محمد أبوالدهب
نفس الصورة، بمكوِّناتها المتبلِّدة، غير المرشَّحة للتبدُّل، وإنْ ماتت التفاصيل، واحدةً بعد أخري، تبعا لمواقيتَ طائشة، ودون أن يفعص الورقة المطبوعة كما كان يفضّل. الفوتوغرافيا التي “يعيد قراءتها” ليوفّر لها خلودًا مؤقّتا، وانطباعًا بتواجدٍ بائس وعنيد، بعد إرساله، يومًا ما، إلى ساحة العدَم. وحتى لا يقول “أكرّر مُعاينتَها” بما قد يوحي بفراغٍ زمنيّ، لا يملك ادّعاءَه. ربما لأنها الأصلح للتكبير التقليدي، المهجور تقريبًا في هذه الحقبة من الوجود المُتمايع، والوضع في برواز جنائزيّ، تُظلّله غيمةٌ سينمائية كلمحةٍ من فيلم رعب، ثم العرض المُغرِي على جدارٍ يواجه الداخل إلى غرفة الاستقبال، فيتنهّد ويقول شيئًا مناسبا. سيظلّ ذلك رهينًا بدوافعه الفنّية المنعزلة، والتي سيخالفها، حتمًا ودون مقاصد شرّيرة، مَنْ سيُضطرون للبقاء أحياء بعد أُفوله المنتظَر، فيختارون، بتلقائيّةٍ، صورةً أخرى.
***
سيتفاوض، كعازفٍ أصيل عن المطامع، على أن المُصوِّر أوّل التفاصيل وآخرها، مع أنه غير معدود، بما يتماشى مع احتفالٍ اصطناعيّ بجنديٍّ مجهول. تفصيلةٌ ساربة، غير مرئيّة. سببٌ لوجودٍ حادث بلا طموحٍ للمشاركة فيه. والأدهى أنه صار غير مذكور. لو سأله أحدهم، وليس السؤال فِعلةً شنعاء على أيّ حال، عن الواحد الذي أخذ اللقطة، سيراجع نظرةً مركّزة، كما لو أنه حاضر في الصورة، ثم يقول: نعم، لقد كان واحدًا. هل كان مارًّا، عابرًا شريط القطار إلى شقّته في المساكن، وتضمّن ذلك، ودون تعمُّدٍ منه، عبورَ يومه، الذي لن يتمكّن أبدًا من تحديد تاريخه، فاستوقفَه باستعطاف، ملوِّحا له بالكاميرا؟ وهل وافق على الفور بابتسامةٍ مُرحِّبة، أم تراجع خطوةً وقلَّص سحنته، مُحاذرا ألاعيب الأفَّاقين؟.. ربما كان رفيقَ رحلة، فالظاهر أنه كان بعيدًا، يجرُّ حقيبة سفرٍ بالقرب من محطة قطار، وبقيّة التفاصيل لا تدلُّ على معالم مدينةٍ بعينها، ولا على بقعةٍ اعتاد دهسها، رغم أن الصورة أتاحتْها له، لعشرين عاما أو يزيد. ثم هو السائل بعد المسؤول: هل كان في مثل عمره، عابرًا كان أم مرافقًا؟ زميل دراسة أو عمل باعتبار الرفقة؟ هل كان يكافح قصةَ حبٍّ سِلميّة مع أخته المؤدّبة؟ وبماذا تفوَّه قبل وبعد إمساكه بالكاميرا؟ هل مات الآن، وعرف الشيء، الذي يأكل وينام كل يوم، لسنواتٍ يتمّ حصرها على سبيل مراهنةٍ خاسرةٍ دائمًا، في انتظار معرفته؟ أم أنه أُصيب، فقط، بسرطان القولون؟ ليظلّ غير مطالَبٍ سوى باعتراف اللحظات الأخيرة؛ بأنه مَن اختار، منفردًا، زاوية رؤية الكاميرا، ومَن أوقفه، كمؤدٍّ مطيع، على هيئة المسافر الأبديّ، وسكة القطار تتطاول من ورائه بلا منتهى. ولن يقول شيئا عن نظرته الغائصة في الأفق، كأنما تستقبل موكبا لسنواتٍ كثيرة ، قد يحلّ به أو يتخطّاه.
***
الجاكت الجلديّ، المفتوح على مصراعيْه، ربما من هبّة ريحٍ لحظة الفلاش، يدلّ على أنه كان يعيش عصر رخاءٍ ساقطًا من تاريخه، وعلى أنه فعلها في شتاءٍ ضائع، من خمسةٍ وأربعين شتاءً لم يبقَ من آثارها غير التراكم. الحقيبة أيضا، بصلابتها السوداء، ومقبضها الذي يطول ويقصر حسب الطلب، وتعبيرها الدبلوماسيّ القديم، تؤرِّخ للعصر نفسه. أم يكون استعارهما، الجاكت والحقيبة، من مالكٍ شرعيّ، لم يعد مستعدّا ليقدِّم له عرفانا بجميلٍ يطوِّقه، مدّة الرحلة، مع وعدٍ مُقنِع بإعادتهما سليميْن، ليغلق صفحة عصر الرخاء، الذي لم يكن، بأيّ حال، يليق بصورةٍ تموت تفاصيلها بتدرّج عشوائيّ.
يعلم، من معايناتٍ سابقة للصورة، أن بَشَرا زُجَّ بهم فيها، غدرًا أو عنوة -يُرجَع في هذا إلى النوايا المقبورة للمصوّر- أو صدفةً محايدة كتلك التي أوقعتْ بهم في ختامٍ باهتٍ للقرن العشرين وليس في النصف الأول، الباهت كالآخَر، من القرن الثالث الميلاديّ، دون أن يتعلّق الأمر بمصائر متشابكة. يعرف الآن، من القراءة المُستجدَّة، أنهم ثمانية، إذا لم يكن البروز الراكع بوَهنٍ في فتحة السور، الفاصل بين المساكن وشريط القطار، والمرتفع قليلا فوق كتفه اليسرى، تاسعهم. اثنان يمضيان بالتزامٍ، قاطعَيْن السّكة بالعَرض، على المَدقّ المحكوم للمزلقان، متجاهليْن طموحه في أخذ صورةٍ للذكرى، أو لعلهما شهدا الواقعة من بداية المدقّ، فاعتقدا بأنه يرتكب خطأ العشرين عاما التالية. أما الستّة، فكان السور الأصفر القصير يحوشهم عنه، دون أن يمنع تجسّدهم السرمديّ في صورته، وكان خمسة منهم سيشترون –لا بد أنهم اشتروا وطبخوا وأكلوا وتغوّطوا ثم لم يرتدعوا- لحمًا من (جزارة محمود سعيد)، المحل المفتوح على ناصيتيْن، بأبوابه الثلاثة المشرَعة، والتي لم يرها من قبل. وكانوا يتناقشون في موضوعٍ غيره، لأنهم أعطوه أقفيتهم، ولأن الكاميرا لم تغتصب من أحدهم لقطة فضولٍ ناحيته. السادس كان يتصدّر الباب الأوسط، مواجها لهم، وظهر أنه جاء إلى الصورة بعد أن تحوّل، مباشرةً، بعينيه عنه. ما الذي تبقّى من التفاصيل الميّتة أو الرائحة إلى الموت؟ العمارات القديمة التي تصنع أجزاءٌ منها خلفيّةً كاريكاتوريّة لرأسه المائل إلى اليسار، ستقع من طولها لحظةً ما، إن لم تكن وقعت بالفعل طوعا أو كرها، مثلما لم يعد لوقوفه المتشامخ، متحدّيا المصوّر المنسيّ، أيّ معنى إلا بقايا إعجابه المتلعثم بنظرته التي لا تزال غائصةً في الأفق. واللافتات الموزّعة بلا تنسيق على طوابقها، والتي سيخمّن أنها لأطباء ومحامين، على قدر صلته بالواقع في ذلك التوقيت الهارب من قطعيّة حلوله به، لولا ورقة الكرتون هذه التي جرى تحميضها في أجواء هاربةٍ أيضا، ليصير قارئها المريد. ستظل اللافتات قيد وظيفتها الإعلانية، حتى وإن تغيّر اسم المُعلِن ونوع المُعلَن عنه، وتظلّ بعض الشقق مغلقة النوافذ والشرفات كنُعوشٍ خرسانيّة، لم تُسكن قَطّ، أو كأنها ترعى عرضا مستمرا لمضاجعات مسروقة. “جزارة محمود سعيد” وحدها ستقدّم وقوفًا عنيدا، دون أن يعاكس ذلك حدوث تعديل بسيط لتصير “جزارة أولاد محمود سعيد” قبل أن يتوالى تقلّب أنسالهم في الأجيال، لأن تجارة اللحوم هي تجارة الديمومة، داخل الفوتوغرافيا وخارجها.
***
كان الغلاف السّماويّ ضئيلا، ومنزويًا في أقصى اليسار، محمولا فوق رأسه كعمامةٍ عظيمة، ومكتسيا بالأبيض الناصع، تغبشه قليلا ظلال لعمائر متناهية البعد كأنها لمدينةٍ أخرى، وأعمدة متراصّة تبرز كمسامير مدقوقة في بطن الورقة على مسافاتٍ متساوية. وكان يقوم، رغم ذلك، بدور لمبة تضيء التفاصيل، أو فلاش مضاد لفلاش الكاميرا. ولعلّه ما هيّأه، نفس التهيُّؤ الفنيّ المنطوي على وهمه، ليتعلّق بالصورة أكثر، فيغوي بها فريق الأحياء من بعده. والمُريب أن شيئًا لم يتبدّل، بعد تطلّعه الذاهل إلى مِزَق ورقية صغيرة، مجموعةٍ على المنضدة، ميّزَ في إحداها عينًا خائفة.
………………
*من المجموعة القصصية “المتفاعل” الصادرة أخيراً عن الهيئة العامة للكتاب