عندما نستيقظ نحن الموتى.. قراءة في رواية عمار علي حسن “صاحب السر”

صاحب السر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى بيومي

ليس أفضل وأدق من عنوان آخر مسرحيات العملاق النرويجي هنريك إبسن: “عندما نستيقظ نحن الموتى” للتعبير عن الحالة غير التقليدية التي يقدمها عمار علي حسن في روايته “صاحب السر”، ففيها يندمج الموت مع الحياة فيصعب التمييز بينهما. الموتى لا يعودون إلى الحياة بطبيعة الحال، لكن السؤال الذي تطرحه الرواية: ماذا عن الأحياء الذين يُدفنون قبل الموت؟.

مرزوق الحر شخصية استثنائية ذات خصوصية وتفرد، ذلك أن التجربة التي يخوضها في الحياة والقبر بمثابة الشهادة الواعية الشاملة عن معطيات وتفاعلات الواقع من ناحية وهموم الوجود وما بعد الموت من ناحية أخرى، وهي شهادة تتجسد في بناء فني يواجه تحديا مكانيا وزمنيا: مكان ضيق مغلق وساعات قلائل للزمن الروائي.

**

مرزوق شاب ريفي يعاني مرضا مزمنا بالكبد، يصنع آلاما تفوق القدرة على الاحتمال :”راحت الكائنات الدقيقة المفترسة تنهشه لسنوات دون أن أدري، حتى صار معطلا تماما. وبعدها بدأ ألم لا يُطاق، كنت معه أستعجل الموت، فهو الوحيد القادر على أن ينهي وجعي الرهيب”.

يستقر مرزوق في القرية بعد فشله في استكمال دراسة القانون بكلية الحقوق، لكنه يعيش على هامش العملية الإنتاجية، فهو ليس فلاحا يزرع، والتحولات العاصفة في الريف المصري تحيله إلى واحد من كتيبة الواقفين في اللامكان، أما عن الأسرة التي ينتمي إليها فتسهم بالدور الأكبر في تشكيل شخصيته وتحديد مساره :”صرت وحيد أبي وأمي، بعد أن مات أخي الذي تبناه أبي حين وجده ذات فجر على باب بيتنا. وقال أهل بلدنا إن خاطئة مرت وألقته أمام أول بيت وجدته في طريقها، ثم اختفت في الزراعات”.

الابن المُتبنى، رزق، لا يهتم بالتعليم، ويحظى بشعبية جارفة في القرية :”عاملوه على أنه الابن الحقيقي لأبي، أما أنا، فكأنما الطفل الذي رمته خاطئة ذات يوم على باب دارنا”.

يحترف الأب مهنة الخياطة للرجال والنساء، والأخ المُتبنى هو الأكثر حضورا وتوهجا وقدرة على الحركة والنشاط واكتساب الشعبية عبر قدرته الفريدة على صناعة المودة وغزو القلوب. اختفاؤه بعد السفر إلى ليبيا يقود “مرزوق” إلى أداء الخدمة العسكرية مجندا في سلاح الصاعقة، ما يضيف المزيد من الخبرات والتجارب، وصولا إلى ترسيخ رؤية مثالية تحكم أسلوبه في التواصل مع الحياة والأحياء :”كنت من المؤمنين بأن الأشرار ستحرقهم نار جهنم، وسيرفل الأخيار في النعيم. طالما كنت أرفض رأي كل من كان يحاول أن يشككني في هذا، ولم أكن أطيق أن يساوي التراب بين الناس، فلا يُعاقب من أفسد وظلم، ويُثاب من أصلح وعدل”.

لا تعترف آليات الصراع في الحياة اليومية بالرؤى المسرفة في المثالية، فهي تتجاهل قوة وسطوة الشر والأشرار، تلك التي تفرض على العالم جملة من القوانين الصارمة المغايرة لما يعتنقه مرزوق من أفكار. هل يمكن لشخصية على هذا النحو أن تصمد في مواجهة الطوفان القادر على التهام المثاليين؟. الإجابة لا بد أن تكون بالنفي، وفي نبوءة قارئة الودع إشارة مبكرة لما سوف يكون :”نهايتك لا مثيل لها في بلدكم، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”.

**

ما أكثر أوجه الشبه بين مرزوق و”الشيخ شيخة” في قصة يوسف إدريس. كلاهما يدفع حياته ثمنا للأسرار والخبايا التي يعرفها، والتزام الصمت لا يجدي في تبديد المخاوف التي تسكن المذعورين من أشباح التشهير والفضيحة. بفضل الخدمات القانونية التي يقدمها طالب كلية الحقوق المتعثر لأبناء قريته، وبفعل الرغبة الإنسانية المشروعة المبررة في البوح والاعتراف، يحيط مرزوق بالكثير، مثله في ذلك مثل أبيه الذي اعتاد الجميع أن يبوحوا له بالأسرار :”وبمرور الوقت أدمنوا هذا، فلما مات لم يتمكنوا عن الإقلاع عما أدمنوه، ولبيت أنا حاجتهم إلى الفضفضة فقالوا لي كل شيء”.

بعد سنوات من التواصل والاندماج يتحول مرزوق إلى “صندوق أسود” تُودع فيه كمية هائلة من الحكايات الخطيرة المثيرة، ووفقا لما يقوله مرزوق نفسه :”في بيوتهم سمعت ورأيت ما لم يره غيري. وزادني، كي أصبح مستودع أسرار أهل قريتي، أنني كنت صامتا طيلة الوقت، وحين أنطق أقول لهم المختصر المفيد.بدوت في نظرهم حكيما من زمن غابر، أمدني المرض بحكمة أخرى معتقة، لا يؤتاها إلا قصيرو الأعمار.

ربما أدركوا، بعد أن ثرثروا أمامي طويلا، أنني عرفت عنهم جميعا أكثر من اللازم، وأن صمتي إلى الأبد خير لهم”.

يعرف الكثير مما يشين العمدة وشيخ الخفر، ويحيط بالأسرار والخبايا الكفيلة بفضح وإدانة من يتوهمون أن أسرارهم مخبوءة مستورة لا سبيل إلى الوصول إليها :”ظل هناك ما أعرفه أهم من علاقات الغرام بين رجال ونساء، وشذوذ جنسي بين رجال وولدان. فبعضهم حكى لي عما سرقه، وهناك من قتلوا أشخاصا وسُجلت جرائمهم ضد مجهولين. وهناك من حرقوا زراعات، وسمموا بهائم، وأطلقوا شائعات لتلويث سمعة حرائر، وقذف محصنات، حتى أصبحت أراهم جميعا عرايا تماما”.

مثل سكان قرية الشيخ شيخة تماما، يوقن أبناء القرية التي يقدمها عمار بغياب الخطر، ذلك أن الصمت مشترك أساس بين مرزوق وشيخة، ولا حرج عندئذ من الثرثرة التي يتوهمون أنها مأمونة بلا عواقب وخيمة :”ورغم أنني مسلم، وأغلبهم من المسلمين، فإنهم تعاملوا معي كقس بوسعهم أن يجلسوا أمامه خاشعين نادمين، ليعترفوا بذنوبهم، ويطلبوا الغفران من الرب”.

هل من ضمانة حقيقية لضمان الصمت والستر؟!. الإجابة بالنفي، ولا مهرب عندئذ من مواجهة خازن الأسرار الخطيرة والتخلص منه بالدفن حيا.

**

العمدة هو المتهم الأول في المصير الذي يئول إليه مرزوق، والفضيحة الأكبر في حياة الحاكم المحلي الفاسد تتمثل في حقيقة نسب ابنه الوحيد الذي جاء بعد انتظار طويل. تبوح زوجة العمدة بالسر الخطير الكفيل بزلزلة المكانة والإطاحة بالهيبة :”كان نفسه في الولد، وإن لم آتِ به، فإما يطلقني أو يتزوج أخرى معي. لا يريد أن يصدق أنه عقيم. جئت له بالولد من غيره. رجل غريب تسلل إلى غرفتي، في غياب العمدة، ليسرق. وجدني عارية في ليلة صيف، فرمى نفسه فوقي، واستسلمت له، ووهبني الولد، الذي يطير زوجي به فرحا”.

هل تغيب عن العمدة حقيقة إنه عقيم لا يمكن أن يكون أبا؟. لا بد أنه يعرف أيضا إدراك مرزوق للسر الخطير، فكيف يأمن له أو يثق في كتمانه؟. مجرم محترف مثله لا يتورع عن إضافة جريمة جديدة إلى سجله الحافل، فلا غرابة أن يكون المتهم المرشح لدفن مرزوق قبل موته: “كل شكوكي تحوم حوله، ألم يرمني بشرر من عينيه قبل أيام من غيبوبتي، وقال:

– إن لم تبلع لسانك فسأخرسك إلى الأبد.

يومها تطلعت إليه في فرح، وسألته سؤال من لا يعرف شيئا:

– على أي شيء أبلع لساني يا حضرة العمدة؟

أمسك كتفي الضامرة، وضغط عليها بأصابعه الخشنة، وقال:

– أنت تعرف ما أقصده.

ورأيت في عينيه الجاحظتين كل الأسرار التي استعرت في رأسي. كانت مرسومة في مقلتيه، وأطل الغل وراءهما جمرات متناثرة، شعرت أنها ستطير إلى ملابسه القطنية، فتحرقها وتحرقني”.

خداع داهية مثل العمدة ليس بالأمر المتاح الميسور، وإنكار مرزوق لمعرفة الواقعة المشينة لا يعني أنه يجهلها. لا يتردد العمدة في محاولة قتل مرزوق بالسم قبل سنة من دفنه حيا، وليس مستغربا أن تستمر محاولاته للتخلص من الخطر الذي يهدده :”كان بارعا في تمييع الجرائم، بينما يُظهر لأهل المختفين أنه لا ينام الليل من انشغاله بغيابهم. وياللعجب، كانوا يصدقونه، أو يجارونه”.

المعركة تخلو من التكافؤ والندية، والعمدة في رواية عمار علامة تنم عن طبيعة الحياة المصرية الجديدة في ظل الانهيار الشامل وليد الاختلاط والاضطراب وتشكيل منظومة قيم قوامها الفساد والانحراف. في القبر، تُتاح لمرزوق معرفة المزيد عن العمدة الذي يمكن القول إنه تجسيد للشر القوي الذي يكتسح ويهيمن بلا رحمة، ولصوص المقابر هم من يزودونه بالجديد:

“- ألا تعرف أنه أكبر تاجر مخدرات في الزمام؟”.

لا يعرف شيئا محددا عن تجارته في المخدرات، لكنه يعرف مخاوف الزوجة من ماله الحرام، ويستمع إلى ما تقوله عن تجارته في الحشيش والأفيون والسلاح!.

مثالي مريض وحيد قليل القوة والحيلة، في مواجهة شرير قوي محاط بالأتباع والأعوان المسكونين بالطمع والخوف، فأين الندية التي تقود إلى معركة عادلة متكافئة؟.

**

الحب سلاح وحيد يمتلكه مرزوق في مواجهة المناخ الفاسد والشر القوي، لكنه حب لا يكتمل ويتم إجهاضه مبكرا. حميدة هي الواحة التي يراهن مرزوق على اللجوء إليها ليظفر بالانسجام والراحة والإفلات من حصار الخيابات والهزائم والانكسارات، وهي تبادله حبا بحب ولا تملك أن تواصل الرحلة معه :”زوجوها وأنا غائب، وعدت فوجدت الخنجر المسموم في انتظاري، ليطعنني به أول شخص يقابلني على باب القرية، حين قال:

– حميدة تزوجت”.

يتحطم الحب الذي يجمعهما على صخرة عقبات قاسية يستحيل تجاوزها، ورد الفعل على ضياع الحبيبة يقتصر على معانقة الألم والوجع :”ولم أفعل يوم عرفت خبر زواجها، سوى أن تركت الألم يتسرب على مهل إلى شراييني ومنها إلى خلاياي، ليسكنني إلى الأبد، واختزنت دموعي لأدعها تتساقط قطرة قطرة. كل يوم قطرة، حتى لا أنسى حميدة”.

لا شيء إلا الاستسلام واستدعاء الذكريات والتشبث بأحلام اليقظة انتظارا لمعجزة يعي العاشق المأزوم أنها أقرب إلى السراب :”وتذكرت أيام كنت أجلس تحت الصفصافة العالية التي ترمي ظلها على ترعة مجهدة، كيف كنت أقول لنفسي، وأنا غارق في دموعي:

– أراها، ولو لدقيقة واحدة، ثم أموت بعدها”.

حميدة ليست من المنتميات الأصيلات إلى عالم القرية، فهي وافدة مع أبويها الغريبين، وزواجها يقطع كل صلة لها بمرزوق الذي يعرف في محبسه الأخير خبر موتها وهي تلد. ترفض أن يغادر عالم الموتى ليعود إلى صخب الحياة الماسخة، وتطرح عليه سؤالا ينم عن انحيازها وحماسها للعالم الجديد:

“- لم تريد أن تغادرنا؟

لسعني سؤالها المباغت، لكن كانت لديّ إجابة جاهزة:

– الحياة تستحق أن تُعاش.

سمعت ضحكة صافية، بعدها جاء الكلام:

– ما يستحق أن يُعاش هو ما أنت ذاهب إليه”.

العودة إلى الحياة، بكل ما فيها من هموم وهزائم وإحباطات وانكسارات، أم التهيؤ للعالم الجديد المجهول الذي تنبىء كلمات حميدة أنه الأفضل والأنقى؟. سؤال كهذا يدفع إلى التفكير: ما الفارق الجوهري بين الأحياء والموتى؟.

**

يتوحش الأحياء فيطيحون بجلال وهيبة وقداسة الموت والموتى، وتأبى الطبيعة إلا أن تتدخل بكل عنفوانها وقسوتها ليكتمل المشهد الكابوسي الدال على المدى الذي وصل إليه التخبط والانهيار وتداخل المعايير والمفاهيم :”من قبل كنا ندفن الموتى في قبور، وعلى شواهدها الإسمنتية لوحات حجرية محفور بها اسم الميت وتاريخ الوفاة.لكن حين فتحت السماء أنهارها الخفية فانهمرت سيول غزيرة ذات يوم، وتجمعت في فجاج فوق الجبل، ثم تدفقت قوية فجرفت أمامها كل القبور.

يومها هرعنا جميعا نحو المقابر، بعد انحسار السيول، ورحنا نلملم الجماجم والعظام النخرة، التي تناثرت هنا وهناك، دون أن نعرف إلى من تعود. لففناها في أكفان جديدة، ودفناها معا في قبر كبير”.

يمتد غياب الخصوصية إلى الوت ولا يقتصر على الحياة، و”السيل” هو المشترك الي يقود كتيبة التغيير لتنسف كل مستقر مألوف في الحياة الإنسانية السوية، قبل هجوم السوقية والابتذال والسقوط في براثن التحولات السوداوية المدمرة. لا شيء يبقى من الموتى إلا أطلال الجماجم والعظام، والقبر الكبير بمثابة المسخ الذي تغيب معه الأصول التاريخية والسمات الفردية، بل إن هذه البقايا الهشة لا تنجو من السطو الذي يطيح بالقليل المتبقي من الموروث. نابشو القبور لا يرحمون الموتى، فهم ذئاب بشرية مسرفة في السلب والنهب :”يسطون على الجماجم وبعض العظام الطرية، ليطحنوها ويخلطوها بحبوب الهلوسة والنوم وأدوية الحساسية، فتصير بودرة يقبل عليها المدمنون، ويدفعون فيها أموالا طائلة”.

الشهادة هنا عن الحياة قبل الموت وبعده، ولا متسع في ظل الطوفان الكاسح للحديث عن راحة الموتى واستقرارهم بعد حياة من العناء والتعب. تُسرق بقاياهم في القرى، ويزاحمهم أحياء المدن في سكنى المقابر بعد تحويلها إلى حياة صاخبة مزعجة. إنه التداخل المرعب الذي ينهض دليلا عمليا على عمق وضراوة الأزمة :”يطلق عليهم أصحاب الياقات البيضاء “سكان القبور”. يعدون عنهم الأبحاث الميدانية، ويكتبون المقالات والخواطر، ويكتبون القصص والروايات، ويصورون الأفلام والمسلسلات، لكن أحدا من هؤلاء لم يجرب أن يبيت ليلة راقدا فوق عظام الموتى.

إنها بيوت خفيضة متاحة لمن لفظتهم الشوارع الوسيعة، بعضهم يسكنها بالإيجار، وبعضهم سيطر عليها عنوة، وبعضهم يتسلل إليها ليلا ويفارقها حين يشق الفجر ستائر الظلام”.

لا فارق إذا بين الحياة والموت، ولا مجال للتمييز بين الأحياء والموتى. هل يعي مرزوق “صاحب السر” أن هذا هو السر الأعظم الذي ينبغي إدراكه والتوقف عنده؟، وهل له أن يقرأ نصيحة حميدة على ضوء هذه الرؤية الشاملة التي تتجاوز الظاهر المباشر؟. النصيحة المقدمة من الحبيبة جديرة بالانتباه والاهتمام :”لماذا تعاني من أجل الخروج، مع أن الدخول إلى هنا خروج إلى البراح، والخروج من هنا دخول في الضيق الشديد؟!”.

ما الذي يقوله عمار علي حسن في روايته، التي تتسع فيها الرؤية وتضيق العبارة؟.

إنه يحض على الخروج إلى النهار الحقيقي، حيث البراح.

…………

*مقال منشور على صفحة الكاتب والناقد مصطفى بيومي على “فيسبوك”.

 

مقالات من نفس القسم