فيلم “أبو صدام” … 24 ساعة في حياة بطل مهزوم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهلة أحمد مصطفى 

لا ينفك “أبو صدام” عن ترديد “أنا أبو صدام أنا ملك الطريق” طوال أحداث الفيلم، مرات بصوتٍ عالٍ ليتأكد أن جميع من حوله يسمع ويعرف ذلك، يعرف مكانته وهيبته بين زملائه في العمل أو بين أفراد أسرته.. ومرات أخرى يتمتمها بصوتٍ لا يسمعه غيره، وكأنه يقولها لنفسه، محاولًا إثبات شيء ما، لنفسه، قبل أي أحد آخر.

يمكن تصنيف فيلم “أبو صدام” وهو الفيلم الثاني الطويل لمخرجته “نادين خان” ،بعد فيلمها الأول “هرج ومرج” في 2012، أنه “فيلم طريق” حيث ينطلق فيه البطل في رحلة ما على الطريق، سواء كانت تلك الرحلة للبحث عن شيء مادي أو معنوي، أو إذا كانت الرحلة تنتهي بتغيير ما أو تعود بالشخصيات إلى منطقة الصفر مرة أخرى.. ويبدأ الفيلم وينتهي أيضًا على الطريق. فالفيلم يبدأ بصوت ” أبو صدام/محمد ممدوح”، الذي فاز بجائزة أفضل ممثل في فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي عن دوره، في مكالمة مع رئيس عمله، بينما هو في مهمة نقل على طريق الساحل الشمالي بعد انقطاع عن العمل دام لسنوات عديدة وبجانبه مساعده “حسن/ أحمد داش”، وننطلق من هنا ولمدة 90 دقيقة في رحلة داخل “تريلا” أبو صدام.

ذكورية هشة ومحاولات زائفة للسيطرة

ينطلق فيلم أبو صدام سريعًا منذ المشهد الأول بالتعريف عن شخصياته، لا يترك مساحة كبيرة للمشاهد للتساؤل عمن أمامه على  الشاشة، فسرعان ما يشترك مع الحدث. وبطبيعة أفلام الطريق، فإن ذلك التعريف يأخذ وقتًا لا بأس به حتى يصبح المشاهد على معرفة تكفيه لمتابعة أحداث الفيلم، ليس كمتفرج فقط، بل أيضًا كرفيق للشخصيات في تلك الرحلة.

فمنذ اللحظة الأولى، نسمع عن ذلك “الخدش” الذي تم إحداثه في التريلا الخاصة بأبو صدام، كيف استغل أحد زملاؤه عدم وجوده وأحدث خدشًا فيها.. الشيء الذي أثار غضب أبو صدام طوال أحداث الفيلم، وظل يتحسس ذلك الخدش بإصبعه في مشهدٍ تكرر عدة مرات، يتحسسه ويحدق فيه طويلًا، وكأن ذلك الخدش الذي حجمه يكاد يكون أصغر من إصبعه، علامة يستطيع أن يراها الجميع على عدم “رجولته” الكافية.

ذلك الإحساس بعدم رجولته، تلك الذكورية الهشة بداخله، كانت هي الدافع الوحيد وراء جميع تصرفات “أبو صدام” سواء منها ما رأيناه على الشاشة، أو ما ندرك أنه يحدث كل يوم في حياته دون الحاجة لرؤيته.
وكان يتجدد ظهور ذكوريته الهشة ومحاولاته المتكررة الزائفة للسيطرة كلما اصطدم إما بأحد الرجال الذين يحاولون وربما ينجحون أيضًا في السيطرة عليه، سواء من أسرته أو من عمله، إما مع أي ظهور نسائي في حياته، حتى ولو كان عابرًا.
فنسمع من خلال الهاتف جداله مع زوجته بعد أن حاول أخاها جعلها “تخالف” أوامره، ومحاولاته لفرض قيود غير ضرورية أو منطقية فقط من أجل إرضاء ذاته والشعور بأنه المتحكم في زمام الأمور.
ويظهر مرة أخرى عندما تحاول فتاة بسيارتها “الفارهة” أن تتخطاه وتسبقه على الطريق بطريقة، كما وصفها، هوجاء ومن الممكن أن تؤذيها.. وعندما يراها مرة أخرى في أحد أماكن الاستراحات، ويرى أنها خائفة منه، تأخذه جلالة نفسه ويواصل بث الخوف فيها مما يدفعها مسرعة إلى مغادرة المكان، فنراه يقف في الخارج يراقبها، فخورًا بنفسه، تعلو شفتاه ابتسامة ماكرة، وكأنه نجح للتو في اختبار لإثبات رجولته المتفحلة.
ولقد أشار السناريو، الذي كتبه محمود عزت، والصورة السينمائية لنادين خان معًا إلى هشاشة تلك الشخصية بلا أسلوب خطابي أو فجاجة في التوضيح، فالشخصية هي المحرك الأساسي للأحداث، المتحكم الوحيد في الرحلة التي يخوضها، وكانت كل مشاهد الفيلم تخدم ذلك الهدف.. فضخامة جسد “أبو صدام” بجانب التريلا الذي يعمل عليها ساعد في خلق إيحاء بأن كلاهما واحد، أن أبو صدام جزءًا منها وأن قيمتها، بشكل أو بآخر، هي قيمته هو.. الأمر الذي يظهر في “اللقطات القريبة”/”كلوز أب” على الخدش الذي يشعر أبو صدام أنه لم يصب التريلا فقط، بل قد أصابه أيضًا.

خيالات وأساطير يقتلع الواقع جذورها

تلك العلاقة المتداخلة بين أبو صدام وعربته تزيد وطأتها عليه حينما تنتقل من المكان الذي كان معقل لخيالاته فقط إلى المكان الذي تتهدم تلك الخيالات فيه فوق رأسه. فعلى الرغم من ضخامة جسده التي توحي عادة بقوة وصلابة صاحبه، كانت التريلا تمثل له المكان الذي يستطيع فيه إخفاء ضعفه وهشاشته، والاحتماء بهيكلها الضخم والاختفاء بداخله، وليس فقط كسائق لها، ولكن كرجلٍ تشهد تلك العربة على “صولاته” ورجولته التي يتفاخر بها أمام مساعده “حسن”. فنراه في أحد المشاهد يحكي له عن تلك الفتاة شديدة الجمال التي استطاع أن يغويها ويمارس معها الجنس لعدة ساعات في مؤخرة التريلا، يحكي له بينما تجري أحداث تلك “المغامرة” أمامنا على الشاشة، ونرى فيها “أبو صدام” يرتدي نفس الملابس التي يرتديها الآن وكأن كل ما يحيكه هو “أسطورة”، مغامرات يتخيلها عن نفسه يظهر فيها بكامل فحولته وقوته ويحكيها على أنها حقائق حتى تتشبع ذاته بها ويصدقها هو عن نفسه قبل الآخرين.
ثم نرى تلك الخيالات تتهدم ويقتلها الواقع عندما ينجح في إغواء راقصة ويأخذها إلى نفس المكان، في مؤخرة التريلا، ولكن الأمور لم تجري كما حدث في مغامرته الصغيرة، ولم ينجح في “إثارة” إعجابها كما كان يطمح، لينتهى الأمر بعراك بينهما.

تلك الأسطورة التي بذل أبو صدام جهده محاولًا خلقها والحفاظ عليها، خلال تلك الأربعة وعشرين ساعة من رحلته، تهدمت أمام عينه على مدار الرحلة، سواء كان في محيط عمله أو بين عائلته أو حتى أمام النساء اللاتي يتخذهن كدليل واحدة وراء الأخرى على “رجولته”.. فالأعراف والتقاليد تخبره بالمقومات التي يجب على الذكر التحلي بها، أساطير شعبية توغلت في عقله، وصورة خيالية لما يجب أن يكون عليه ليتم الاعتراف به في مجتمعه. رؤية تلك الصورة وهي تتسرسب من بين يديه يجعل منه رجل غاضب طوال الوقت، وذلك الغضب هو الذي سار به بخطى ثابتة نحو النهاية، التي ليست بالضرورة هي نهاية الفيلم.

بطل مهزوم في صراع أبدي

استطاع فيلم أبو صدام، والذي كان عرضه العالمي الأول في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، خلق صراع ذو وجهين، أحدهما بين شخصية أبو صدام والظروف التي تحاوطه، والآخر بينه وبين نفسه.. والصراعان متشابكان سويًا فلا تستطيع معرفة أيهما أصبح السبب وأيهما النتيجة.. أو إن كان هناك أسباب ونتائج لتلك الصراعات من الأساس.
فأبو صدام رجل يعيش على الهامش، لا يعبئ به أحد ولا نحتاج للكثير من الشرح لندرك مدى سوء الحياة التي يعيشها وتسحقها تحته، وبالتالي فإن وجود صراع هنا هو شيء حتمي الحدوث، حكاية قديمة قدم الزمان، لا شيء جديد لتتم روايته.. لكن الوجه الآخر هنا هو ما يستحق “الحكي”.. الصراع الذي يدور داخل عقل أبو صدام، بين الحقيقة المؤلمة وبين ما يحاول هو بالقوة جعله حقيقة.. بين أفكار خاطئة ومهترئة عن التحكم الذكوري لا يستطيع التخلص منها، وبين واقع يحاول إخباره مرة تلو الأخرى أنه يقترب إلى الهاوية أكثر في كل مرة يرفض فيها التخلي عن تلك الأفكار.
فمثلما كان يجلس في أحد المشاهد على التريلا في ظلام دامس، في لقطة بعيدة لا تظهر فيها ملامحه وإنما فقط هيئته الجسدية تائهة داخل تلك العتمة، وهو المشهد الموجود على بوستر الفيلم، فإن أبو صدام غارق تمامًا في ظلمات عقله، أخذه الصراع إلى أعمق نقطة في متاهته وتركه هناك، غير قادر على الخروج أو حتى محاولة النجاة، ليس لأن المتاهة تسحبه إليها، وليس لأنه يواصل تلقي الضربات من الحياة دون توجيه أي ردة فعل كشخصية ميلودرامية في رواية قديمة.. لكن لأن كل ردود أفعاله تخرج من ذلك الظلام فلا تذهب به سوى نحو ظلام أكثر.
أبو صدام هو “بطل” كما يظل يخبر نفسه دائمًا، بطل القصة التي يعيشها يوميًا، لكنه منهزم في جميع الصراعات التي يدخلها، صراعات بدأت قبل نقطة بداية أحداث الفيلم، ولن تنتهي إلا بنهاية البطل. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة سينمائية 

مقالات من نفس القسم