رولا حسن
في باكورتها الشعرية “هكذا أصير شجرة، ألفت انتباه الريح ” وعبر قصائد تتفاوت في سويتها الفنية تكتب سوسن قصيدتها وهي متأكدة أنها قادرة على الاستفادة من تفاصيل الواقع الذي هو أكثر الأدلة وضوحا على صلتها وتشبثها به فهي لن تكتب عن قضايا لا تعرفها ولم تتلمسها كما أنها تدرك تماما كشاعرة أن ما يحيط بها والحديث عنه هو ما يؤكد وجودها في هذا الواقع القلق .
تعتبر سوسن أن “هكذا أصير شجرة، ألفت انتباه الريح .” هو خليط حياتها الذي ينقسم إلى قسمين مرحلة تواجدها في سوريا والمرحلة اللاحقة التي خرجت فيها على أثر الحرب إلى ألمانيا حيث وجدت هناك أن روح الكتابة أخذت منحى جديد
“الواقع يمسك بيدي و يكتب ، أحب الكتابة أن تأتي كصفعة على الوجه ،أن تحدث يقظة ما للحظة ،أن تتركك في حالة تفكير وتساؤل .”والكلام يعود إليها
في قصائد سوسن نقرأ الحكاية أو تفاصيلها ، تقص لنا سوسن الحكايات من أزمنة مختلفة وكأن شهرذاد لم تسكت عن الكلام المباح تقص لنا القصيدة –القصة
حيث استعارت تقنية القص لتشتغل عليها في القصيدة والامثلة كثيرة (قصيدة طفلة السماء ، قصيدة العالم الآن .. ألخ)فهناك دوما بؤرة تأخذها سوسن لتنسج حولها شبكتها السردية عبر مشاهد بصرية متتالية تقوم الشاعرة بمنتجتها عبر رؤية درامية للحدث مستفيدة من خاصية التداعي التي استعارتها من السرد القصصي عبر صور متتالية لها سمة الوحدة وأن كانت توحي بالتشظي فهذه الصور مقطوفة من أزمنة وأمكنة مختلفة
لكن ما يميز هذه القصائد السردية الطويلة نسبيا هو الخاتمة المشغولة بعناية مثلا
خاتمة قصيدة سيرة ذاتية
“لماذا أنا وأنت نشبه جدتي
نخاف كثيرا
ونثق قليلا
ونكتب سيرا ذاتية
خالية من ذواتنا .”
أيضا قصيدة الجدران العارية
“جدران البيوت تتكاثر حولي
أنا لا أكسر وجشتها
بلوحة عاشقين أو حقل زهور
أو بنثر ألوان تضيء عتمتها
أحبها عارية تماما
بيضاء وعارية تماما
ودوما على أهبة الرحيل .”
هكذا تمضي سوسن كأنها تخلق العالم من جديد عبر تشكيلها علاقات جديدة بين المفردات ومن هنا تأتي أهمية اللغة التي أدركتها تماما (اللغة في القصيدة الجديدة لغة خلق والشاعر هنا ليس الشخص الذي لديه شيء ليعبر عنه بل هو الشخص الذي يخلق أشياؤه بطريقة جديدة .) بحسب تعبير أدونيس .
وتجدر الإشارة هنا أن سوسن تبرع في جعل اللغة قادرة على اقتناص ما لا يمكن اقتناصه ، لكنها في ذات الوقت لم تكتب عما هو غير موجود إذ لا وجود لما لا يمكن التعبير عنه ويعود ذلك إلى إجادتها لعبة اللغة داخل القصيدة وذلك بفضل الشعر الذ يجعل من اللغة سحرا فللكلمة قوة وهذه القوة قادرة على خلق الموضوع واطلاقه خارج نفسه .
تعتمد سوسن على السرد كتقنية في الاشتغال على قصائدها وهو أمر بات صفة غالبة على قصيدة النثر أو تسونامي تجتاح قصيدة النثر بحسب الناقد العراقي د.حاتم الصكر منذ موجة الحداثة الشعرية بالرغم من أن استعارة تقنيات السرد ليس أمرا جديدا على النص الشعري العربي قديمه وحديثه ولكن بحسب د.الصكر “إن الرؤية الدرامية التي تقوم على الخطة السردية البنائية لم تكن ظاهرة بالمعنى الدقيق في الشعر العربي قبل موجة الحداثة الشعرية “.
لكن ما أود الإشارة إليه هنا هو الانغماس في السرد يجعل الشعر بضيع في متاهات هذا السرد ولعبته الصعبة فالسرد يأتي معبأ بكل تقاليد السرد وكل اشتراطاته من التسميات إلى الشخصيات والتزمين الزماني والتحليل المكاني والقليل من الشعراء بنجو من الوقوع في مطب تحول القصيدة إلى قصة أو سرد خالص والابتعاد عن الشعر وهو أمر وقعت فيه سوسن في عدد من قصائدها كما الكثير من مجايليها ممن يكتبون قصيدة النثر .
لكن لا يمكننا إلا أن نشير إلى أنه مجرد تداخل السردي بالشعري أن دل على شيء فهو يدل على وعي الشاعر بأهمية التقنيات السردية ودورها في التخفيف من ذاتية الشعر .
مختارات
سيرة ذاتية:
تعال نتحدث عن كل شيء … إلاك!
في الأوقات التي تبدو فيها الأشياء بأفضل حال
يحدث خلل ما فيغير مجرى الحكاية
أسأل مثلًا ..
ماذا لو لم يقتل -جدي- تقدير طبي خاطئ
ليترك حقلاً كاملاً يبكي حرقة البذور
ماذا لو أن جدتي كانت أكثر إيماناً ولم تمانع
إرسال ابنتها الوحيدة في بعثة تعليمية إلى الأزهر !.
فلربما وحدت بلدين حكمة الإيمان
ماذا لو لم يتحمس كثيراً لحزبه
الذي انقسم إلى عدوين –
أبي –
وبقي مدير المدرسة الوحيدة
ومدرب فريق الفتيات لكرة الطائرة !
ماذا لو أن رجل الشمال لم يلتقِ أخي
ليصير زوجي قبل أن أنهي عامي الدراسي
وأكتفى بالغزل على طول الطريق
ماذا لو لم أطالب ابني أن يكمل حلمي
ليقيني الخاص أنه الأفضل
وأبقت أخطائي خارج تاريخه !
لماذا نعيد سيرة الأخطاء
ونردد بعدها :” هكذا شاءت الأقدار !”
“كل شيء يمكن أن يكون شيئاً آخر وسيحمل نفس الأهمية”
لماذا انا وانت نشبه جدتي
نخاف كثيرا !
ونثق قليلا!
و نكتب سيرا ذاتية
خالية من ذواتنا ..!
………………………..
كنِ الإنصاف:
لا تنتظر أن ينصفك أحد
كن أنت الإنصاف
وأخرج شياطينك الصغيرة من جيبك لو اضطرك الأمر
العدل قاسٍ
كمطرقة تدق اعوجاج الحديد بالحديد
واحرص أن لا يبتلعك
جحيم الآخر
يا أنت
الذي
تكتمل به أناي
تقدم بكل نقصانك
وكن مطمئناً
فالعالم لي
ولي ما أشاء
لا شيء يثير الدهشة في هذا الكون
فراغ شاسع
ندخله
فنمتلئ به
فلا تسقط نفسك
في معادلات البقاء
لا بد من خلاف لنتفق
لا تكن طيباً
فاقسُ
ولا تكن قاسياً
فأصاب بالطيبة البلهاء
كن وجوداً آخر
واختلف قدر ما استطعت
كالمطر
كالدخان
كالأشجار المسكونة بالريح والشتاء
واحضن ضعفك جيداً
فأنت لست إلهاً.
………………………………..
وحدة:
حينَ يفتحُ الحزن فمَهُ
تتدفّقُ إلى جوفهِ
أجسادُ القتلى
هو لا يميّز طعمَ الدّمِ
ولا يرى
دموعَ الأمهاتِ المنكوباتِ
ولا يسمعُ نحيبهنّ
الموتُ بعينهِ السّوداءِ
يرانا كأضواءَ
وتثيرُهُ
أشدُّها التماعاً
الحزن
يقتلُ ضجرَه الأبديَّ
بإشعالِ النيرانِ
لعلّ الموتَ الأعمى
ينتبهُ
لحرارةِ آمالِنا
فيأتي مسرعاً
يؤدّي المشهد
فيغطّ الحزن في النومِ
بينما يلتهمُ
الموتُ ما تبقّى من الصحو
ولقراءةٍ أجملَ
أقولُ: الموتُ وحيدٌ
لم يكترثْ به أحدٌ
وربّما كان يبحثُ عن أصدقاءَ
وبما أنّ لا أطرافَ له
كان يفتحُ فمَهُ الكبيرَ
ليلعب.
أسألُ:
هل جرّبتَ أنْ تبتلعَ الموتَ يوماً
أن تشعرَ به كثيفاً في داخِلكَ
كشيءٍ يصعُبُ هضمُهُ
كأنّ تراقب صحوَك في نومِك
ربّما سيفهمُ بطريقةٍ
أفضلَ
أليس الحبُّ احتلالاً
الموتُ وحيدٌ مثلي
ومثلي أيضاً ينتظرُ
قُدومَ الأصدقاء.
…………………………
يقظة:
الأسماك الصغيرة
الملونة
في البحيرة البعيدة
تلمع كأضواء الزينة
في شارع مهجور
…..
الأسماك الصغيرة
تتسارع إليك
مع كل اقتراب
تحلم ..
بالفتات والحب
في كل لقاء
…..
الأسماك الآمنة
لم يرتجف قلبها
حين حجب
ظلك الكبير
شمسها
…..
الأسماك الصغيرة
التي لا تعرف
ظلمة الأعماق
لم تع حينها
إن يوماً ما
ستغتالها
يد الصياد
وأن خدعة الماء
شفافة
كخيط السنارة
الذي انتشل أمنها
كوجبة غذاء دسمة
….
من أيقظ
الأسماك الصغيرة
من غفلتها؟
.
سوسن الغزالي من مواليد درعا – سوريا، خريجة الآداب والعلوم الإنسانية قسم اللغة الإنكليزية – جامعة دمشق
تعيش في ألمانيا،تخصصت بالتربية والإرشاد النفسي باللغة الألمانية، تعمل مساعدة اجتماعية، و الديوان صادر عن دار هن 2020
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية