أرْوَاحٌ تَتْرَى

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر الحلواني

صبي آخر، يخرج، يغادر ما يشبه الدار، إلى ما يشبه الطريق، يمر بأشباه بيوت، يرنو إلى الجدران التي كانت بالأمس، ولم تعد، إلا كجذوع غابة عتيقة، اجتاحها قصف حارق، يلمح كِسَرَ حروف على أسطح أحجارها المنثورة، تمد معانيها عبر ركام من دخان وغبار كغريق.

يمضي الصبي، يحمل سلة طعام معمولة من شرائط خوص، يحملها في حرص، وعلى ظهره حقيبة المدرسة، يمر بزملائه الداخلين إلى أشباه فصول، غير عابئين بآثار الطلقات الغائرة في حيطان فصولهم، وكأنها لوحات تعليمية، تساعدهم على تذكر درسهم القديم الجديد، ولا بالطاولات المحترقة أسطحها، بحروق تشبه خرائط وطن، لا يملكون لهم فيه أرضا، ولا يكتنف تشردهم فيه حدود.

يرونه يجتازهم، ينادونه، يرد بابتسامة صافية، ويرفع يده بسلة الطعام ليريها لهم، ويمضي في طريقه، يتهامسون فيما بينهم، حتى يغيب عن أعينهم الشغوفة، ويَجِدُّ في سيره، يتجاوز زحام الدور الصغيرة، وخياما تتدارى فضاءاتها المعتمة بقطع من نسيج أغبر، وحيطان بيوت من طين له نفس الغبرة، تتدثر فراغاتها الداخلية بألواح من صاج، أو عروق خشب، تمنع بعضا من حرارة شمس، وبعضا من بلة مطر، ولا أبواب لها.

يصير إلى حيث حقول، تمتد على الحدود، بين وجودِ الساكنين في شظف حياة، ووجودِ الناهبين اللدود، تصطف فيها كتائب من أشجار ليمون، وبرتقال، وأشجار زيتون، حباته نضرة، متواترة جذوعه، كجند متصافة في جيش الخُضْرَة، تتأهب للدفاع عن مقدِسِها وآخر ما بقي من مواطن جذورها، تلمع في كنف خضرتها الكثة حنايا حبات تتحدر من أطراف فروعها، تحيطها أوراق كالنصال المنصوبة، تحمي لمعة الثمار البضة.

يمر الصبي على الدرب الرملي الأصفر بينها، تداعبه ظلال طرية، تسكبها عليه الفروع المورقة، يمد يده لأعلى، وبكفه يمر على الأوراق، يصافحها بدفء القادم من غياب، ولمس العابر، وسكون المودِّع، تميل فروعها مع كفه لبرهة، ثم ما تلبث أن تؤوب إلى موطنها، تنثر حوله رائحةً يحبها، رائحة العصير المخبوء في لحم ثمارها، تودعه، وينسم عليها بابتسامة الابن المغادر من وطنه إلى وطنه، يودعها.

ويكون حيث تنتهي الحقول، يجتاز أرضا من تراب مجهول، يصَّاعد غبارها الثقيل تحت قدميه الجادتين في المسير، يرتفع إلى السلة الخوص المقفولة على سره الصغير، يرفعها لأعلى؛ خشية أن ينسرب الغبار الغريب عبر خوصها المجدول، فيطلِّع على المخبوء.

وفي البعيد، في ما وراء بحر التراب الممدود، تقبع عربات متجهمة، وبزات عسكر، وحدود، وجدار مقدود من صلادة رمادية، يمتد من أقصى البصر إلى أقصى البصر، يحجب خلفه كل سماء، كل أرض، وكل وجود، تشقه بوابة ضيقة، تسبقها سواتر من حديد متراكم فوق حديد، وفوقها برج مشيد، محاط أعلاه بزجاج يرصد كل جهات الأفق، وخلفه يتهيأ الراصدون لقنصهم، بأسلحتهم المشدودة، إلى الصبي المرصود.

صبي، يتقدم بثبات، فيسكن كلُّ الصوت المحيط، إلا وقع قدميه الصغيرتين، على أسفلت الطريق، يواجه العرباتِ الداهمة، تدمدم محركاتها وتظل في مكانها، والبزاتِ المرتبكة في اختبائها، والبرجِ المكين، يصد زجاجه نور الشمس المتدفق فوق الجميع، ودفء اليوم، فيرتدا عائدين إلى صدر الصبي.

يقف وسطَ السكونِ المرتبكِ لكل موجود، يضع السلة على الأرض، يفتحها بحرص وئيد، يمد كفيه الدافئتين إلى رحمها، فتبتهج رفرفة داخلية، يضمها بين كفيه كالوليد، وينهض، ينظر إلى الجدار المائج في سطوته والبرج المريب، صبي مستقيمُ اليقين، لا يستريب، يرفع ذراعيه معا، إلى السماء، يتمتم بآخر كلمات شهيد، ويباعد ما بين كفيه، فينطلق عصفور، يصعد كنَسَم الروح.

وفي اللحظة ذاتها، تفزع الطلقة، تمرق عبر الفراغ المختبئ وراء زجاج البرج السميك، وعبر الدفء والنور الغامرين الساكنين على صدر الصبي، إلى قلبه، فيصير إلى أرضه، تحتضن جسده الرقيق، منفردا، مستقيمَ العود، وابتسامةٌ طفوليةٌ تُزهر على ثغره، وجبينٌ وضّاء، وعينان نابهتان لهما لون الزيتون الناضج، تتطلعان إلى سماء شاسعة، تضمان في مآقيهما خفقات عصفور، لا تحدُّهُ حدود، يحومُ فوق الجدرِ والأسوارِ، يطوي الفضاءَ طي الشوق المنذور، يرمقه جيش منتفخ بالزهو، ممتلئ بخواء الخوف المطمور، ينفض عن ريشاته برد الأسرِ، ويجوب فضاءً، يعلو فوق الأرض، وفوق الحقل، وفوق الدور، ينظر صِبيَةً يخرجون، يحملون سلالا تحمل أرواحا، ويأتون.

…………….

*اللوحة للفنانة الفلسطينية لطيفة يوسف

 

مقالات من نفس القسم