الخروج من الظل

أسامة كمال أبوزيد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة كمال

عرفته قبل ثلاثين عاماً.. كلما بدأ عملاً لا ينتهى منه أبداً ويقف عند منتصف الطريق أو حتى فى أوله .. كلما أمسك بسر روحه وسحر موهبته لا يلبث أن يعود من جديد وكأنه لم يبدأ من الأصل .. قال لى : حاولت سنوات وراء سنوات أن أتجاوز تلك المفازة المظلمة من روحى ولم أستطع  .. كنت طفلاً خجولاً منطوياً غارقاً فى ذاته  .. المرة الوحيدة التى تجاوزت فيها الحدود وتعديت الخطوط تجرأت مدفوعاً بدفقة جرأة من طفلين فى مثل عمرى .. – تشعلقنا – خلف حنطور من الحناطير القديمة التى كانت تسرى فى المدينة كقباب من الأحلام البعيدة .. رأيت العالم  يتتابع  خلفى وأنا سيد الحياة السائر داخل الأحلام ولم أخف من لسعات الكرباج المتتابعة على فترات منتظمة من سائق الحنطور للخلف وهى تخبط أعلى رؤوسنا دون أى اذى وكأنه يرسل لنا رسائل تحذير أبوية خفيضة .. فى ذروة دهشتنا وانتقالنا من مكان إلى مكان .. قال أحدنا .. ربما أنا أو أحدهما .. غاب أصل الصوت فى سماء الذاكرة وسحر الحكاية.. قال لنا فى صوت منغوم : البحر .. لم يكن البحر مجرد كلمة تخرج من الأفواه بل باب الدخول الى غواية الدهشة وسدرة منتهى الاحلام  .. نزلنا من الحنطور على وقع سحر الكلمة .. رأينا البحر حلماً ينتظرنا .. وكأننا رسل أتوه من أرض الخوف إلى رحابة حريته ولمعة مائه .. كان الوقت خريفياً .. لم يكن غيرنا على الشاطىء .. خلعنا ملابسنا ودسسناها فى الرمل كخبايا وأسرار حياتنا ..

تركنا البحر نعتلى مائه وكأنه يستمرئ بهجتنا ويشاركنا فيها.. كانت الفرحة تعلو مع  كل موجة وتغمر قلوبنا الصغيرة .. فرحة ممزوجة بغبشة الماء وملوحته وبشهوة ارتفاع الموج أعلى من أرواحنا وبنشوة الانفلات منه إلى صفحة الماء الصافية من جديد .. و نزلت البهجة فى أجسادنا الصغيرة كسلسال صاف من طعم ورائحة من السحر الخالص المجرد التى تقضى عمرك كله بعد ذلك تنقب عنه ولا تجده أو تمسكه أبداً أو حتى تستعيده بنفس بكارته الأولى .. وحين خرجنا من بهجة الماء عدنا الى ملابسنا .. ولست أدرى إلى الآن ما الذى دفعنا إلى غسل ملابسنا بماء البحر .. ربما تخيلنا أنها فصل أصيل من فصول الدهشة أو حتى لا يتشمم أحد رائحة البحر فى أرواحنا أو رغبة منا فى مشاركتها بهجتنا أوربما خوفاً من أمهات يعاقبن أطفالهن على أهن الهنات حتى لو كانت اتساخ ملابسهم بالرمل  .. ربما .. ربما .. دخلنا الماء وعدنا بدونها .. نعم عدنا بدونها .. وعاش ثلاثتنا الرعب ولم نعد الى البيت وتنقلنا بين الطرقات والشوارع القريبة من البحر بما تبقى لنا من ملابس ولم يكن الامر غريباً أو مريباً لمن يرانا .. يبدو أنه كان أمراً معتاداً ومألوفاً لأهل المدينة بسبب نزق الصبية الصغار الدائم مع البحر .. تأخر الوقت ودخل الليل .. دخلنا نختبىء من خوفنا فى  حديقة مجاورة لمحطة قطار المدينة .. انتقينا أحد زوايا الحديقة الجانبية وحاولنا النوم .. لم نستطع .. الحديقة تغث ببشر جلبهم القطار وغاب مع غيابهم  فى الزمن البعيد .. كانت أعين ثلاثتنا المتجاورة تتابع برهبة وشغف الضوء المنبعث جوارنا من مبنى عال يجلس فى وهج ضوئه شرطي بملابس بيضاء ناصعة من الانوار المنعكسة حوله.. عرفنا بعد ذلك أنه شرطى مرور السيارات التى لم تتوقف عن الحركة فى مدينة تعيش ليلها كنهارها دون انقطاع  .. شعرنا بالبرد والخوف والرهبة من نباح الكلاب والعيون المتلصصة من الشارع المجاور للحديقة  .. لم يكن من حل سوى العودة للبيت .. كان الظلام موجات من الصمت تدق على قلوبنا بالترقب والخوف .. على مشارف حارتنا تجلى النهار فجأة برغم أن أوانه لم يحن بعد .. كل من فى الشارع وربما الشوارع المجاورة كان ينتظرنا .. لم تعرف عيونهم النوم وثلاثة أطفال غائبين خلف سحائب الظنون بالتوهة والغرق والخطف .. كل الامهات كن جازعات مهمومات حاسرى الرؤوس والأباء يخفون هلعهم فى أحاديث مبهمة لطرد الهواجس من القلوب .. عدنا ودخلنا بيوتنا تحت محفة ودفء أصواتهم المُحبة التى لم نسمعها أو حتى نحاول فك همهماتها  .. كنا غائبين فى برد خوفنا وفزعنا .. دخلنا بيوتنا مرعوبين .. بعدها ساد الصمت والهدوء وأظلمت كل شرفات الشارع إلا ثلاثة شرفات خشبية … صرخ الثلاثة أطفال وكأنهم يصرخون صرخة واحدة ممتدة من هول العقاب.. بعدها امتزجت وارتبطت داخلى نشوة البهحة بالخوف الدائم من زوالها وافتقادها وتلازم معها الاحساس بلذة داخلية غير معلومة أقرب الى انتشاء الجسد فى متعة سرية ومجهولة .. فى سن الثانية عشرة أو حين كنت فى الصف الثانى الاعدادى بأحد مدارس الدولة الفقيرة .. جلست بجوار طالب كان يتعمد ايذاء أقرانه بأى شكل بدءًا من المناكفة إلى الضرب إلى سرقة الأدوات المدرسية الى الوقيعة بينهم وكان لديه احساس طاغ بأهميته وحقه فى كل شىء حوله  .. كل ما أتذكره حينها اننى تفوقت تفوقاً غير عادى فى مادة الرياضيات وتحصلت على الدرجة النهائية مع ثلاثة طلاب آخرين لم يكن هو من بينهم .. وكان تفوقى فى المادة غير متوقع مثل الثلاثة الاخرين .. كان مدرس الرياضيات حينها شاباً فى مقتبل الحياة وكان فصلنا أول الفصول التى درّس لها بعد تخرجه مباشرة وكان لديه مخزون حقيقى من المحبة للبشر والايمان بأفكار مثالية عن الوطن والأخلاق والحياة .. ربما تسربت اليه فى طفولته وصباه عبر المنشورات الاعلامية من الجرائد الحكومية الثلاثة ومن الاذاعة بمحطاتها المعروفة والتلفاز بقناتيه الأولى والثانية المحدودتين بحدود بثهما حتى منتصف الليل.. وهى وسائل الاعلام التى حافظت لفترة طويلة على السياج الروحى العام المنضبط لأخلاق وأحلام الشعب العامل والخامل خاصة لمن هم مستعدون للإيمان بها والدفاع عنها كاستاذ الرياضيات .. وفى أحد الأيام ودون سابق توقع اشتكى اليه الطالب الأول على الفصل من ضياع كتاب الهندسة الخاص به وحين لم يجدوه فى أى مكان قرر الاستاذ البحث عنه فى حقائب التلاميذ .. لست أدرى الى الآن ما الذى دفعنى للاحساس بان هناك من دس الكتاب فى حقييتى خاصة أن لمعة عين زميلى المناكف المؤذى كانت مزيجاً من  اللذة والخوف والعطف وتأنيب الذات، وصدق حدسى وقضيت الفترة التى نقب فيها استاذ الرياضيات عن الكتاب فى خوف معتم وكئيب، وقبل ان يقترب دورى فى رحلة البحث المُرهقة أصابنى ذلك الانتشاء المجهول فى الجسد الذى تشعر معه بذروة مجهولة تنزل على أثرها قطرات محدودة جداً من ماء مجهول لطفل لم يبلغ بعد .. كنت فى هلع من الاتهام الظالم من استاذى المفضل والمحبوب ودسست الكتاب فى الدرج أمامى وأفلت من الاتهام ولم أكن من الجرأة كى أقف وأقول أن أحدهم دس الكتاب فى حقيبتى .. الغريب أن زميل المقعد الدراسى – التخته – المؤذى زال عن عينيه نظرات الهم والخوف بعد أن نجحت من الافلات من مكيدته .. عرفت بعدها بسنوات أن ذلك الزميل كان الابن الوحيد لزوجة ثانية تزوجها أبوه فى نزوة عابرة وتركها هى وابنها وعاد الى زوجته الاولى تاركاً نتوءات روحية ونفسية  داخل الطفل منها محاولة ايذائه لكل من حوله من الكائنات لأنه لم يشعر يوماً بحنو والده أو المحيطين به .. لم يتوقف الأمرعند هذا الحد، عدت بالكتاب الى البيت ولم أخبر أحداً بما حدث وما إن فتحت الكتاب حتى هالنى ما وجدت  .. رأيت صور قديسين وأيقونات مسيحية بين ثنايا الكتاب .. من رهبتى وخوفى من الصور ألقيت بالكتاب خلف سور المدرسة المجاورة لبيتنا .. حينها كنت أفزع من رؤية الصور والتماثيل المسيحية خاصة تمثال المسيح المصلوب على بوابة احدى الكنائس الايطالية التى تركها أهلها وغادروا مدينتنا وترك المصريون الكنيسة تعيش فى ظلام تام حتى من أعمدة الشوارع المحيطة بها مما زاد من رهبة وفزع المارة من تمثال المسيح المصلوب وكأنه عالم مخيف مغلق على ذاته .. وانتابتنى نفس الحالة غير المبررة ونتج عنها كالعادة نقطتى ماء مجهولتين ممزوجتين بنشوة مجهولة .. ولم أتجاوز رهبتى وخوفى من التماثيل والأيقونات الكنسية الا بعد سنوات بعد أن تجول عقلى فى حدائق الكتب وزال الظلام الذى يكتنف شارع المسيح المسلوب من روحى وتحولت التماثيل والأيقونات الى تشكيل فنى بديع له خصوصيته فى الحضارة المصرية مثله مثل الآثار المصرية القديمة والمنمنمات والمخطوطات الاسلامية وبدائع الخط العربى عبر السنين …

بعدها بسنوات وأنا فى ذروة مرحلة المراهقة كان كل من حولى يتحدثون عن العادة السرية برهبة وخوف وفخر .. الخوف من عواقبها الدينية والاخلاقية والفخر بعبورهم من نزق الطفولة البرىء والمجرد الى نشوة وشهوة الكبار السرية .. على عكس أقرانى لم أعرفها او أمارسها الا متاخراً بسبب السياج الوهمى الذى سجنت فيه نفسى خلال فترة الطفولة حتى اقتربت من فتاة فى مثل عمرى وبادلتنى حبا بحب فانداح داخلى ذلك البريق المدهش للذة والنشوة .. واختفت الفتاة واختفى معها ذلك البريق المستحيل .. ظللت لفترة أفتش عن بريق ونشوة بديلة ولم أستطع خًاصة اننى أعيش داخل نفسى وقتاً أطول مما أعيش مع الاخرين حتى شاهدت فيلما لفنانة الاغراء الاولى وقتها .. ومن فيلم الى فيلم .. ومن فنانة اغراء إلى أخرى .. امتلأت روحى بلمعة تلك النشوة المستحيلة .. و صارت مزيجاً من النشوة والخوف  والرهبة.. الخوف الذى يجعلك تمارسها وحيداً دون أن يراك أحد مستمداً نشوتك من خيالك الممزوج برهبتك ..

بعدها بسنوات دخلتنى عوالم الكتابة بأحصنتها الجامحة واستسلمت روحى لغواية الادب، كتبت نصوصاً لا اعرف لها تصنيفاً أو تبويباً .. عابرة للنوع .. فى منطقة الأعراف بين طريق القصيدة وطرائق السرد … سبقتنى الحروف على الورق كقطرات مطر متدفقة دون توقف .. لملمت ما كتبت وأرسلته عبر البريد قبل أن يتحول الى أثر من أثار أيامنا .. أرسلته الى الناقد الأكبر والأشهر حينها.. كنت استشعر فى قلبى برسالة ما فى السماء .. وبالفعل جاء رد الخطاب بخطاب أجمل منه وعمدّنى الناقد الكبير كاتباً مهماً ومختلفاً بل وطلب لقائى لمساعدتى فى النشر .. المدهش اننى مع قراءة  خطابه غرقت مرة اخرى فى ذاتى ومارست استمنائى وانتشيت بضعفى .. لست أدرى لماذا مارست استمنائى ساعتها .. ربما غرقا ً فى  ذاتى المهدرة والمنسية .. ربما هروباً من غواية الكتابة … ربما خوفاً من مستقبل لم يلح فيه أى أمل  .. ربما .. ربما .. هربت فى الاستمناء ولم أحاول ان أكون صاحب الفعل ..  صاحب القرار .. وأخرج من ذاتى وظلى إلى واقع فياض وحقيقي..

حتى بعد أن عثرت على عمل .. كل من حولى اتهمونى بأننى أسعى إلى البقاء فى الظل ولا أحب ضوء المشهد برغم ان قدراتى  تفوقهم  .. لم أهتم وظللت أسير ذاتى وحبيس احلامى المهدرة حتى عندما تتاح لى الفرصة فى التحقق أهرب وأخاف منها وكأنها لا تخصنى وأبحث بعد ذلك عن فرص أقل وكأننى خلقت للظل ولا أرضى بغيره بديل… حتى فى اختيارى لأصدقائى كنت أقترب دون شعور منى من شخصيات تنقب عن  الهروب من الواقع والتشبث بأحلام  مستحيلة أو ميتة أو شخصيات تستمرىء الأحلام ولا تتحرك خطوة واحدة لتحقيقها حتى تهرم الأحلام  وتصير أوهاماً بلا معنى أو طائل  … حتى السياسة تتوق نفسى الى العدل والحرية والعدالة بين البشر وأنحاز دوماً الى الأقليات والمهمشين وكأن روحى تنقب عن هزائمها وتختار أن تحتمى بوحدتها وعزلتها فى النهاية، فكل ما حلمت به تحول سراباً مع الوقت ولم يبق تحت مظلته الروحية سوى المهزومين والحالمين …أما زلت تذكر يوم أن شاهدنا سويا فيلم التحويلة والذى يحكى عن ضابط سادى فاسد هرب منه أحد المعتقلين فقبض على عامل التحويلة القبطى المهمش البرىء بدلاً منه وحين عرف أحد الضباط الشرفاء بالجريمة دافع عن العامل المظلوم وحاول اخراجه لكنه وجد نفسه فى النهاية سجينا ًمعه فاتخذ موقفاً ووحد بين المعتقلين لمواجهة الظلم، فتم قتله بدم بارد هو وعامل التحويلة الذى حاول انقاذه من القتل … أتذكر حين كوّم الممثل العبقرى – نجاح الموجى – جسده على شكل بيضة وكأنه يعود إلى نقطة البدء الى رحم أمه من هول الظلم الواقع عليه .. أتذكر .. أننى بكيت كما لم أبك من قبل، وجدت دموعى تنداح من روحى ممزوجة بكل محاولاتى الخروج من تلك المفازة المظلمة .. الخروج من الظل الواهن إلى الضوء والفعل والحلم ..  لم يعد اختبائى فى استمناء الاحلام سوى خوف غريزى لم أستطع الخروج منه ..  الخروج من الظل المعتم الواهن الضيق يحتاج إلى فتح أبواب الدنيا على الشمس وألا ترهب أو تخاف من الضوء بل اجعله ظلاً آخر من ظلالك…

تركت صديقى والمطر ينزل بغزارة والشوارع غارقة فى المياه والأبواب مغلقة على أصحابها والشرفات موصدة حتى يتسرب الدفء الى النائمين الملتحفين من البرد والخوف أمام التلفاز، لكن كان هناك  شخص واحد ترك كل شىء ونزل بكامل ملابسه الى البحر دون خوف من أى شىء..

مقالات من نفس القسم