، ويصبح المرئي رائيا، ويصبح كلاهما امتدادا وجوديا للآخر، وبتعبير أدخل في موضوعنا: يقرأ الكتاب قارئه بنفس الفعل الذي يقرأ القارئ الكتاب. أوليس يتصرف بوعيه من خلال الكلمات!! وإذا أراد القارئ أن يكتب عن قراءته فستكون هذه الكتابة، ولابد، حاملة للقراءتين معا: قراءته هو للنص، وقراءة النص له. وكأن القارئ ليس وحده الحامل لقصدية القراءة، بل المقروء يحمل قصيدته الخاصة به وهي الانقراء للقارئ كيف يكشف له عن وعيه. وهذا ما لا يتحقق إلا من خلال قارئ عادي أو لنقل قارئا فينومينولوجيا برد كل ما يتعلق بما يقرأه لكي يقارب حقيقته أو ماهيته.”.
تكون النصوص الأدبية خبرات القارئ في غياب كلي للنظريات، فيكون تمثيلها بالذاكرة الطويلة المدى نقيا لا تشوبه شائبة. ويكون تخزينه لمعلومات النص على مستويين لغوي يتجسد لاختياراته النصية التي أحدثت متعته. وصوري حين تجاوزه المعنى اللغوي ورسمه صورة تخييلية ذهنية.
“١٨”
“كان الانتقال من الكلام الحي إلى الكتابة تحولا حضاريا بكل ما تعنيه الصفة وموصوفها، وكان يجب الانتظار طويلا وطويلا جدا، ليدخل هذا التحول إلى دائرة الفلسفة بكل ما زعزعه من ثوابت ويقينيات. ليس هذا فحسب. وإنما بكل آثاره على الممارسات الإنسانية ونظرياتها. وخصوصا الممارسة الأكثر حساسية تجاه الكتابة، أعنى “الأدب” وتحديدا الشعري. وكان دريدا علم التعبير عن ذلك التحول الذي رفعه عن المكانة المتدنية من أفلاطون وحتى دي سوسير.”.
وعلى الرغم من جذرية معالجة دريدا وشموليتها لنواحي الفلسفة الغربية وليس الأدب فقط، وسد ما انتاب كتابته من ثغرات بمجهود أساتذة “ييل”، إلا أن مجهوداته لم تعد محل اهتمام بانسحاب فلسفة التفكيك.
“على الرغم من أنها لم تستثمر جيدا في حقل الشعري، وهي الأكثر ملائمة له من كل ما سواها، والذي ظل محروما من علامة الشطب/النفي”.
“يرفض دريدا اعتبار التفكيك فلسفة أو رؤية أو منهجا، بل يرفض أن يقطع علاقته بالبنيوية بالرغم من خروجه عليها، كأنه يذهب إلى أن التفكيك ضد للسائد والموروث وتموضعه داخله يلزم عنه تفكيكه ولابد، ولا يلزم عن تفكيكه ولادة نظرية جديدة. وهذا التفكيك يختلف باختلاف ما يضاده، دون أمل في أن يكون حتى طريقة لفعل التموضع ضدا.”.
“يعتمد عمل(لا) في تنوعه، على قاعدة أنه لا وجود لشئ نقي من نقيضه حتى يمكن اعتباره أصلا، وإذا كان الأمر كذلك فالتماسك والانسجام الظاهريين يخفيان ما يناقضهما بل يقومان عليه، هذا دون تورط في الإقرار بأية ثنائيات. وهنا يكون التفكيك فهما جذريا يمنع الثقة بالنص بما يكشف/يعري لعبة العلامة داخله وخارج كل دعاواه…”.
“يمكن رصد ثلاثة خطوط عريضة تجمع منطلقات”دريدا” هي: استراتيجية “الضد”، وتكنيك”لا”، وآلية علامة الشطب غير المنظورة.
أما استراتيجية الضد، فليس “الضد” هنا مفهوما مليئا أو معرفة بديلة، بل مجرد موقع داخل ما يضاده يسمح بالتبئير على تناقضاته الداخلية والكشف عن(ألعاب العلامة) تحت ظاهر التماسك والانسجام.
بينما يخرج، تماما، تكتيك “الا” عن الخطاب النحوي لها، إنها أداة للتبئير على مواضع التناقض في النص وتحيين علاماتها.
وأخيرا فعلامة الشطب غير منظورة، فتقع على هذه العلامات، وتحديدا على مداليلها، بما يسمح للعلامات من توسيع مسرح لعبها دون قيود، ليصبح المدلول مرجأ دائما، بينما يصنع الدال متاهته بنفسه.
وهكذا فإن الكشف عن التشتت لا التمركز، والانتشار لا التبنين، الإرجاء لا التعيين، هو غاية التفكيكي، للتحرر من كل المؤسسة المفاهيمية للميتافيزيقا الغربية.”
“ليست الكتابة من اللغة في شئ، وإن كان تواطؤنا عليها رموزا وتقنيات يخفى عنا هذه الحقيقة ويبعدها عن تأملنا فيها.
بينما أدنى تفكير فيها يكشف عن حقيقة كونها أكثر من مظهرها الرمزي، إنها طريقة في عمل الذهن مختلفة تماما عن طريقة عمله في الكلام، وكلما أغرقت الكتابة في كتابيتها صارت ترجمتها إلى كلام تشويها لها أكثر من ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى. إن الكتابة إرجاء مستمر الكلام. وفرض حالة من الصمت على المدة الزمنية المخصصة للصوت، ومن ثم تثبيته مكانيا، أي نصيا، ليكون مجرد وظيفة من وظائف الكتابة،’والتي تفعل أو تعطل حسب استراتيجية الكتابة في امتلاك وجودها النصي. ان صمت الكلام، في الكتابة، ليس غيابا له بل حضور وفق شروط ليست طبيعته، حضور موضوع تحت علامة نفي/شطب غير منظورة…”.
اللغة،عند ابن جني، أصوات تعبر مسرعة الزمكان/الوجود نحو العدم، لتغترب عن قائلها ومتلقيها، وتبقى كعلامة لمعنى تشترك فيه الجماعة.
“يجب أولا أن نحدد موقع الكتابة من اللوجوس، فهذا التحديد يميز بين الميتافيزيقا الإسلامية، وتاريخ المتيافيزيقا الغربية، فبينما يقر (دريدا) أن(جوهر الوحدة الصوتية…سيكون قريبا، بشكل مباشر، لكل ما في الفكر بوصفه لوجوس له علاقة بالمعنى، ينتجه ويقوله ويجمعه).
أما إسلاميا. فإن أول ما خلق الله(القلم) وأول أمر له (اكتب)، وأول الوحي القرآني:”اقرأ”، وفاتحة السورة الثانية من القرآن الكريم:(الم (١) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ… ) كل هذا وغيره كثير، يقيم العلاقة بين اللوجوس والحرف، وليس بينه وبين الصوت.”.
“وحدها الكتابة تأتي باللغة إلى اللغة، إلى حقيقتها المكنوزة في نقش…خط…حرف لا ينتمي إلا إليها، تندفع به لتدل دون عبور بقضبان الصورة الصوتية التي أتقنت صناعتها اللسانيات.”.
“١٩”
“وبينما لهث الشعراء والبلغاء ليقفوا على أعتاب الخلفاء والملوك، كان أولئك العباد يعكفون على تجربة مختلفة اختلافا جذريا، تجربة روحية تحاول وصل عالم الفيزيقا بعالم ما ورائها حيث مدبر كل شئ ومالك كل شئ…”.
“هذه المرجعية المتعالية والامتناهية للتجربة كانت مأزقا كبيرا لمحدودية اللغة حقائق ومجازات على السواء، ولمادية مرجعيتها واقعا وما أشبه…كان الخيال برزخ حقائقهم بين عالم مقيد وآخر مطلق، أي واسطة معرفية وليس مجرد ألاعيب لغوية تتسم بالشكلانية في السبيل إلى استعارة هنا أو تشبيه هناك. لقد اجترح أولئك العباد من اللغة لغة لا تشبهها، كما لم تشبه تجربتهم تجارب أحد من الناس بما فيهم أهل الزهد. لغة لم يقصدوا شيئا من خصائصها، لكن خصائصها ارتقت، شعرا ونثرا وفلسفة، حتى جاوزت الشعرية بمفهومنا الحديث لها…شعريتهم تبدأ من الحرف(الحروف أمة من الأمم) بل من النقطة، ووصولا إلى تأويلهم للنحو العام، وعلى الرغم من كل هذا يتحدثون عن ضيق العبارة وعن اتساع تجربتهم عنها(إذا اتسعت التجربة ضاقت العبارة). لقد اجترح الصوفية (شعرية) لا مثيل لها في التاريخ الإنساني يمكن تسميتها(شعرية السر) من طواسين الحلاج، إلى مواقف النفري ومخاطباته، إلى رمزية شعر ابن الفارض، وصولا إلى فتوحات ابن عربي المكية، فضلا عن(شعرية) إشاراتهم في تأويل القرآن الكريم.
ومن هذه التواريخ إلى ما بعدها كثير منهم إلى يوم الناس هذا يسلكون هذا المسلك فيبدعون هذا الشعري…هذه الشعرية.”.
“العلامات اللغوية في (شعرية السر) تلك، ترفع المواضعة العامة بين الدال والمدلول، وتستبدلها بمرجعيات ميتافيزيقية متعالية على الواقع، فيتعطل المدلول، ويطابق الدال مرجعياته هذه على قاعدة التجربة الروحية، ومن ثم تنبني علامة ثلاثية، رأسها المرجعية المتعالية، وقاعدتها الدال ومدلولها التجربة. “.
فيكون مثلث نقطتا قاعدته(الدال اللغوي-المدلول(التجربة الروحية)، ورأسها المرجعية المتعالية. “هذه هي بنية العلامة في (شعرية السر) شكلها شكل لغة الناس وحقيقتها تتجاوز حقائق لغتهم ومجازاتها. ولما كان أمر العلامة عندهم على هذا النحو وخطابهم على ما ذكرنا، اختلفت تصوراتهم للدال اللغوي عما تواضع عليه الجميع عامة وعلماء، فكانت (النقطة) دالا و(الحرف) كذلك، ولا فرق بينهما بوصفهما كذلك وبين الكلمة في شئ، بل ربما كانت الكلمة تابعة لحرفها وحرفها تابع لنقطته.”.
ثم كانت نقولات تتحدث عن الحروف والنقاط من عند الجيلي، وابن عربي.
وأن الحروف،كما عند الإمام الأكبر “خطابهم أمر، ليس عندهم نهي، وفيهم عامة وخاصة، وخاصة الخاصة، وصفا خلاصة خاصة الخاصة.”.
ثم يعلق الدكتور على تلك المقولات: هذا حديث شعري بمفارقته كل أصول اللغة أولا، ثم مفارقة مرجعيتها من الواقع ومنطقه ثانيا، وهو من جهة أخرى حديث له مستند من القرآن الكريم يدعمه هو (الحروف النورانية) الأربعة عشر(ا. ل.م.ص.ر.ك.ه.ي.ط.ح.ع.س.ق.ن) التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم.”.
وقد عد الإمام السيوطي تلك الحروف مفتتح بعد السور القرآنية من قبيل المتشابه، واستشهد بكلام الشعبي: أن لكل كتاب سر، وإن سر هذا القرآن فواتح السور.”.
“وقد استثمر الصوفية المصطلح القرآني(المتشابه) وما ينطوي عليه من أسرار احتفظ الله عز وجل بتأويلها لنفسه، في افتتاح لغة جديدة سرها بينهم وبين ربهم، فلا تأويل لها إلا عندهم، ولا إحاطة بوصفها إلا بصفة الشعرية على ما هي عندنا لا بتعريفاتها الشائعة في الخطاب النقدي…
“كان ذلك《السر》الذي في《الحروف النورانية》هو مناط تعلق الصوفية بالحرف، فإنه قادر على التحمل برؤيتهم دون أن يصطدم برؤى الآخرين أو كما يسمونهم: الأغيار. وهو نفسه-أعنى السر المودع في نثرهم وشعرهم ومعارفهم- فاعلية تصرفهم باللغة لغة الناس ذاهبين بها مذهب البلاغي في كناياتهم، فثمة معنيان يترجحان أحدهما ظاهر غير مقصود، والآخر مقصود لكنه خفى لا يدركه إلا أهله، وتراهم فيه مهرة بالتصرف بالتصرف به فيكشفونه بما يحجبونه به، ويحجبونه لبما يكشفونه به.”.
“إننا ازاء(كناية) كونية تؤسس نصوصهم، فلا يدرك الناس منها إلا ظاهرها، بينما باطنها سر على غير أهلها، هي تجربتهم الروحية تتكلم، فبكثير من المكابدات والمجاهدات في تجربتهم هذه، جاز الصوفية طينة خلقهم حتى ارتفعت حجبهم وشفت أرواحهم، فالتحقوا بعالم الأمر الذي هي منه”قل الروح من أمر ربي فشاهدوا وخوطبوا بعجائب ما كانوا عنه محجوبين، فكانت لغتهم في الإفضاء بهذا وذاك على هيئتها، أعني لغة محجوبة لا يكاد يبين منها إلا ما يعرفه الناس من اللغة، بينما هي طاوية جنحها على أسرارها. هذه اللغة الصوفية تمثل كنزا مخبوءا لشعرية ذات أبعاد ميتافيزيقية لا يكاد يخلو منها الشعر الحق، ولا ينبغي له أن يخلو منها..”.
ثم تحدث عن مصطلح”المتشابه” وأقر بكونها المستند الثاني لدى الصوفية، كون اللفظ له ظاهر وباطن.
“لم يكن نثرهم كشعرهم فكان نثرهم أكثر استغراقا في السر فتعطل اللفظ والتركيب عن أداء أقل جزء من المعنى الذي صار كله باطنا، أي سرا، كما مر بنا في نثر فتوحات الشيخ الأكبر.”.
“إن التجربة الصوفية في اللغة تنتمي إلى ما يمكن أن نطلق عليه الأنماط العليا من (الشعري)، هذه الأنماط التي تسقط رؤيتها الكونية كل الثنائيات التي أقرتها المؤسسة الأدبية وسورتها بخطابات النظرية والمنهج، من لفظ ومعنى، وحقيقة ومجاز، وشعر ونثر، وشكل ومضمون، وفيزيقا وميتافيزيقا(وهنا ميزة الرؤية الصوفية عن الفلسفة) وحتى ديني ولا ديني(ديني لنفسي ودين الناس للناس)، فكلها محض صور لتعينات لا تسكن في الحقيقة أو تسكن فيها الحقيقة، فالحقيقة الكونية حقيقة كلية وجامعة.
إن تلك الأنماط العليا من (الشعري) يمكن أن نطلق عليها (قولة الصمت). إنها، في حقيقتها، (صلصلة) وحي الانطولوجيا، وحين ترجمها أنبياؤها إلى (اللغة ) فرضوا عليها قانون الصمت. وهكذا الشعري في أعلى أنماطه (طبقاته بالتعبير العربي) يأخذ اللغة إلى ملكوت الصمت لتتأمل نفسها بنفسها في نور الحقيقة، والصمت.”.
“٢٠”
الأدب الرقمي التفاعلي Interactive Digital Literature
“هل تتغير خصائص النص بتغير الوسائط الناقلة له؟…وبتعبير آخر: هل للوسائط التواصلية مداخلاتها على خصائص النص؟ مما لا جدال فيه أن لكل وسيط من هذه الوسائط جمهوره: نعم، قد يكون للجمهور أكثر من وسيط، ولكنه سيقدم واحدا منها في الأهمية على ما سواه. والسؤال الذي يمكنه تقديم الجواب على السؤال الأول هو: لماذا؟ الجواب إن الجمهور يختار قنوات التواصل بناء على ثقافته أولا، والأدوار الاجتماعية التي يشغلها ثانيا، وانحيازاته الفكرية والجمالية ثالثا. وهذه الأسس الثلاثة لا تحدد نوع قناة التواصل (الوسيط) التي يفضلها هذا الجمهور، وإنما تصنع ما هو أهم، وهو نجاح استجابة الجمهور لتلقي الرسالة المحمولة على هذه القناة أو تلك. وهذا النجاح محمول، ولابد، على الخصائص المُجنِسة لتلك الرسالة. وإذن، فثمة علاقة لا يمكن غض النظر عنها بين الرسالة والقناة التواصلية الحاملة لها، وأن مدى نجاح استجابة المتلقين للرسالة تستند إلى ضرورة وجود تناغم بين الرسالة وقناة توصيلها وبينهم. والأمر لا يختلف في الرسائل الموسومة بالأدبية من الرسائل ذات الوسوم الأخرى أو حتى الخالية من أي وسم.”.
الوسائط التواصلية سمعية، بصرية، جامعة بين السمعية والبصرية(رقمية) والرابعة متعددة بين الصوت والصورة والحركة(رقمية تفاعلية).
النوع الأول طبيعي، والثلاثة الأخر تقنية مع تفاوت في تعقيدها.
“والغريب في التقنية أنها كلما ازدادت تعقيدا كانت استجابة المتلقين إلى محتواها غير معقدة.”.
“لقد قام مفهوم الجنس الأدبي على أساس تثبيت مجموعة من الخصائص(…) وتمنح الجنس الأدبي مفهومه وتميزه عن غيره بهذه الخصائص، وهذه الخصائص مستمدة من السمات العامة لطرائق تشكل النص. وهي خصائص لغوية خالصة، سواء عبر الوسيط الطبيعي أو الوسيط الورقي، فلا وجود لغير اللغوي، ولكن النص التفاعلي يقوم فضلا على اللغوي، على غير اللغوي أيضا كالصوت والحرف والموسيقى والصورة الثابتة والصورة الحية، دون هيمنة لواحدة من هذه اللغات على الأخرى.”.
“ولصفة التفاعلية مظهران، خاص بالنص، متورط في جميع علاقاته العلاماتية وترابطاتها، وبمختلف أنظمتها، ضمن شمولية لا تميز بين نظام سيميائي وآخر.
والآخر خاص بالمتلقي، إذ يسهم المتلقي في عملية إنتاج النص بدور إن لم يكن زائدا عن دور مبدعه فهو مكافئ له.”.
هذا التصور يحتم إعادة النظر في كثير من المفاهيم التي ثبتتها النظرية الأدبية من قبيل: الجنس الأدبي، النص، العلاقات النصية، تداخل النصوص، وحدة النص، التناص، استجابة المتلقي، لحد يمكننا التساؤل فيه عن حقيقة بقاء النظرية الأدبية! فكل ما سبق من اصطلاحات مركزية أصبحت مفاهيم كلاسيكية.”.
ففضلا عن إشكالية مصطلح “الجنس الأدبي” في الأدب التفاعلي، ثمة إشكالية أخرى أكثر جذرية، وهي قابلية نمذجة هذا الأدب حسب النماذج التواصلية.
فالتفاعلية الرقمية تلك قد غيرت من مواقع مفردات النماذج التواصلية(الكلاسيكية) فقد وضعت كلا من المرسل والمستقبل في جهة واحدة متوازية، ووضعت النص في الجهة المقابلة. بما يعطل مفهوم الإرسال بشكله المنمذج كلاسيكيا.
يبدو أن علينا نسيان نموذج التواصل ولسانياته، لا مجرد إهماله فقط.
النص التفاعلي/المترابط/التشعبي فبعض وحداته تحيل للأخرى إلى روابط نصية إلكترونية مرتبطة بتلك الوحدة أو متشعبة عنها. الأمر الذي يجعل تلك الوحدات جميعا بمثابة عتبات، بل إن البعض بالغ فعد النص التفاعلي كله عتبات تشكل فيما بينها نصا في الوقت نفسه الذي تكون كل واحدة فيه مدخل نص آخر أو أكثر.
وعليه فكل النظريات الأدبية الأخرى غير قادرة على نمذجة الأدب التفاعلي فحُق التفكير في نظرية أخرى مستقلة تماما للنص التفاعلي الأدبي.
فكل وسيط تواصلي له سميائيته الخاصة به، وتبقى إمكانية التحول مفتوحة بين الأنواع الثلاثة.
وعموما فقد وفر النص التفاعلي حرية غير مسبوقة على المستوى الإبداعي والتلقي، جعل القارئ شريكا فاعلا بعملية تخليق الإبداع رأسا برأس المبدع ذاته.
“لقد أسقط الأدب التفاعلي كلا من النظرية الأدبية ونظرية الأجناس في جب الكلاسيكية، وبدا حراً من قيود الاثنين، وإن ظل بعض المنظرين يحلمون بوضع قيد معرفي له. فوضعوا نصوص هذا الأدب التفاعلي تحت عنوان جزئي هو مصطلح(جنس أدبي)!
وليس أضر على الجديد من وضعه قصرا تحت قيد نمذجة القديم.
وخلاصة الأمر أن الأدب التفاعلي بحاجة لنظرية تفاعلية أدبية جديدة بمصطلحات جديدة، متحسبةً لهذا القدر من الحرية غير المسبوقة والتي وفرتها ظاهرة الأدب التفاعلي.
“21”
القصة الشاعرة من النص إلى الجنس.
“متى أمكن التصرف بالواقع، فليس ثمة مجال للحديث عن أقدار لا مفر منها، كذلك العولمة ليست قدرًا مقدورًا، ومن ثَمّ فبالإمكان التصرف بها لحساب هويتنا وخصوصياتها…صحيح أنها أفرزت ودعمَت نمطًا غير مسبوقِ من الاجتماع الإنساني العابر للخصوصيات هو النمط الرقمي بكل مخاطره، وبالرغم من هذا، فبقدر ما يمثل ذلك من تهديد للهويات، يمثل من جهة نقيضة محفزًا لابتكارِ دفاعات نوعية عنها، وعن خصوصياتها من دون أن تنعزل عن الفضاء الإنساني محققةً إعجازَ الجمع بين النقيضين، أعني خصخصة العولمة، هذه الكلمة التي يجب اعتمادها مصطلحًا في مواجهة هذه العولمة المتوحشة. ونظرًا لظروف تاريخية عديدة تخص مجتمعاتنا العربية، فلا يمكن الزعم أننا خرجنا من المرحلة الكولونيالية، كما أن استقلالنا استقلال شكلي وجزئي.”
هذا التأثير الكولونيالي العولمي (الكولوعولمي) المزدوج على مجتمعاتنا العربية شكل مقاومة عنيفة على الصعيدين المادي، واتسعت المقاومة لتشمل الصعيد الأدبي كمقاوم لتذويب الهويات، وفي ذات الوقت فائق الحساسية في الاستجابة لضرورات اللحظة.
فكان لابد من إبداع جنس جديد بعد العطب الشديد والذي حدث لأعرق الأجناس الأدبية العربية\ الشعر والنثر(السرد) بفعل الضربات الموجعة لأداة العولمة\الهوية الرقمية. وتلغيم الفراغ القائم على حدود الجنسين الأعرق عربيًا مسببةً قدرًا هائلًا من الفوضى الأجناسية غير المنضبطة بفعل شعبوية أدوات الاتصال الذكية الحديثة وعدم اقتصار استخدامها على طبقة اجتماعية أو مستوًى ثقافي ما؛ فصارت الكتابة في متناول الجميع أيضا بدون أي اعتبارات ثقافية أو إبداعية، فدخل عالم الكتابة الأدبية من لم يكن يحلم أو ينبغي له أن يحلم بممارستها (إبداعًا) و(نقدًا)!!
فبينما اقترحت ثقافة الأخر(الغرب) قصيدة النثر كجسر للهوة بين الشعر والنثر/السرد، وحينما استُنسِخت عربيًا اجترح النثري\السردي إثمه على الشعر، فَبَهَت الشعرُ حتى اقتصر وجوده فقط بعنوان اصطلاحي ظالم يُسمى (قصيدة النثر). فلم تقلص قصيدة النثر المسافة بين الجنسين العربيين الأعرق بل جارت ظلمًا على جنس دون الأخر.
كل ما سبق أدى إلى البحث عن جنس جديد وُلد ونشأ عربيًا لا مستوردًا كقصيدة النثر؛ فكانت (القصة الشاعرة). وغني عن الذكر أن ظهور أجناس أدبية جديدة بمثابة استجابة حتمية لضرورة اجتماعية بمقامه الأول.
وإذ وصلت قصيدة النثر لطريق مسدود قضى على ما تبقى من (شعريتة) بفعل الغزو الجامح من قبل العاديات الحياتية، ووصلت القصة القصيرة لذات مصير قصيدة النثر و تماهت باللحظية المخلة متمثلة في القصة القصيرة جدًا أو قصة الومضة كانعكاس للواقع الرقمي الطاغي! كذلك فقد هُدِمت ثوابت الرواية كلاسيكية بالشكل الحديث منها.
فكان لابد عربيًا من ظهور القصة الشاعرة.
يتناول د”الجزار” شرحا وتعريفا بتجربة الشاعر(محمد الشحات) والذي عدّه المؤسس الأول لهذا الجنس؛ فتناول ما اشترطه”الشحات” من شروط لتحقق هذا الجنس، من مركزية القص، التفعيلة، المجازية، الوعي والموضوع، الاقتصاد الإبداعي،جدل الشفاهي والكتابي.
مركزية القص:
القص ممارسة إسناد حدثٍ لشخصية أو أكثر توسيعًا وتقليصًا وحذفًا وزيادةً وتقديمًا وتأخيرًا وتعليق بعضها على بعض حسب رؤية الكاتب وصولًا لتحويل الجملة إلى نص، ومن ثمّ فالحدث والشخصية من خصائص القصة الشاعرة.
التغعيلة:
شرط صارم لا يمكن تجاوزه وذلك للحفاظ على الشكل\الشعر كمميز مركزي.
المجازية:
فالمجاز في الشعر هو جنسه الأول لتتضافر التفعيلة مع المجاز للحفاظ على هوية الشعر وعدم تكرار ما حدث في قصيدة النثر بضياع الشعر بفعل العادي والحياتي.
“فإننا مع القصة الشاعرة أمام حالة فريدة للشعرية التي تقوم على تضافر اللغتين العادية والشعرية تركيبًا وسياقَا في إنتاجها.
الوعي والموضوع:
يرتهن الوعي إلى الواقع،فالوعي وعي بشيء في الواقع؛ وعي بالرقمنة المسيطرة على الواقع؛ وعليه كان الالتزام بما تفرضه الحياة الرقمية من اختزالية نصية لازمة، والتزام بقضايا المُعاش العادي(السرد) مؤطر بإطار شعري مجازي تفعيلي(الشعر).
الاقتصاد الإبداعي:
التعبير بأقل التراكيب اللغوية على المعنى كميزة من مميزات الشعر، وأيضا كميزة من مميزات الواقع الرقمي.
جدل الشفاهي والكتابي:
تقلصت المسافات التي كانت تفصل بين الكتابي والشفاهي حتى أنها أصبحت ثنائية غير مُعترف بها، وذلك أن السردي بكافة أجناسة يقف ضد هذه التقابلية الحاكمة كلاسيكيًا.
يضع الدكتور تعريفًا للقصة الشاعرة” نص تنصهر فيه بعض خصائص القصة والشعر المنتقاة ضمن اقتصاد لُغوي تمتنع معه إحالة أي من العنصرين إلى جنسه الأدبي.”.
“ولست أخشى على الجنس الوليد من شئ خشيتي عليه من النقد التطبيقي فربما خلط الاحتفاء بموجبات النقد فأهدر التجربة الرائدة عربيًا وعالميًا، أو حاكمها إلى شروط النقد فقسى على تجربة لم تزل في مهدها… لا تئدوا التجربة بسرعة إدخالها إلى مختبرات الدرس، فلم تزل في طور التشكل. نعم، لا بد من نقد ما دام هناك نص أدبي، ولكن ما أطالب به نقد تعريفي أكثر منه نقد تحليلي، فلم يزل الوقت مبكرًا جدًا على هذا النوع من النقد المنهجي، فيما يخص القصة الشاعرة.”.
“22”
شعرية الخطاب المعرفي والعلمي.
ناصب الخطاب المعرفي والعلمي العداء العنيف لكل بادرة شعرية حاولت اختراق نصوصه العابسة المتجهمة. فالشعرية”تخترق كل شئ لم يجد من اللغة مناصًا لإقامة خطابه، وإن كان خطابًا علميًا صِرفًا، وليس معرفيًا وحسب. وكأن الشعريةَ قدرٌ ملازمٌ كلِ تحولٍ من اللغة إلى الكلام(بالمفهوم السوسيري للمصطلحين) وأيًا كان نوع الكلام.”.
فأصل (الشعرية) كمصطلح تبدى في الأسلوبية، وبهذا الجِذر التاريخي تم احتكار (الشعري) لل(أسلوبي) بالرغم من كون الأسلوبي في جوهره هو علاقة المتكلم بكلامه ومقاصده من وراء هذا الكلام “لا تختلف الكتابة العلمية والمعرفية عن الكتابة الأدبية في أن الأسلوب إحدى ضروراتها، وأن (الشعرية)-بما هي وظيفة لغوية- تخترقها كذلك. وأن الاختلاف في الكتابتين تختلفان في الدرجة وحسب.””إن الخطاب العلمي والخطاب الأدبي يمثلان طرفين أقصيين لخط تقع جميع أنواع الخطابات عليه بما في ذلك الخطاب المعرفي الذي أرى أنه يقع في منتصفه تمامًا، وبحسب الموقع الذي يشغله من هذا الحد أو ذاك، قربًا أو بعدًا، يصنع كل خطابٍ أسلوبيتَه، فيلتبس بكثير من خصائص الحد الأقرب له لغة وأسلوبًا، وفي الوقت نفسه لا يفقد تمامًا قدرته على الاستمداد من الحد الأبعد…وهذا الموقع الوسط الذي للخطاب المعرفي بين الأدبي والعلمي كان قمينًا أن يرشحه ليكون هو المعيار الأسلوبي الذي تُقاس إليه أسلوبية هذا الخطاب أو ذاك، لولا التطابق الذي ادعاه الأسلوبيين بين الأسلوب والأدب وخصوصًا الشعر…”.
“الأسلبة ضرورة من ضرورات الخطاب نوعًا وبنيةً ودلالةً، فما دام ثمة اختيار فهناك أسلوب ولابد” فما الذي قصر الأسلوبية في الأدبي فقط، إلا لما بُدأ الحديثُ به أن الأصل التأسيسي للأسلبة كمصطلح ارتبط ارتباطًا تاريخيًا بالشعرية عند ديسوسير وتلامذته.
فبين محاور الخطاب الثلاثة أسلوب الموضوع ذاته(المرجعي)، أسلوب الكاتب(التعبيري)، أسلوب تعبير الكاتب عن وجة نظره تجاه موضوعه(الفكري)، تخترق ذاتية الخطاب العلمي بذاتية كاتبه والذي يرتفع وعيًا أو لا وعيًا نحو الشعري.
” حتى في خطاب الرياضيات الخالص، لا يمكن الحديث عن موضوعية خالصةٍ فإبداعية (الشعرية قائمة) بالفعل فيه…”
“خلاصة القول إن للشعرية وجودًا بالقوة في كل خطاب/كلام، وتحولها المُمارسةُ إلى وجود بالفعل. وتتفاوت من الوجود لذاتها في الخطاب الأدبي، إلى الوجود لغيرها وجودًا وظيفيَّاً في الخطاب العلمي. والوجودان برهانان عقليان وواقعيان على حتمية الشعرية في كل ممارساتنا اللغوية.”
“23”
خطان عرفهما تاريخ الشعري العربي؛ الإبداعي وكان الشعري أمينًا مع ذاتيته وأسلوبيته منذ بداياته الجاهلية إلى الحداثية؛ والمعرفي وما ارتبط به من مرجعيات الثوابت الدينية.
“وفي الربع الأخير من القرن العشرين، وتحديدًا في السبعينيات منه، حدث ما لم يحدث منذ قرون، وفرض (الشعريُّ) على المؤسسةِ الأدبية البحثَ عن مناهج نقدية ملائمة لحداثته. وكانت الاستجابة الجذرية لرئيس الهيئة المصرية للكتاب حينها الشاعر الرائد صلاح عبد الصبور، فكلف الدكتور عز الدين إسماعيل بإصدار مجلة متخصصة بالنقد الأدبي، وكانت أول مجلة متخصصة في العالم العربي على الإطلاق تُعلنُ هذا على غلافها في عددها الأول:(مجلة فصول للنقد الأدبي).وأحدث محتوى العدد الأول انقلابًا معرفيًّا بكل معاني كلمة الانقلاب، واستمرت المجلة تمارس دورها من خلال استراتيجية التحرير التي وضعها المؤسس الأول الدكتور عز الدين، اللهم إلا في فترات قليلة كان الظرف التاريخ في مصر مبررًا لها.”
ليحدث انسجام الإبداع النقدي مع الخطاب النقدي في تاريخ الثقافة العربية، فتوازى الخطان بعد تاريخ من التقاطع أو القطيعة، فضلًا عن التناغم بين اتجاهات النقد الغربي والترجمة العربية قائمة وإن كانت بسبيلها للتقلص. ونحن الآن في العشرية الأخيرة من الخمسين عامًا الأولى من النقد الأدبي الحديث في الثقافة العربية، وقد بلغ من الرسوخ والثبات فيها أن امتلك تاريخًا في المؤسسات التعليمية، حتى أصبح أوشك أن يصبح من كلاسيكيات المعرفة النقدية، بكل ما للكلاسيكية من ثبات وسكون، وصولًا إلى ما يشبه الدوجماتية بكل ما لها من سلطة خفية ومعلنة وآثار تدميرية على الإبداع الفكري عمومًا والأدبي خصوصًا…
وهذا الكتاب هدفه الوقوف بحدة ضد هذه الكلاسيكيات ومن داخلها، تحفيزًا لولادة لحظة نقدية جديدة يفترضها بل يفرضها واقع (الشعري) نفسه. وقد ساد خطاب الما بعد في كل شئ: ما بعد الحداثة، ما بعد النسوية، ما بعد الكولونيالية، وحتى ما بعد الإنسان وما بعد الفلسفة، كان أقدم ما بعد (ما بعد البنيوية) وتمثلت في فلسفة جاك دريدا والتي فككك فيها كل مقولات الميتافيزيقا الغربية، إلا أن هذا العمل كان أقرب منه للتشظي منه للشمول، لم يصنع خطًا واضحًا فكان تأثيره محدودًا حتى بموطنه أمريكا وجامعته ييل.
” قد يكون هذا الكتاب فاتحة لما بعد النظرية الأدبية، لولا أننا لا نراكم معارفنا وإن كان الطموحُ واحدًا. شنشنةٌ أخزمية تأخذنا إلى الخلف بالرغم من طليعية بعض خطاباتنا،
ونرجسيةٌ تغلبية مستمدة من فطيم مجهولٍ تخر له جبابرُ غير معلومة ساجدينا، رغم سقوط الأندلس، واحتلال فلسطين، هذا فضلًا عن خطاب(الماقبل) الذي يُشهر كل الأسلحة دينية وأخلاقية وقومية في وجه كل جديد. لكنا سندعوها (فاتحةً) ونحلُم أن تُتَابع، من أجل موقع لفكرة واحدة بين صخب أفكار الآخرين الذي نستحيي صداه وقد انعدم صوته في مواطنه، أو نشمت بعدمه دون مبالاة بأنه أخذ موقعه من الذاكرة الإنسانية موقعًا من الذاكرة الإنسانية موقعًا بلغة غير العربية بالتأكيد…
هي إذن فاتحةٌ وبانتظار قادمين.”