الشُّرْب

محمد أبو الدهب في "يليق بسكران".. كرنفال للأعصاب العارية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد أبوالدهب

   زفرتُ مخلّفات الليلة مع عطانةِ التثاؤب. المخلفات التي ضاعت تفاصيلها للأبد، كالعادة. فقط أتعلّق ببراعة الاختلاق. لا بدّ أنها كانت متخمةً بالسِّباب المُنتقَى من معجم تشريح الأجهزة التناسلية. الهمز واللمز بإشارات الأصابع المُدخّنة. استعراض الأسئلة الوجودية نفسها. يحلُّ موعد انهمارها، بالأبعاد الفضفاضة لدلالاتها الغامضة كما نقول، المناسِبة لشعورنا المشترَك بالرغبة في التحليق بعيدًا، في النصف الأخير من السهرة كختامٍ يَجُبُّ ما قَبله. كأننا نعتذر عن استسلامنا لغوايةِ نوبةٍ عظمى، أخرى، من السُّكْر “البيِّن” كما وُصِفَ أكثر من مرّة في محاضر الشرطة. الآن، بعد ما تهيّأ لي أنه استيقاظ، تذكّرتُ شيئًا من التفاصيل. كل مرةٍ يبقى شيءٌ واحد، خارج حماسة الاختلاق. يصمد كعاهة مستديمة تُسهّل التّعرُّف على صاحبها من بين الجموع. تذهب بقيّة الأشياء إلى الغياهب. والشَّتاتُ في عُمق الغياهب هو مطمحنا الأسبوعيّ. إلا إذا أحياها –أشياء التفاصيل أو تفاصيل الأشياء- نائبٌ عن الفئة المندسّة. يؤدي واجبه على أكمل وجه إذ كلما سكرْنا استفاق. يصرُّ على أن حقيقة الأمر خلاف ما ندّعي. ولا نملك كعائدين حديثًا إلى صداعِ ما بعد السُّكر -كل واحدٍ على سريره- شجاعةَ المجادلة.

*

   قال أحدهم إن أحمد عاد من إنجلترا. سيكون حاضرًا في الاجتماع القادم. جاء الممرِّضُ يسدُّ الطريق بكتفين عريضتين. الشيء الذي لم تلتقمه الغياهب. كنت أخرجتُ سيجارة من العلبة. لم تكن ولّاعتي على المنضدة. لعلّ فقدانَ الولاعة علّةُ التذكُّر. لعلّ النسيان علّة العثور على الولاعة. أبدانٌ مُسلّطة على أبدان. أظنني استهلكتُ وقتًا لأتصوّر مَن يكون هذا ال(أحمد). أتابع خط سير تواؤماتي في أثناء الشُّرب. حين لا أكون وحدي أتابع. سأذكر أن أحمد هذا كان يدرس بجامعة أكسفورد موضوعًا متعلّقًا بصوتيّات اللغة الإنجليزية. إن (هذا الأحمد، وأحمد هذا) طَرْحٌ ليس عادلا تماما. كان أقربهم في مرحلةِ ما قبل السفر. غير لائقٍ بي خوض محاولة تذكُّر. رغم عدم اهتمامي بالفيس بوك والواتساب فإنني أحتفظ بصور فوتوغرافية، تجمعنا في مناسبات مختلفة. أطبعُ من وقتٍ لآخَر ما تنتجه كاميرات الهواتف. يصفُني صاحب الأستوديو بزبون الزمن الجميل. سألني مرة: (ما الذي تفعله بكل هذه الصور؟). أنا وأحمد واقفان على سور الكورنيش. نضحك للذين لم يدخلوا الصورة. أرفع قدمي اليسرى وذراعي اليمنى كأني أتحدّى. وجهي متجهِّم رغم الضحك. أحمد ورائي يفرد ذراعيه جانبًا كالماشي على الحبل أو المصلوب. خرجنا للتوّ من بار (الشيخ علي) رفقة المجموعة نفسها. الثالثة صباحًا آخِر أيام الدورة التدريبية، التي منحتْنا ثلاث ليالٍ من شتاء الإسكندرية. أحمد لا يكاد يشرب. كلما توزّعت علينا الزجاجات أخذ رشفة ثم دفع بها ناحيتي. يعلم أنني لن أمانع جرع اثنتين في واحدة. أعلمُ أنه يريد أن يصير أستاذا في الجامعة. كان يرتدي بدلة أنيقة برابطة عنق كما يليق بأكاديميٍّ صاعد. الرابطة تطير إلى الخلف استجابةً لتوجّهات الرّيح. أنظرُ الصورةَ كثيرًا. ملقاة منذ خمس سنوات على الكومودينو بجوار السرير بين عددٍ من الصور. أقلّبها أحيانا وأبتسم مُتدبِّرًا: (الموت خاذوقٌ كبير). كل ما لا أذكره مَن يكون صاحب فكرة ارتقائنا السور. تمنّى أحدٌ مشاهدتي ساقطًا بظهري على الصخور المصفوعة بالأمواج. صنعتُ قاتلا خفيًّا. كان يجب أن أسقط لأني شربتُ ضِعف الكمّية. تفوتُ السهرات، ويفوتني التحقيق في واقعة (رغبة أحدهم في رؤيتي قتيلًا). لا بد أنه نوبطشجي الفئة المندسة الذي لا يشرب ولا يتركنا في حالنا.

   ألقيتُ الصورة مرتعبًا. برزَ لي، اللحظة، أن عودة أحمد ليست الشيء الذي لم تأخذه الغياهب.

*

    سمعتُ في الاجتماع بعودة أحمد، فخطرت لي ذكرى ممرّض زميل. هذا بالتحديد ما بقي من الليلة. لا داعي لمواصلة اعتصار الذاكرة. الذاكرة التي نتعاضد كل ليلة لتجفيف منابعها. ثم إنني لم أجد تشويقًا في خبر العودة. لم يكن ثمة غياب من الأساس. لن أتردد في إعلان أنه صنع كِذبةً دامت لعامين. قال إنه ذاهب إلى إنجلترا. لم أنقطع عن رؤيته كل صباح، برداء التمريض، في المستشفى النفسيّ. كان البالطو غير ناصع البياض ضيقًا بسبب كرشه الكبير، مع اضطراره إلى غلق أزراره حسب تحكُّمات المُشرف. يفتح بوابة قسم “(2) رجال” بمفتاح يُخرجه من جيب البالطو. وأنا جالس على مكتبي المواجه للطُّرقة في حجرة شؤون المرضى، أشرب الشاي بالحليب. أحيانا يلمحني فيرفع كفَّه، يقول: صباح الخير. ليس ذلك دليلًا على شيء. التحيّات تُلقى دائما بدافع الزمالة. قد يأتي إلى المكتب ودفتر أحوال القسم في يده. يطلب توقيعي على استلام ملف خروجِ مريض. أوقِّع في صمت. لن أتكلم إلا إذا تكلّم. لا بد أنه انجذب إلى حب مهنة التمريض في آخر لحظة قبل إقلاع الطائرة. ظهوره في المستشفى تزامن مع موعد سفره. ربما كان بحاجة إلى مغامرة. نحتاجها من مرحلةٍ إلى أخرى، حتى إذا فرغنا منها تجدّدَ شعورنا بالملل!.. عامان من ممارسة التمريض يوميا يكفيان لاستخراج شهادة خبرة مختومة. أظنه صار بعيدًا جدا عن مسألة صوتيات اللغة الانجليزية تلك. متى سيتكلّم؟

*

 لكن هذا ما أقوله الآن. ما لم أقلْه من قبل. كل التفاصيل لا تعدو خاطرًا لحظيًّا. بدأتُ تجييشَها بعد سماع الخبر. أقابل الممرض كل يوم طيلة عامين. لم أستوقفه مرةً: (أنت تشبه شخصًا أعرفه). أو أكون أكثر فعالية: (ما الذي تفعله هنا بالبالطو الأبيض.. يا أحمد؟). الممرض نفسه ليس من النوع الذي يمكن التَّبسُّط معه. لم يدخل المكتب فجأةً ليقول: (هل شاهدت نهائي دوري الأبطال أمس؟). لم يدخل ليطمئن أو يعاتب: (لم أرك في زفاف ابن أمين المخازن). فضلا عن أن يقول –باعتبار أنه أحمد المُعدَّل: (تركتُكم مبكّرًا لأني أخاف منكم حين تكثرون من الشُّرب). يفعل زملاؤه الممرضون ذلك. صادقتُ كثيرًا منهم رغم عدم تعاملهم المنتظم مع مكتب شؤون المرضى، وعدم حضورهم الاجتماعات الأسبوعية. يكتفي فقط ب(صباح الخير) في بعض الأصباح. أَم كنتُ أترك له -بنفس الاعتبار السابق- مساحةً لتقرير المصير؟ أُحرِّره ليواصل مغامرته دون تدخُّلات غير مضمونة النتائج. الأغرب أني سترتُ عليه. لم أتكلم، مع أني لم أتخلّف عن نحو مئة اجتماع. أنا الذي حين يشرب يفصح، تلقائيا ودون مراعاة لظروف الناس، عن أسماء أهل النار، إسمًا إسمًا. سآخذ الصورة معي غدا إلى المستشفى. أُجبر الممرض على النظر ولو نظرة غير مدقّقة. الأعمى سيرى أن التطابق لا يمكن السكوت عنه. سيقول متعاطفًا: (كيف صبرتَ عامين كاملين؟).

*

   زفرتُ مخلّفات الليلة مع عطانة التثاؤب. المخلّفات التي تنكشف تفاصيلها مثل امرأةٍ تتعرّى وحيدة، حتى وإنْ كان التَّعرِّي في نهاية حدود الغياهب، وبلا شُبهةِ اختلاق. ليس شيئًا واحدًا. كأنني لم أجد ما أشربه رغم الزّناخة في فمي. خطرتْ لي ذكرى ممرض زميل. لم تكن هناك أخبار تخص عودة أحمد. هذا ما أكّده الجميع. قالوا إنني كنتُ مبدعًا جدا في الاجتماع السابق. أجبرتُهم على إكمال الليلة مُنصتين مُحملقين، دون استثناء العضو المندسّ. وإن الحكاية كانت ممتعة وملفّقة، خاليةً من السِّباب والهمز واللمز وأسئلة الوجود، تمامًا مثلما يقول كتابُ الشُّرب، وإنه بالضبط جدول الأعمال الذي طالما خطّطوا لإنجازه، دفعًا للملل القديم. نقلَ أحدهم التفاصيل كلها إلى أمريكا، حيث انتقل أحمد قبل شهور. سمع ورأى انفجار ضحكاته على بعد آلاف الأميال. أحسستُ بخيانة التَّرك وحيدًا، فشربتُ، كأنما على عطش، زجاجتين غير مُدرَجتين بالجدول. وأصرّيت على انتظارهم غدا، في غياهب الطُّرقة الفاصلة بين مكتب شؤون المرضى وقسم “(2) رجال”.    

 

  

مقالات من نفس القسم