محمد أبوالدهب
رفعتُ عيني عن الشاشة المظلمة، فرأيت أنه غير مقتنع بكلامي.
ألقى بالسيجارة من الشباك المفتوح، دون أن يبصَّ على الناس في المطعم الذي تتوزّع مناضده على الرصيف، أسفل العمارة. وفكّرتُ أن أكذب، إذا جاء عاملٌ من المطعم ليشتكي أن السيجارة طَشَّتْ في طبق الطحينة والزبون زعلان، سأُخفِي علب السجائر والمنفضة، وأقول إننا توقّفنا عن التدخين من مدّة طويلة لما مات أحد معارفنا بسرطان الرئة، والواضح كالشمس أن السيجارة تمّ إطلاقها من شقةٍ أخرى.
تأكّدتُ أني لم أكن مقنِعًا بمجرد أن قال: “بقا دا اسمه كلام”. أضاف، ربما حين لاحظ انشغال بالي في أثناء تخطيطي، دون عِلمه، للكذب على عامل المطعم، الذي يمكن أن يكون على السلّم الآن: “إنت رحت فين؟”. وراقبتُ لهاثي يتواصل من فرط الانفعال الذي تخلّل محاولتي المتعسّرة في التوضيح والإقناع. تنحنحتُ من مكاني على ترابيزة الكمبيوتر الذي لم أفتحه منذ الأمس، وشعرت بالقرف من كل شيء في الدنيا باستثناء الحيوانات، لأنها لا تتكلم ولا تُبدي رأيها في كلام بني آدم.
كنت حريصًا، من أول اليوم، على بلوَرة الموضوع في دماغي، وتجميع مبرّراتي القوية، ومراجعة أنسب الألفاظ وأكثرها مباشَرة حتى أُنجز مسألة إقناعه بعدالة موقفي في أقصر وقت ممكن، مستعينًا بآيات قرآنية وأحاديث نبويّة معروفة تحضّ المرأة على طاعة زوجها، متوقّعا حضوره في أي وقت من اليوم نفسه، لأن الحكاية من النوع الذي لا يحتمل التأخير لليوم التالي.
لفّ برقبته وجذعه، وشبَّ بركبتيْه على الكنبة، ثم نام ببطنه على حافة الشباك في حركةٍ مفاجئة حتى أني قمت بعد أن كنت قاعدًا. رأيت نصف جسده يخرج من الشباك، وخفتُ أن يثقل به فيسقط، ويموت قتيلا دون مناسبة. تخيّلتُه يطير في الجوّ ليرشق بوجهه في نفس طبق الطحينة الذي طشّت فيه السيجارة. اعتدل، ورمقني بقلق، وقال: “العربية مشيت”. وأنا اغتظت لأنه كان يستطيع أن يلف برقبته فقط لينظر أين يرمي سيجارته، فلا يحوجنا لانتظار الطّرْق المُتظلِّم على الباب، بدلا من كل هذه المخاطرة من أجل رؤية السيّارة. وقلت له: “عربية إيه؟”. أشعلَ سيجارة، فصمّمتُ بيني وبين نفسي ألا يرميها من الشباك. أشعلتُ لي واحدة، وانتقلت إلى جواره على الكنبة، ووضعت المنفضة بيننا. أمَرني أن أوحّد الله وأصلّي على النّبي وقال:
_ إنت مش عندك فيس بوك؟
_ لأ.
_ إزّاي يعني؟ طب عندك واتس؟
_ لأ.
_ الله! دا إنت غريب قوي. حدّ منعك يبقى عندك؟
من ناحيتي، طأطأتُ رأسي خجلا، لأني أهيم في الدنيا دون هذه الأشياء، خاصة وأن أحدًا لم يمنعني. شجّعه منظري على أن يتبحّر في الكلام، ويتطرّق إلى مفاهيم معيّنة، كمستجدّات العصر وضغوطات المعيشة والتحايل على الغمِّ الذي نعيش فيه:
_ دي الحاجّة حماتك ذات نفسها عندها واتس وفيس!
قالها بمنتهى الفخر. وتدهورَ مقامُ حماتي في نظري بعد هذه المعلومة، ولم أحدّد أسبابًا معقولة لهذا التدهور.
لم أخبره أني امتلكت صفحة على الفيس قبل زواجي من ابنة أخيه بسنوات، وتحصّلتُ على قرابة المئة صديقٍ في أقل من شهر، وخلال شهر آخر نفضتُ يدي من القصة برمّتها، وعزمت على عدم العودة؛ مَنْ يشعر بالجوع يذهب للبحث عن طعام ثم يأكل فينسَدّ جوعه، هذا ما يعرفه البشر من البداية. أما أن يصوِّر الجائع نفسه، أحيانا يُخرج لسانه في الصورة لنشاهد جفافه وتشقّقه، ويكتب سطرًا أو سطرَين تحت الصورة، ثم يقعد ينتظر أن نبدي إعجابنا بجوعه (سيخزّن ردود أفعالنا، ويعاتب مَن تلكّأ في الإعجاب، أو يقرّر معاملته بالمثل في حال كان التلكّؤ متكرّرًا) ولا يكتفي بذلك بل يكتب (طب آكُل ايه بقااا) متبوعة بسبع علامات استفهام، فتجد عشرين ثلاثين بني آدم وقد احتشدوا لاقتراح عشرين ثلاثين وجبة غذائية متكاملة. وهو لا يعجبه شيء. يحدث ذلك من كل أصدقاء الصفحة تقريبا ومع كل الأحوال، مع العطش والنوم والحرّ والبرد والإسهال والإمساك….. أنا كتبتُ له: “مش مهم تاكل ايه، المهم إن إللي تاكله ينحشر في زورك، عشان مفيش حاجة تدخل أو تخرج تاني”. وحذفتُ صفحتي.
دون تدخُّل منِّي، رأيته يضع السيجارة في المنفضة ويهرسها بعناية بأصبعين اثنين من أصابعه. وخطر لي أن السيجارة الأولى يمكن أن تكون وقعت على الأرض بين المناضد، دون أن تضايق أحدًا، وأنني غير مضطر لتوقّع ورود شكوى من ناحية إدارة المطعم. وأحسست بالراحة. لم يكن هو توقّفَ عن التفنيد والشرح الذي ضاع مني بعضه، لكني انتبهتُ لمّا رفع صوته كما لو أنه يُصدر بيانًا ختاميا:
_ لاحِظ إنك أول مرة تحلف بالطلاق.
استنكرتُ أنا هذا الكلام الغريب. كدت أحلف بالمصحف على أني لم أحلف بالطلاق. تمهّلتُ، محاولا استرجاع الحوار الذي دار بيني وبينها. نعم كنت غاضبًا، وخلطتُ القديم بالجديد، وأخرجتُ ما كان مكبوتًا طويلا داخلي، لكنْ هل أنا قلت: “عليا الطلاق لو ما غيّرتي الباسوورد ما انتي بايتة فيها”؟ احتمال. من زمان أسمعهم يقولون إنني عندما أغضب أتفوّه بأشياء فظيعة، ولا أتذكّرها أبدًا. أنا لا أعترض على حيازتها للواتس ولا لصفحة على الفيس بوك ولا غيرها من التحديثات التي لا أُواكبُها. إندماجُها مع هذه الأمور يوفّر لي، على الأقل، تفرّغًا هادئا لقراءة الكتب، الحدث الوحيد الذي يُغيثني كهُدنة. وبعد أن صرت أقرأ الكتب على شاشة الكمبيوتر وليس على الورق، بسبب تكاسلي عن عمل نظّارة مخصّصة للقراءة، الراجع إلى إيماني بأن الإنسان الذي يستعمل نظّارتيْن تكون حسرته عند الموت أكبر من الإنسان الذي يستعمل نظارة واحدة، اعتدتُ أن أطلب منها تحميل الكتب التي أريدها، ثم آخذها منها على تليفوني بالبلوتوث قبل أن أنقلها إلى الكمبيوتر، وكان ذلك يملؤها شعورًا بالزهو والأهمية. منذ يوميْن اشترتْ تليفونا جديدا بالتقسيط. إتضح لي من نظرة عابرة أنه أفخم تليفون حَلَّ بالعائلة. كانت فرحانة، وعرضتْ شاشته أمام وجهها كما لو أنه مرآة، وصرختْ: شُفت؟.. أهو فتح! قالت إنها ضبطتْه على بصمة الوجه، ولا يمكن لكائنٍ مَن كان أن يستعمله غيرها. وتلقّيتُ أنا الكلام على أني مُستثنَى بالضرورة من جماعة “كائن من كان”. وحملتْ هي ملابسها الداخلية والخارجية في كومة واحدة، وقفلت عليها باب الحمّام لتستحم. ورحت أشاهد التليفون من بعيد، وهو موضوع على الكومودينو بجوار الكرتونة التي يطلّ منها جزء من ورقة الضمان. مددتُ يدي لأمسكه، ورفعتُه مثلها بمحاذاة وجهي، فلاحظتُ أن شاربي يحتاج للحَفّ بالمقص من الجوانب. بحلقتُ بعيني ومناخيري حتى أن ملامحي تبدّلت قليلا، ولم ينفتح التليفون. فهمتُ أني غير مُستثنَى. وأعدتُه لمكانه بجوار الضمان، وقرفصت على السرير أفكّر في أن الجهاز مهما بلغت إمكاناته لا يستطيع أن يعرف أني زوجها. وتعجّبتُ من المرأة التي ترهن تشغيل تليفونها ببصمة الوجه، بحيث يقف زوجها أمامه عاجزًا مع أنها أعطته طواعيةً بصمة تشغيل جسمها نفسه. رجعتْ من الحمّام بخدود محمرّة من تأثير الماء الساخن وبخاره. وتضايقتُ كالعادة لما شفتُ شعرها مجموعًا كله لأعلى، تحت الفوطة الزرقاء التي كانت مفرودة قبل قليل على الكنبة. لم أخبرها، رغم مرور السنوات، أن هذه الهيئة تضايقني جدًّا.
وضع يده على كتفي، وابتسم ابتسامةً بدتْ لي لا تصدر إلا عن رجل مغلوب على أمره، وقال إنها ليست مغرمة بحكاية بصمة الوجه، لكنها كانت تجرّب لأن التليفون جديد. ووقف يلمّ السجائر والولاعة والمفاتيح والموبايل من فوق الطقطوقة إلي جيوبه:
_ هنستنّاك بكرة.
أغلقتُ الباب وراءه. ونسيتُ أن أسأله باهتمامٍ أكثر عن السيارة التي أَخرجَ لها نصف جسده من الشباك.