رسائل جبران خليل جبران إلى ماري هاسكال

جبران خليل جبران
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ترجمة:  سعيد بوخليط

”أتمنى أن يأتي يوم يتيح لي فرصة إعلان،التالي :”لقد أصبحت فنانا بفضل ماري هاسكال”(جبران خليل جبران).

”ذات يوم سنقرأ صمتكَ وكتاباتكَ، وسيكون غموضكَ معطى أصيلا للنور”(ماري هاسكال).

 * بوسطن 17/ 20 فبراير 1908

يشكر جبران ماري هاسكال التي اقترحت عليه منحه دعمها المادي كي يسافر إلى باريس قصد مواصلة الدراسة:

”هل من حقي أن أحظى بكل هذه السعادة؟موضوع يستحق التأمل،رشفات فنجان قهوة وبعض السجائر وكذا خشخشة نار وفق ميلوديا عذبة.هل يمكنني الابتهاج بكل ذلك تحت كنفِ جناحكِ الرحب؟هذا يفوق السعادة.حقيقة، أنا طفل منبثق من النور”.

*بوسطن 25مارس 1908

يتحدث جبران عن المسيح :

“نفسي منتشية هذا اليوم،فقد حلمتُ البارحة،بمن وهب الإنسان مملكة السماء.آه !لو أمكنني أن أصف لكم ذلك. فأحدثكم عن تلك الفرحة الحزينة البادية على عينيه،وكذا عذوبة مرارة تعكسها شفتاه،جمال يديه العريضتين ولباسه الصوفي الخشن وكذا قدميه الحافيتين وقد غشيتهما قليلا غبرة بيضاء.بدا المشهد طبيعيا جدا ومضيئا للغاية.لامجال قط لأيّ شكل من أشكال الغموض التي تجعل الأحلام الأخرى سديمية.جلستُ بجواره وتحدثتُ معه كما لو عشتُ صحبته منذ فترة طويلة.لاأتذكر أقواله،مع ذلك لازلتُ أحس بها حاليا مثلما نحس صباحا بتأثير ارتدادات موسيقى أصغينا إليها قبل الخلود إلى النوم.لم أستطع تحديد المكان ولاأذكر بأني رأيته سابقا،مع ذلك يتجه تخميني نحو فضاء سوريا”.

*باريس29  يوليو 1908

“أرى سلفا وجهي باريس :الجميل والقبيح؛وأنا هنا من أجل دراسة المظهرين،هكذا يمكنني فهم الحياة والموت.نعم،يتسلل فكر الانحلال وجهة هذه الحاضرة الرائعة،لكننا ننساق خلف التغافل عن مسألة وجود دودة شائنة في جوف تفاحة يانعة.

“قلبي زاخر بأشياء مجنَّحة،وأحتفظ بها غاية مجيئكِ”.

*باريس2 أكتوبر1908

“أرسم أو بالأحرى أنا بصدد الانكباب على تعلم الرسم.هذا يأخذ مني وقتا كبيرا حتى أصل إلى مستوى أن أرسم مثلما أريد.غير أنه كم يبدو جميلا الإحساس بتطور الرؤية الخاصة نحو الأشياء.كم المرات التي توقفتُ خلالها عن الاشتغال وقد غمرني إحساس  طفل صغير وُضِع في مرقده باكرا !أتذكرين حينما أخبرتكِ بأني أفهم الأفراد والأشياء عبر إدراكي الحسي السمعي الخاص وبأن الصوت هو أول من يتسلل إلى روحي ؟الآن أصبحت  أفهم الأشياء والأشخاص بواسطة عيني.يبدو بأن ذاكرتي تستعيد أشكال وألوان الأشخاص وكذا الأشياء”.

*باريس 31 يوليو 1909

“يكمن الفن في نظري خارج مدى العين والأذن؛ليست الطبيعة شيئا آخر سوى جسد وصورة الله؛ الذي أنشده وأتطلع إلى فهمه”.   

*باريس 7 أبريل 1909

“أشتغل حاليا مع بيير مارسيل بيرونو وأوقفت دراساتي في أكاديمية جوليان. يشرف بيرونو على فصل صغير يتكون من اثني عشرة تلميذا.لدينا أحيانا نماذج مجردة وأحيانا أخرى ذات طيات.يشتغل بيرونو معنا.يريد أن أرى شيئا ما باعتباره قيمة وليس في صيغة خطوط.يقول بأنه يحب عملي،لأني لاأتطلع  كي أصبح مجرد بيرونو صغير كما الشأن مع طموح الآخرين”.

“كنتُ سعيدا بلقاء أوغست رودان داخل محترفه،أكبر نحات ينتمي إلى حقبتنا الحديثة.حقيقة،بدا  لطيفا جدا معي وكذا الصديقة التي كانت بصحبتنا”.

*باريس 17أبريل 1909

“يمثل أبريل شهر اللقاءات والمعارض في باريس.منذ أيام قليلة،فتح أحد أكبر المعارض أبوابه؛وبالتأكيد ذهبت إلى هناك،فصادفت حضور أغلب فناني باريس،رأيتهم يتأملون بشغف منجز آثار النفوس البشرية.أيضا، حضر الكبير أوغست رودان.تعرف علي ثم شرع يحدثني عن نحات روسي، قائلا :”يفهم هذا الرجل جمال الشكل”.وددت لو أمنح كل ما أملك حتى يسمع ذاك الروسي ماقاله الأستاذ العظيم بخصوص عمله.ذلك أن وجهة نظر رودان تمثل قيمة كبيرة بالنسبة لأيّ فنان ”.

*باريس 29 أبريل 1909

“أقرأ حاليا إرنست رينان.أحبه لأنه أحب المسيح واستوعبه.لقد رآه في واضحة النهار،وليس لحظة الشفق…يتجه طموحي الكبير صوب التمكن ذات يوم من أن أرسم حياة المسيح مثلما لم يفعل أحد سابقا. ليس بوسع حياتي العثور على أفضل استراحة سوى صحبة شخصية المسيح”.

*باريس 23 يوليو 1909

“لاحقتني طيلة الأيام الماضية فقط رؤية آثار ظلال حزينة،وقد رحل أبي،وأمي وبطرس وكذا أختي سلطانة،صوب أن يعيشوا تحت واجهة الشمس.أين هم حاليا؟هل هم مجتمعون؟هل يمكنهم تذكر الماضي؟هل يتواجدون على مقربة من هذا العالم أم بعيدا جدا؟

في المقابل، أعرف،عزيزتي ماريا بأنهم ينعمون بحياة جديدة،أكثر حقيقة من حياتنا وأجمل منها،لأنهم أكثر اقترابا من الله مقارنة معنا.هناك عند الطبقة السابعة،بالتالي لم تعد معلّقة بين أبصارهم والحقيقة،وانتهوا من ممارسة لعبة  الاختباء مع الفكر”.

*باريس 31 يوليو 1909

“ليست الطبيعة سوى جسد الله،صورة الله،أتغنى بالله وأتطلع إلى فهمه”. 

*باريس 19دجنبر 1909

“ربما تمكنت خلال سنوات من العودة لزيارة إيطاليا…أحب كثيرا دولتي سوريا وإيطاليا.أحس بأنه ستتاح لي فرص عديدة كي أسافر إلى إيطاليا،في حين لايحضرني أبدا نفس الإحساس فيما يتعلق بسوريا”.

لاتلامس قط أناشيد لبنان أذني سوى فترات الحلم.لقد أبعدتني الطبيعة عن عملي، فحلقت نحو: “أرض أبعد من البحار السبعة”. 

*نيويورك19  شتنبر 1911

“قضيتُ الليلة على جسر صحبة النجوم،والقمر،ثم عاينت طلوعا مذهلا للشمس.ستظل ذكريات ليلة مشابهة خالدة إلى الأبد.موسيقى البحر يدثرها صمت غريب كما أن هذه العوالم المتلألئة المتعددة التي تندفع بهدوء عبر فضاء شاسع تمكنني من تأمل آلاف الأفكار الأثيرية”.

*نيويورك  31أكتوبر 1911 

  “أيامي مفعمة بالصور،والأصوات والأطياف.هناك نار في قلبي،ويدي.أينما ارتحلتُ أتبيَّن أشياء ملغزة.هل تدركين معنى أن يمدني الالتهاب بإحساس مفاده أني أحظى بحرية أكثر فأكثر حيال جل مايحيط بي، تبعا  لهذا الالتهاب ؟لاوجود لسعادة أكبر من النار !”.

*نيويورك 10 نوفمبر1911   

”أحب أن أفتح صدري فتخرج يداي قلبي،حتى يكتشفه الآخرون،قدر مايستطيعون؛ بحيث لاتوجد رغبة أكثر عمقا من الكشف.نريد جميعا توقف تواري الضوء الصغير الكامن داخلنا.

لقد كابد أول شاعر كثيرا جراء سخرية أفراد المغارات من جنون كلماته.لم يكن بوسعه سوى أن يقدم عن طيب خاطر قوسه،سهامه وكذا جسده الذي يماثل أسدا بل جل مايملك، بهدف أن يستوعب رفاقه السعادة والشغف اللذين أرساهما غروب الشمس بين طيات روحه.مع ذلك، أليست هذه المكابدة الصوفية،مكابدة أن لاتكون معروفا،هي من تخلق الفن والفنانين؟نحن،الباحثون عن المطلق،ماالذي تحتفظ لنا به الحياة،غير سعادة الظمأ”.

*نيويورك 1 فبراير 1912 

“لدي أشياء كثيرة أودّ قولها عن الحياة بعد الموت.أشعر وربما سأشعر بذلك دائما،أن الأنا التي ينطوي عليه وجودي لن تتلاشى.بالتالي،لن يغمرها سمو البحر الذي نسميه إلها”. 

*نيويورك7  فبراير 1912

“اليوم قلبي مفعم بحقائق عجيبة،وخيالات هادئة.لقد رأيت البارحة ليلا،يسوع في حلمي :نفس الوجه الودي،العينين الكبيرتين السوداوتين المشرقتين سلاما،يغطي قدميه غبار،رداؤه البسيط بلون باهت أقرب إلى البنِّي،عصاه الطويلة المعقوفة. رأيت ديمومة نفس الفكر،فكر لايهتم بأيّ حقيقة أخرى سوى تركيز نظره على الحياة بهدوء ولطف.

آه ماري،لو أمكنني رؤيته مع أحلامي كل ليلة؟لو أمكنني إمعان النظر في الحياة مع نصف هدوئه؟ماعساي فعله كي ألتقي شخصا في هذا العالم بوسعه أيضا أن يكون على نحو مدهش مثل المسيح بسيطا وعطوفا؟

*نيويورك 16 ماي 1912

حضر جبران محاضرة نظمتها جريدة عبد البهاء

“جاء كثير من الخطباء،وشكَّل ”السلام” الموضوع الوحيد.السلام !سلام عالمي !سلام كوني !نقاش مضجر،غير منطقي،سطحي وتافه.لأن السلام يمثل رغبة سن النضج، في حين لازال العالم فتيا جدا كي تكون له رغبة مماثلة.أقول بالأحرى :أن تندلع  حروب،ثم يتقاتل أطفال الأرض فيما بينهم غاية سفك آخر قطرة دم ملوثة ووحشية.بالتالي، لماذا يلزم الإنسان نفسه كي يتحدث عن السلام في ظل إفراط انحراف نظامه مما يجعله عرضة للانفجار بطريقة أو أخرى؟ألم يتسلل مرض السلام إلى الأوطان الشرقية ثم أحدث انهيارها؟

لأننا لانفهم الحياة نخشى الموت،يغدو الصراع والحرب مرعبين جراء الفزع من الموت.

هؤلاء الأحياء،وقد أدركوا معنى الوجود،ثم فهموا معنى الحياة في الموت،لايلزمهم قط التبشير بالسلام،بل الحياة أساسا. 

*نيويورك 21شتنبر،8 أكتوبر 1913

“أشعر كأني مثل طائر ضعيف محاصر داخل قفص،بينما الأجواء الخارجية في غاية الروعة.ربما أذهب إلى المنتزه ثم أجلس كي أتأمل البشاعة والتعب على وجوه البشر.بالتأكيد، تنطوي عيناي على عوالم قبيحة،مادمت أرى وجوها بشعة،بغير روح ولافضيلة ولاسمات ولاملامح… 

أنا متعب من هذا العالم…أتطلع حقا نحو أن أصير ناسكا.يلزم الناسك الحقيقي الذهاب نحو الأراضي المنزوية ليس رغبة في التيه بل حتى يعيد اكتشاف ذاته ثانية.بوسعنا استعادة الذات في أيّ مكان،بيد أنه داخل الحواضر الكبرى،ينبغي لك أن تحارب بسيف كي ترى ظل هذه الذات”.

* نيويورك 10  فبراير 1916  

“أعيش ماري،في خضم نشوة عميقة. تسود أيامي وليالي حماسة متوهجة.يكمن الآن داخلي،الشيء الوحيد الذي يتوخاه قلبي بحرارة.أحب الحياة وجل ماتنطوي عليه.وتعرفين ماري بأني لم أتعلق أبدا بالحياة كثيرا.

على امتداد عشرين سنة لم أضمر قط شيئا ثانيا سوى تعطشي الدائم صوب مالاأعرفه.اليوم،الأمر مختلف.أينما ذهبت،ومهما فعلت، أرى نفس القوة العظيمة،نفس عظمة المبدأ الذي يزهر داخل الأرواح ويحولها إلى إله.

ترنو الروح نحو الإله،مثلما يلتمس الدفء الأعالي،أو اقتفاء الماء لأثر البحر.تعتبر القوة وكذا رغبة السعي،بمثابة  ميزتين ملازمتين للروح.لاتبتعد الأخيرة قط عن سبيلها،ليس أكثر من الماء الذي لايجازف بالانسياب نحو القمم…تحافظ الروح على وعيها،تعطشها لنموها ذاته،ثم نشدانها لما تبقى أمامها…حينما تلامس الروح الإله،تدرك بدورها أن هذا الإله،يعتقد أيضا ويبحث ثم يتبلور”.

*نيويورك 7 نوفمبر1928                   

   أيوب ثابت رفيق جبران خليل جبران خلال فترة دراستهما في المدرسة الكاثوليكية،وقد صار رئيسا لجمهورية لبنان،سيقترح على جبران منصبا وزاريا.فجاء جواب الأخير، كالتالي :

  “أخبرتُ شعب جبل لبنان بأني لاأرغب في العودة وكذا الإشراف على تدبير شؤونه.لقد اقترحوا علي هذا الأمر،وكما تعلمين ماري،تسكنني نوستالجيا إلى الوطن،بحيث يهتز قلبي شوقا كي أعاين ثانية تلاله وأوديته.مع ذلك،يستحسن بقائي هنا. يمكنني الاشتغال داخل أركان هذه الغرفة الغريبة وأصبح كبيرا مقارنة مع تواجدي في أيّ مكان آخر”.

* نيويورك 16 مارس 1931

“أنا دائما في نيويورك،سأبقى هنا طيلة أسابيع أخرى …أتمنى أن تروق لك الصور الفنية لعملي :”آلهة الأرض”.ضمن السياق ذاته،أنا بصدد تحضير كتاب آخر عنوانه :”التائه”، وكذا اللوحات الفنية التي تؤثث صفحاته.يتضمن هذا الكتاب أمثالا وحِكَما. يتوخى الناشر إصداره خلال شهر أكتوبر المقبل،ومن المفترض أن أقدم له المسودة بجانب اللوحات الفنية في غضون شهر.لا أدري إن كانت تستهويكِ فكرة الاطلاع على مضمون هذه المسودة بعينيكِ المتبصرتين ويديكِ العارفتين قبل عرضها على الناشر.فليمنحكِ الله محبته”.

*ماري هاسكال2 أكتوبر 1923

عندما توصلت ماري هاسكال بمسودة”النبي”وقرأتها،عبرت في هذه الرسالة،بكيفية تنطوي على تنبؤ مدهش.

سيندرج هذا الكتاب ضمن تحف الأدب الانجليزي. تكشف لنا صفحاته عن خبايا ذاتنا الأكثر غموضا وهشاشة،مثلما ينزع داخلنا عن غطاء كنه السماء والأرض.لن تسأم الأجيال قط من قراءته؛الواحدة تلو الأخرى،سيجدون بين صفحاته حقيقة ما يرغبوا في أن يعيشوه بملء إرادتهم. سيحظى هذا الكتاب بالحب أكثر فأكثر بقدر ماتصبح الإنسانية أكثر نضجا. 

*مرجع الرسائل :  

     khalilgibran.jimdofree.com

   

مقالات من نفس القسم