قَدَم عازِفة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسام المقدم 

  هو، “أشرف” خميرة الغَم، مَن أفسدَ اللحظة.            

  الدنيا كانت حلوة. قُبلات تُفرقع على الخدود، وأياد مشدودة بسلامات عفيّة. موسيقى عالية لأغنية قديمة حماسية، تستثير حتى تراب الأرض الذي انتفض وداخ في دوّامات مُتلاحقة. صحيح أنها دوامات قصيرة العمر، لكنها صنعت صخبا طبيعيا خافتا بجوار الصخب الآخر المُبهج. كنّا على الترابيزة خارج المقهى، ملسوعين بالأغاني والحشد ومُكبّر الصوت الدعائي. كل الجالسين في الداخل قاموا ووقفوا حولنا في سور بشري سدَّ المدخل. وحده “أشرف” بصمته المعتاد وتقطيبة جبينه، والجميع يرشقون عيونهم في الوجه الساطع بالعَرَق للمُرشَّح القادم نحونا. سينتهي من السلام على باعة الفاكهة، ثم يهلُّ علينا. مشهد مألوف اعتدناه طوال عمرنا، سيمرُّ بسلام اليد ودعوات التوفيق، ثم الغياب في حسابات المكسب والخسارة لهذا أو ذاك. وقد يتضمن كلاما من قبيل: شكله أكبر من صورته في التليفزيون، أو إنّه أسمر وليس أبيض. ما الجديد غير ساعة حلوة وكلام مشدود لا نجده إلا في أوقات مشاهدة المباريات! الجديد هو أشرف مِنه لله.

  لم ننتبه حين وضع رِجلا على رِجل، وانحنى ليربط الحذاء. أخرجَ منديلا ورقيا ومسح الظاهر غير اللامع. رأيناه يُثنِي قدمه على الكرسي تحت فخذه. في وضعية جديدة وجدناه تَربَّعَ تماما. نظرنا إليه وقُلنا إنّه حجر المعسّل المُعمّر والدماغ العالية. وحين شعلقَ ساقه على حافة الترابيزة وراح يهزها؛ كان المُرشّح على شفا مترين منّا. وقفنا وتقدمنا خطوة للسلام. شدّت اليد على أيدينا واحدا واحدا، حتى أفاقتْ وجوهنا وعدّلت نفسها في لمحة من ابتسام إلى ذهول! هناك دائما مَن لا يتركك ساهما في عالمك، فتجده ينادي عليك فجأة فتلتفت ملدوغا، مَن يوقظك من نومَة هنئية بهزّات غشيمة في جسدك. أوقفَ “أشرف” الزمن، وثبَّتَ  كاميرا الحَشد على قدمه الممدودة على الترابيزة. العيون هرولتْ مرّات ومرّات ما بين وجهه المحايد الناظر إلى لا شيء، وقدمه المطروحة بميْل، مرورا بجسده المُرتخي المُتقوِّس. ربما يفعلها ويرفع الأخرى الملتوية تحت الكرسي. قلة أدب! عيوننا تنطق بذلك قبل عيونهم، بل قبل عين المُرشّح نفسه الذي لم تزل ابتسامته مُصرّة على الوجود. الحذاء يلمع! هل كان هكذا وهو جالس معنا، أم أنه الضوء الذي تركَّزَ كله وسطعَ على الجلد الأسود القديم؟ في تلك اللحظة الجامدة، بدا أشرف مثل كائن غريب تتفحصه عيون مستطلعة، مُستاءة، ساخرة، نافرة، متأهّبة لفض هذا الوضع وقلب كل شيء لتمشي الأمور ويواصل الحشد طريقه. الأفضل أن يأتي التصرف منّا قبل أن يأتي منهم. لماذا تأخّرَ أحدنا في أن يلكزه ليعدل من نفسه؟ وهل أتت الفكرة على بالنا؟ ماذا لو كان أحدهم سبقنا وفعلها معه بشكل آخر؟ يبدو كما لو أنه فقد الصِّلة بقدمه، انفصلتْ عنه في هزات خفيفة واختلاجات في مقدمة الحذاء، في حين كان الجسد كله ساكنا في شبه غفلة. هل كانت القَدم على تواصل باللحن الحماسي الثائر في الآذان؟ نعرف أنه يحب هذه الأغاني، ويُدندن بها في لحظات التّجلّي، لكن أي كائن هذا الذي تأتيه مثل تلك اللحظة في هذه الظروف! لقد وصل في شدّ أنفاس الحَجر حتى نهاية النهاية. تركه مُطفأ راكدا يتطاير رماده الذائب. هذا يعني أنه كان من المستحيل إخراجه من حالته إلا بصعقة تنزل علينا كلنا.

  على أحرّ من الجَمر، مشت الثواني. مدّ المُرشح يده، بابتسامة لم تنقص ملليمترا واحدا، نحو أشرف الغائب. لم يأخذ الأمر وقتا يُذكر لا بالثانية ولا غيرها. التحمتْ اليد في أياد أخرى للجموع التي زحفت ببطء ونحن من خلفهم، على وقع الجو الفائر بالأصوات والأضواء والوجوه المُتورّدة. رجعنا بعد قليل لأشرف. ما زال في مكانه رغم كل شيء! ماذا نفعل مع هذا الشخص؟ وجدنا رأسه قد غفا فوق صدره، وقدميه متعانقتين في استرخاء على الترابيزة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري

مقالات من نفس القسم