أُعلّق خمس رايات!

فؤاد عبد النور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
فؤاد عبد النور

قاقون بلدة أثرية كانت مزدهرة قبل النكبة، وكان المسؤول عن حمايتها القوة العراقية، ولكنها كانت مقيدة بعدم السماح لها بتجاوز خط تقسيم فلسطين حسب قرار الأمم المتحدة في السنة 1947. دمرت القرية وبقيت قلعتها الأثرية تقاوم عوادي الزمن.

كنت مهتماً بإيجاد بعضاً من أهاليها في المخيمات القريبة مثل طولكرم، أو مخيم نور شمس، بعض الكيلومترات شرق طولكرم وذلك من ضمن بحثي عن قرى المثلث التي تنازل عنها النظام الأردني في اتفاق الهدنة 1949، ورفضت الحكومة العراقية الدخول في مفاوضاتٍ للهدنة مع إسرائيل.

أكد لي شابٌ من مخيم طولكرم للاجئين أن هناك بعض العائلات من قاقون موجودون في قرية ” فرعون ” إلى جوار طولكرم. فانتهزت الفرصة ذات يومٍ وأنا في الطيبة، وانطلقت إلى قرية ” إرتاح ” ومنها إلى قرية فرعون، ماراً بين بيارات البرتقال المزدهرة، وصعدت إلى تل فرعون، وركنت السيارة إلى جانب غابةٍ صغيرةٍ من شجر السرو، وتوجهت إلى بقالةٍ قريبة وسألت عن بعضٍ من أهالي قاقون. فقال البقال أنه لا يوجد في فرعون إلا أرملة، أولادها كلهم في الكويت، وهي وحدها هنا، وفي الواقع هي جارته. فأوكل البقالة لأحد أبنائه، وانطلقنا عشرات الخطوات إلى بيت جارته، فوجدنا الأرملة الحاجة ” مريم عبد الفتاح مكحل ” جالسة في ساحة البيت الخارجية، مع بعض جاراتها. الحاجة مكحل متقدمةٌ في السن، دقيقة الجسم، هبت في نشاط الصبايا، وأهلّت ورحّـبت، وظنت أن حقيبتي الملازمة، وآلة التصوير ما هما إلا لموظفٍ من الحكومة، أو من وكالة الغوث للاجئين جاء لنجدتها أخيراً، وهتفت:

” أنا طنيب عليكم، مالي حدا إلا إنتم! أولادي انقطعوا في الكويت[1] وأنا ما ليش حدا غيرهم!”

حاولت أن أُهدئها وأطمئنها بطريقةٍ من الطرق، بأن مواطنينا في الكويت ستُحل أزمتهم إن شاء الله بعد انتهاء حرب الخليج، وأني قد قدمت لأمرٍ آخر. فهدأت، وقادتنا أنا وجارها إلى ساحة البيت الداخلية، فرأينا البيت عبارةً عن غرفتين متلاصقتين، وساحةً أمامهما بعرض أربعة أمتار، وطول عشرة أمتار تقريباً، وقد صُبت أرضية الساحة بالإسمنت. جلبت لنا كرسيين للجلوس، وأخذت أتأمل النباتات المزدهرة في مختلف الأصص من مختلف أحجام التنك المستخدمة في تعبئة الأغذية، وافتتحت الحديث بامتداح نباتاتها: – شايف أمورك كويسة يا حاجة، بيت وساحة، ونباتات جميلة. كله حلو. فأجابت:

” والله يا خالتي إلنا أربعين سنة هون. الحمد لله. ربيت أولادي فيه.. يا ويلي.. ولادي مقطوعين في عمان بلا شغل! هدأتها مرت ثانيةً. وبعد أن انشغلت في عمل القهوة، وبعد أن شربناها، سألتها: إنتِ من قاقون يا خالتي؟

فاحتجت مستغربةً جهلي، وهتفت: ” وإلا كيف يا قشيلي! ما أنا من قاقون. طلعت وأنا عروس جديدة وحطّيت عند خوالي هون. ربيت اولادي وكبروا واشتغلوا في الكويت. هلّأ مقطوعين.. كل واحد وراه احدا عشر ولد. ما ليش غيركو تساعدوني!” فرجعت إلى الشرح بأني لا أستطيع مساعدتها بالمرة. ما أنا إلا باحثٌ عن أخبار قاقون وغير قاقون. كيف كانت القرية؟ وكيف لجأت هي وغيرها؟ كيف تدبرت أمرها؟ ولكنها عادت إلى نفس الموضوع، ولكن بمدخلٍ آخر، وكأني لم أقل شيئا من الاعتذار:

” طيب لازم تدلني شو أعمل.. اولادي تشردوا مرة ثانية وما في شغل إلهم. كل واحد وراه احدا عشر ولد.. شو بدو يصير في هون.. كيف راح أعيش؟

عدت لإفهامها أن هذا فوق قدرتي. طلبت أن تراجع الوكالة. لعل أحداً يشير عليها ماذا تفعل. عدت للشرح بأني أتيتها لتحدثني عن أخبار قاقون. عن قاقون فقط. فانتبهت لنفسها، ومن الممكن أن تكرر اسم قاقون قد أعاد إليها الذاكرة:

” قلتلك طلعت من قاقون عروس جديدة. ما كانش اولاد وراي. طلعت بثيابي. الساعة ثلاثة عند الفجر ضربونا بالقنابل. إللي نكح نكح (هرب). واللي شر شرد. الشاطر إللي نكح لطولكرم. والله يا خالتي جارتنا دشّرت ابنها وأخذت المخدة! بالطريق قالت: يا باي.. ابني ما بعيطّ! كشفت عليه لاقت المخدة. عدمت عقلها. راح عليها ابنها وذهباتها المدفونات في البلد إحنا نطينا عند خوال جوزي هون.

” كان عندنا 200 راس غنم. يا ويلي.. راحو كلهم علينا! كانت أحوالنا مِسعدة.. والله بدكوا تساعدوني.. أولادي انتكبوا.. الله لا يسامح إللي نكبهم.. بدكوا تساعدوني!”

رجعت إلى التهدئة. حاولت أن أُخفف عنها. مشكلتها أنها تركت المعيشة في المخيم، وسكنت عند أخوال رجلها في فرعون، فـفـقدت هكذا بطاقة الوكالة بسبب مغادرتها المخيم، وبالتالي فقدت الإعانة المقدمة من الأمم المتحدة. ومنذ أن سمعت بحرب الخليج، وفهمت أن هناك إمكانية لطرد الفلسطينيين، وحصل فعلاً أنهم طردوا، فخسر ابناها مصدر رزقهما، وهي تهلوس بأخبارهما، وما الذي سيحصل لها نتيجة لذلك. أرجعتها للحديث عن قاقون بصعوبة. ولكنها فاجأتني الآن بهذا السؤال:

” فكرك يا خالتي بنرجع.. بنرجع لقاقون؟ إنت بتسأل عنها، بدك ترجّعنا؟!”  فداعبتها بهذا السؤال: – بدك ترجعي يا خالتي؟ فأجابت بلهفة:

” واللا كيف؟ والله لأعلق خمس رايات.. أنام على التراب.. أنصب خربوشة.. خوذ بيتي هذا.. أعطيك اياه ببلاش.. بس رجّعني! “

……………………………….

[1] تشير إلى غزو صدام، وما لحق ذلك من تأييد بعض الفلسطينيين في الكويت لذلك الغزو، وطرد الفلسطينيين من الكويت، في الغالبية المطلقة!

مقالات من نفس القسم