مقهى ريش.. نافذة مفتوحة على التاريخ

مقهى ريش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة كمال

نادرة هى الكتب التى تأخذك من حرفها الأول إلى حرفها الأخير، تُنقب فيها عن خفايا الأماكن التى عشقتها وذبت فيها وذابت فيك سواء كنت من أهل المكان أو من غابوا فيه وعاشوا بين أركانه وزواياه وأسراره وخفاياه وقصصه وحكاياه وتعقبوا وتقصوا عن رواده من العابرين والمقيمين، الساسة منهم والمبدعين، المفكرين منهم والأدباء والسينمائيين والمسرحيين..

هى مفازة سحرية شفيفة وملهمة، مرهقة وملغزة دخلتها الكاتبة والشاعرة والروائية والفنانة – ميسون صقر – بمحض حبها وارادتها، مفازة مفتوحة على التاريخ  كلما كشفت فيها عن سر تساقطت عليها أسرار وأسرار..  منذ عشر سنين وهى عاكفة على مشروعها الذى بدأ بحلم الكتابة عن مقهى ريش، وظلت تنقب وتصنف، تبوب وتجمع، الظاهر والمخفى من الوثائق والمكاتبات، الاعلانات والملصقات، الرسائل والتسجيلات، وبحثت داخل متاهات الكتب والصحف والدوريات، المنتظمة منها والمبتورة، المنقطعة منها والموصولة، فضاق الكتاب بالمقهى وحده وفتح أبواباً وراء أبواب لكل ما امتد اليه حبل القاهرة السرى وخرج من نيلها الرؤوم وتشكل ميداناً أو شارعا ًاو تمثالا ًأو بناية أو حديقة أو مقهى أو.. أو.. وكل من وجد فى مقهى ريش ظلاً للاقامة والحياة أو محفة عبور الى سر قاهرة المعز وشمس الخديوى التى لا تغيب..

وتحول المشروع من كتاب عن مقهى الى سفر عن القاهرة ومن نافذة مطلة  لى الميدان إلى نافذة مفتوحة على التاريخ وعموم الزمان والمكان.. وتحول الكتاب من رحلة إلى نبوئه وموعداً مع القدر اختار من أتت الى القاهرة فى مهد الروح من شارقة الإمارات الى قاهرة الستينيات من القرن الماضى وتشكلت من هوائها المعبق بكل فصول التاريخ ومن غبارها الداكن السحرى المنقوش بأواق من بردى الحكايات والأحداث… وطلت الكاتبة من نافذة المقهى الملهمة على التاريخ السابق للمكان وتحديداً  فصله المعنى والمُفصل للقاهرة الخديوية مع ومضات مقتضبة ومختصرة عن تاريخ المدينة فى عصورها القديمة وكأنها تأبى أن تغفل شيئا وتخشى أن تترك واردة أو شاردة حتى أنها أفردت صفحات من الكتاب لكل من صمم وبنى وشكل ونحت من المصممين والمعماريين والنحاتين من الأجانب والمصريين حتى لا تتبدد أسمائهم وتختفى فى زحام وضجيج العاصمة…

وبعين الفنانة العاشقة للمكان صممت غلاف الكتاب بعبق ولون مبانى وسط البلد القديمة وجاست منه بخفة الى روح القاهرة الخديوية مع صورة  فوتوغرافية قديمة لمقهى ريش تتوسط الغلاف الأمامى وفى الغلاف الخلفى توزعت امضاءات بلغات أجنبية تخص المكاتبات بين مستأجرى المقهى منذ الهنجارى ( المجرى ) شتيانبرج أول من دخل من باب المكان وهنرى بيير ريسنييه الذى وهب للمكان اسمه وروحه الفرنسية وحتى جورج واسيلى آخر المستأجرين الأجانب وكأنها خربشات على جدار الكتاب والمقهى والروح،  قبل أن يؤول المقهى الى المصريين ويتحول الى إرث من الزمن والتاريخ.. وحافظ التصميم الداخلى لصفحات الكتاب سواء فى توزيع وتعاقب الصور الضوئية التوثيقية أو فى تخطيط الصفحات وحجم الخطوط على الايقاع البصرى للكتاب الذى توافق مع الايقاع اللغوى للنص الذى انساب بسلاسة وتدفق  وكأن  الكاتبة طوعت وصاغت كل محتويات مادة الكتاب سواء التوثيقية أو التقريرية أو الفيلمية أو المسجلة بسياج سردى و سياق لغوى واحد…

 كل من عرف القاهرة ودخل من بابها العتيق دفعته روحه وقدماه إلى وسط البلد أوبمعنى  أوضح وأدق إلى القاهرة الخديوية وهى القاهرة التى بذر بذورها وحلم بها محمد على  ( 1805 – 1848 ) وكشف عنها نقابها وأقامها حفيده الخديوى اسماعيل ( 1863- 1879 ) ومن جاء بعده من ملوك وسلاطين.. وليس غريباً أن الحملة الفرنسية بنارها ونورها بمدافعها ومطابعها هى من جعلت المصريين يمهدون الطريق أمام محمد على للوصول إلى قلعة حكم مصر بعد أن توسموا فيه إرادة ورغبة  فى إعادتهم من جديد الى عقارب الزمن بعد أربعة قرون قضوها خارج التاريخ والحياة أثناء حكم العثمانيين ومن قبلهم المماليك، كذلك فان الروح الاوربية وبخاصة الفرنسية هى من ألهمت الخديوى اسماعيل باستجلاب المصمم الفرنسى الساحر داوسمان وتحويل القاهرة إلى درة من درر المدن الحديثة، والقاهرة الخديوية هى النسخة الأجمل من أى قاهرة سواء كانت القاهرة الأولى التى بناها جوهر الصقلى عام 969 ميلادية  أو – القاهرات – الأخرى إن جاز التعبير التى أتت قبلها أو بعدها..

وذلك راجع الى رغبة الخديوى اسماعيل الأكيدة فى تحديث القاهرة وافتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ وتدفق هجرات مطردة من كل بلاد البحر الابيض المتوسط من يونانيين وفرنسيين وايطاليين وقبارصة وأرمن مالطيين وشوام مما ساعد  فى ظهور عدة مدن ( كوزموبوليتانية) متعددة الثقافات فى القاهرة والاسكندرية والاسماعيلية وبورسعيد بل وصلت بعض الهجرات منها الى جنوب الوادى فى صعيد المنيا وأسيوط.. والمدن المتعددة الثقافات قباب سحرية لصناعة الحضارات وتغيير وجوه المدن من الركود والسكون والظلام الى السير بمحازاة الحياة وتدفق النور من الثقافات والشواطئ الأخرى.. وحين طلت الكاتبة على قاهرة الخديوى اسماعيل لم تغفل عينيها عن أى مكان فيها منذ لحظة تخطيط المدينة على رغبة – اسماعيل  – وعين – داوسمان –  ومن رحابها ولجت بنا الى فصولها المشوقة عن مقهى ريش الموضوع الرئيس والأصل للكتاب.. دخلت بنا  حدائقها: حديقة الحيوان والأورمان والأزبكية.. وميادينها: التحرير، الأوبرا، طلعت حرب.. وكباريها: كوبرى قصر النيل، الجلاء، امبابة، أبو العلا، عباس.. وتماثيلها: ابراهيم باشا، طلعت حرب، سليمان باشا الفرنساوى،  سعد زغلول، لاظ اوغلو، مصطفى كامل، محمد فريد، تمثال ميدان التحرير، النافورة والكعكة الحجرية.. ولم تغفل قصورها ومتاحفها.. دورها وسراياها.. شوارعها وعمائرها.. متتبعة بدقة الباحث وتمرس قصاصى الأثر كل ما حوته تلك الأماكن من تفاصيل معلنة ومخفية، واختارت من عمائر وسط البلد البديعة عمارات: صيدناوى، جروبى، بهلر، عمارة مقهى ريش، الايموبليا.. حتى تكتمل الصورة ويتثبت القلب والفؤاد من روح وتفاصيل المكان، ولم تتركنا الا بخاتمة بديعة تركت فيها الكتابة للمقالات والوثائق، فقرأنا معها عن القاهرة الخديوية من خلال عيون: جمال حمدان، صلاح عويس، ألبير قصيرى واستاذه بيار جازيو..  بل ووثقت اهتمام الجهاز القومى للتنسيق الحضارى بالقاهرة الخديوية ومحاولة اعادة احيائها عام 2009،  و تحدثت عن أراء بعض المفكرين المصريين: سيد كراوية، نبيل عبد الفتاح، عمادأبو غازى..  عن زمن الخديوى اسماعيل، وكما أسلفنا لم تؤثر الوثائق والمقالات والأراء فى تدفق سرد الكتاب وسلاسة لغته وكأن الكاتبة لا تختار من المادة  فقط ما يتناسب ويتوافق مع محتوى الكتاب لكن أيضا ما يجرى فى نفس مجرى النهر المنساب والمتدفق..ثم دخلت بنا فى فصل كامل عن المقاهى فى حاضرة القاهرة مفصلة فيه بداية ظهور المقاهى وتنوعها ما بين شعبى وافرنجى، وتخصيص العديد منها لأصحاب المهن والحرف وأصحاب العلة الواحدة كالخرس مثلاً ثم عرجت بخفة متناهية على أهم المقاهى الشعبية: الفيشاوى، قشتمر، البوستة، أبو شنب فضة، نوبار، التجارة، الكتب خانة، العالية، المضحكاتية، سى عبده، عرابى، اللواء، برنتانيا، كازبلانكا، الحرية، زهرة البستان، الندوة الثقافية، سوق الحميدية، شعبان، عكاشة، الفن، الأفندية، الأنجلو، البورصة، التكعيبة، غزال.. ومنها الى المقاهى الافرنجية: متانيا، الأمريكين، على بابا، ستوريل، الجوريون، وندسور.. وأسلمتنا – ميسون صقر – الى أهم فصول الكتاب من وجهة نظرى، بين مقهيين ( جروبى وريش ).. وكأنى به خاتمة السيموفونية الخامسة الانتصارى أو نشيد النصر كما يقول الفرنسيون خاصة أن المقهيين بُنيا بروح وطراز فرنسى، واستقرا المقهيان معاً فى وسط وقلب القاهرة وتحولا معاً الى البقعة الدافقة الحية النابضة بأحدث صيحات وتيارات التغيير فى الأدب والفن والثقافة وأحدث صيحات الموضة والطعام وطرق الطهى، وخرجت من أبوابهما جماهير الغاضبين فى الثورات والاضطرابات، ودارت على مقاعدهم اتفاقات الساسة وأجهزة المخابرات وبزغت فى رحابهما القصائد والقصص والروايات وأشهر الأفلام والمسرحيات  وعرف طريقهما المهاجرين الأجانب والأثرياء والأعيان وتغبش زجاجهما بأنفاس المشاهير من كل صنوف وأنواع البشر، وانتقلا بمصر من ثقافة القرون العتيقة الى لغة الحياة الجديدة أو كما قالت الكاتبة: هناك العديد من المقاهى والمطاعم أنشئت فى مطلع القرن العشرين فى مواقع مؤثرة ساهمت فى الانتقال بمصر الى الحداثة بكل ما تقتضيه من نهضة اقتصادية وصناعية ومجتمعية والانتقال بالقاهرة من القاهرة  العتيقة الى  قاهرة الحداثة والتنوير.. وبالانتقال الى فصول مقهى ريش دخلنا بيت الكتاب بكل شغف وتعرفنا من الكاتبة العاشقة للمقهى والقاهرة ومصر أدق التفاصيل الموثقة لنشأة المكان منذ قر قرار الخديوى اسماعيل برؤية من المهندس الفرنسى داوسمان باعادة تخطيط  الشوارع  حتى قررت ادارة التقسيم برئاسة دويدار باشا عام 1904  بإعادة تخطيط شارع سليمان باشا وبناء عددا من العمائر الأوربية بدلا من القصور ومنها قصر الأمير محمد على توفيق الذى انتقل بدوره الى قصر جديد فى المنيل وباع قصره القديم الذى قام مقامه عمارة مقهى ريش، وتتبعت الكاتبة دفتر أحوال مقهى ريش وأصحابه فيما لا يقل عن مئة وخمسين صفحة من صفحات الكتاب بحرص زائد فى التوثيق والفرز والتحليل لكل ما وصل الى يديها من مكاتبات ومحررات رسمية حيث خلصت الى بيع القصر فى المزاد وانتقال ملكيته الى أخرين على فترات متباعدة لكن أول من استئجر المقهى  كان الهنجارى ( المجرى) شتاينبرج ( 1908- 1913 ) وتبعه هنرى ريسينيه (  1914 – 1916 ) وهو كما أسلفنا من منح للمقهى اسمه وروحه وتركه لتجنيده ضمن صفوف القوات الفرنسية فى الحرب العالمية الاولى، ثم أتى بعده اليونانى مشيل بوليتيس ( 1916- 1932 ) وهو من دخل بالمقهى الى مرحلة جديدة بعد أن أضاف الى ساحته مسرحا للعروض الغنائية والمسرحية، ومن بعده جاء يونانى آخر يدعى واسيلى مانولاكيس ( 1932- 1942 ) ليكمل ما بدأه سلفه، وانتهى سجل المسأجرين الأجانب باليونانى الانجليزى جورج أفيانوس واسيلى ( 1942 – 1960 ) أما أول المستأجرين من المصريين وآخرهم أيضا فهو عبد الملاك ميخائيل ( 1962 – ) وما زالت عائلته تتوارث استئجار المقهى الشهير باعتباره ارث ثقافى وانسانى وبقعة من أهم وأجمل بقاع القاهرة التاريخية.. وأثناء قراءة صفحات الكتاب نتعرف على تاريخ المقهى صفحة وراء صفحة ونتوحد مع تفاصيله وحكايات أيامه: مع بداية الحرب العالمية الأولى ( 1914- 1918 ) جلس فيه المراسلون الأجانب يتابعون ويراقبون ويسترقون آخر آخبار وتحركات الجيوش خاصة أن أمامهم فى البناية المقابلة مقر القيادة العامة لهيئة الأركان دول المحوربقيادة الأمبراطورة البريطانية وحين شتعلت ثورة 1919 عقد الثوار اجتماعاتهم السرية بداخله بل إن محاولة اغتيال رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا ( 1919- 1920 ) انطلقت من حديقة المقهى الذى كان يجلس فيها عريان سعد منتظراً مرور موكبه.. وعرف الطريق إلي أبوابه الضباط الأحرار قبيل ثورة يوليو كما مهدا الرئيس العراقى صدام حسين وزعيم الثورة اليمنية عبد الله السلال لثورتيهما من على مقاعده..

وظل المقهى طوال الستينات والسبعينيات قلب اللهب لأهل الفكر والأدب والسياسة لدرجة أن الراحل يوسف ادريس خرج منه فى تظاهرة كبرى بعد إبرام السادات لمعاهدة كامب ديفيد، وخلال ثورتى 25 يناير و30 يونيو واتخذه شباب المثقفين والاعلاميين مقراً لهم بسبب قربه من ميدان التحرير وكأن التاريخ على صداقة دائمة معه..

فى الداخل تشعر وتسمع وتحس بأرواح عظيمة تُعبق سماء المكان :  طه حسين، نجيب محفوظ، يحيى حقى، فكرى أباظة، لويس عوض، رمسيس يونان، أحمد رامى، محمد الفيتورى، أمل دنقل، عبد الرحمن الأبنودى، يحيى الطاهر عبد الله، نجيب سرور، سيد حجاب، ادوارد الخراط،، ابراهيم فتحى..  كذلك خرجت من بين جنباته اصدارت ودوريات ثقافية شكلت الوعى المصرى منها: الكاتب المصرى، المجلة، جاليرى68..  وعلى جوانب أرصفته انعقدت الامسيات الشعرية والندوات الثقافية وأهمها وأشهرها ندوة نجيب محفوظ التى خرج من أوار مناقشاتها أهم كتاب  جيل الستينيات : جمال الغيطانى، يوسف القعيد، ابراهيم أصلان، صنع الله ابراهيم..

وعلى طاولاته  ومناضده كتب الشاعر العراقى الكبير الوهاب البياتى أهم  قصائده، وكتب الشاعر والمسرحى نجيب سرور برتوكولات حكماء ريش، وكتب نجم قصيدته الشهيرة التحالف ( يعيش المثقف على مقهى ريش ).. وعلى مسرحه غنى كل من: أم كلثوم، منيرة المهدية، صالح عبد الحى، زكى مراد، عزيز عيد، الشيخ أبو العلا محمد.. وفى أروقته تم الاتفاق على انشاء أول نقابة للموسيقيين فى العالم العربى.. وشهد مسرحه عروض وكواليس مسرحيات عديدة لعزيز عيد وفاطمة رشدى وروزاليوسف ومحمد عبد القدوس الذى بدأت قصة حبه مع روز اليوسف فوق خشبته.. وبين رحابه عرف الحب بوادره واشتعاله بين أمل دنقل وعبلة الروينى، وعبد الرحمن الأبنودى وعطيات الأبنودى، وصافيناز كاظم وأحمد فؤاد نجم…

لم يكن مقهى ريش مجرد مقهى للقاء الساسة والمثقفين بل نافذة على تاريخ مصر، ولم تكن مؤلفة الكتاب مجرد شاعرة وفنانة كبيرة وقعت فى غرام المكان بل عاشقة أبدية للروح والتاريخ و الهوية المصرية..  

……………….

*كاتب وشاعر ومحرر ثقافى حر

مقالات من نفس القسم