إسلام عشري
ينكسر الهواء عند تجعيدات معطفي، وعلى رقبتي، وظهري. وعلى وجهي. لاسعا لي. تتذبذب عضلاتي في موضعها، تسري رعشة فيَّ من الرأس إلى أخمص القدم. الهواء يطوحني والمقهى ينتظرني، بمنادِ سمج، لسانه “زفر” كأن أمه أرضعته سمكًا وهو صغير. طلبت قهوة ماسخة ومعسلا.
جاءت القهوة باردة، نسيَها على النصبة، شربتُها باردة، دسستُ أنفي بها، ستمر من هنا بعد دقيقتين، وجهها كان كبيرا لدرجة تكفي للعب (إكس أو) بخدّها، ولكني أحبها.
قبل أي يحدث ما بيننا، مضت إلى القلة التي ترصع الحائط ولقفتها بيدها فشربت حتى تحدرت المياه عن شدقها الغض، أمسكت الكليم من يدها ونفضته على الدرابزين، فطردته، بكت الكليم من نفضها ترابا. أعطاني الله قدرة عجيبة، أستطيع أن أقسم ذاتي لنصفين، اليوم استيقظت من نومي لأجد نسخة مشابهة لي بسريري، كأني أرى نفسي بمرآة. أمتطى جسدي الآخر.
الآخر كان يتركها لمفردها، تفرك روحها، تمسح بعينها على الباب، تنتظر لا شيء، تضوي قنديلا قد أزهق فتيله.
كان يتركها حين يجن الليل، فتخزي شيطانها وتتركه لمفرده. تذهب إلى صحن الدار وتكنسه دون أي بارقة في ذهنها، ترص الحجرات عند بوابة البيت اللين، والهواء يقرع البيت الفارغ.
ولإبعاد تلك الخواطر الخجلى كانت تحجل بمقشتها، تحدج الغبار بقسوة، وتفكر في، تثبت عليها طرف جلبابها، بينما وجدت الماء يدفق في هدوء.
الآخر كان سيفلت لي الشيشة، ويحلق حولها ويكلمها بعنفوان بالغ “أنها السبب” مرت وأنا ساكت، صحت بها بصوت غريب عني، لكنها لم تسمع. كان ينسحب داخلي حينما أكون بحاجة له، ويجعلها تشير إلى أول تاكسي وتترك موقف الأتوبيس التي تتحدث به الآن في الهاتف، وستحدث السائق عن ذلك الرجل الذي هامت به بجنون، ولكنه لم يعطها أذنه، ستتحدث للسائق المجبور أنها لا تريد أن تأكل ولا تريد أن تنام وأنها بطريقة ما ستبحث عمن هو أفضل منه.
زومت بمكاني أفرغت حجري معسل بمعدتي. أهش كلبا لقصه شريط هوائي، رجفت لرؤيته يسارع عرسة على الأرض. الآخر كان سيثقب عينه بسيخ التسليك للشيشة. نخس الهواء جانبي، فقمت.. رحت البيت.
غبت قليلا، كان أخي يزعق، من حقه أن يفعل طالما هو ببيته “الأكل هيبرد”، الآخر كان سيزعق هو الآخر، ولكنه اختفى، دخلت غرفة أخي، وفتحت اللاب، وانتظرت أمام الوهج المنبعث من شاشته، وجدت صورته تلمع بالخلفية بصلعته اللامعة. ولأن الاحتمالات لا نهائية، فحينما اختار ثلاثة أصفار بعد أن نسيت الباسورد، أصدر موافقة وفك شفيرة الجهاز.
منذ عشر سنوات، أو اثنتي عشرة سنة أخي بدأ يعولني، لأن الآخر كان يختفي وقتها، أعطاني أخي شيكي الشهري في جيب ملابسي أمام زوجته. وأنا لا أملك سوى التأتأة، بعدها شكرته.
كنت قد فتحت دكانا لبيع الألبان، لكن لأن العنوان يصعب على البقر الوصول إليه، لم يستمر طويلا، كان في مكان سيء وردئ، وراء مقهى لا تقدم إلا الشيشة القص والكوكاكولا. تجرعت حسرتي بداخلي. فريت البوستات المعادة، نفس الملل، وضعت يدي على جيبي لأتأكد من موضع الفلوس، كان مكببا، سيكون مبلغا كافيا لنا لآخر الشهر. لدي مناسبة تستوجب هدية، وجدت حقيبة جلدية ولكنها ستأخذ مرتبا مثلا لأخي. فتحت صفحة واحدة كنت أعرفها، معدتي تنغص عليَّ، أطلقت ريحا بعدما تأكدت من خلاء الغرفة، أخي دخل، ومعه صينية الأكل: “إنت إزاي بتخدم نفسك؟” قلت: فيه مشكلة؟ضحك وقال: “لا يا سيدي”.
الآخر
منذ شهر لا أكثر ذهبت للمستشفي، وأعطيتهم اسم أخي وعنوانه، كنت لمفردي، لم يكن الآخر معي. نظر لي الطبيب من تحت النظارة باحتقار، ابتلعت نظرته بريقي، بعدها أصبحت أنا وهو مثل السمن والعسل، تكلمنا معا عن رغباتنا كاملة، وأعانني في المبيت، لم أخبر أحدا بذلك.
تركت كل شيء ونخيت بعد أن انكفأت على وجهي ونمت، الآخر قام آخر الليل وضحك “ههه” ثم قام بسب ملة ودين لكل شيء، سمعته، يبدو واثقا هو الآخر، لا يتجاوز الوقت القليل، الآخر تركت له فعل كل شيء..
كان ممثلا في المسرح، وعضوا بنادي الشطرنج، ولاعب كره حريف بالفسحة، ومطعما لعصافير الباحة، ومغنيا للبنات بالأروقة، وتاجر شنطة بالطريق، وبائعا لألواح الثلج قبل أن يسيح النهار، كان شوالا معدا للشقاء معبأ في مكان تافه، ولكن بدلا من الوقت الذي كان سينغى تحت ثدي زوجته ينفخ عينه ويصب الفلوس بإحدى الملاهي، يسلك حلقه ويتغرغر ويعود إلى حالته، مثل الحمار الذي لم ينم بالأسطبل، ينفد وعينه حمراء بلا بياض، يطق الشرر على المارة، يبصق على النجيل فيحرقه، النوم لا يغلبه ولا يطفئ الجمرة المتشبثة بعينه.
لا يوجد دائما، يغيب يغيب، يغيب يوما ويعود يوما، يعوي طيلة اليوم إلى ما بعد المغيب داخلي، الآخر يفعل كل شيء أردت فعله يوما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وروائي مصري، والقصة من مجموعة “الشارع صفر” المرشحة على القائمة الطويلة لجائزة ساويرس لهذا العام 2021